رحل يوسف شاهين والحدوتة مازالت ناقصة: السينما العربية تفقد مشاغبها ومشاكسها وأحد ابرز وجوهها في الإخراج
ريما المسمار
يترك الموت وجهاً أخيراً للحياة يختزل الميت وذكراه. وجه يوسف شاهين كان اول ما أستعدته بعيد نشر خبر وفاته ظهر أمس. ربما لأن لوجهه خصوصية في التركيب والملامح وبعض التفاصيل الذي لم يتبدل كثيراً خلال سنوات عمره. وربما لأنني غالباً ما التقيته ضاحكاً او متخمساً او ثائراً بما هي مشاعر حدية تبرز ملامح الوجه أكثر. ولكن أكثر ما أراه الآن في مخيلتي هو ذلك الوجه الساخر ربما لأنه يتسق مع لحظة الموت هذه. أستعيد وجهه إذ يسخر بود من مساعده الشاب الذي رافقه غير مرة الى بيروت في السنوات الأخيرة وكأن وظيفته الاولى كانت منعه من التدخين. يمسك ـ اي الشاب ـ بعلبة السجائر بين يديه كأنها قنبلة موقوتة لا يسمح لأحد لاسيما شاهين بلمسها لكأن سوء استخدامها قد يعرض الجميع الى خطر انفجارها. وحده يدرك بايقاعه الداخلي متى يسحب سيجارة ويعطيها لشاهين بصرف النظر عن الحاح الاخير الذي اتخيله ان أمسك بالعلبة فسيشعلها كاملة في فمه. أتخيل الآن ان سخرية شاهين واستسلامه لقرارات من حوله بتقنين عدد السجائر كانا نابعين من إحساس بأن ما من فائدة من كل ذلك. القلب كان دائماً نقطة ضعف شاهين ولكن الموت أصابه في الرأس. انها سخرية الحياة والموت إذ ما إن يتوصل الانسان الى فهم أحد وجوههما حتى يعيدا تشكيله من جديد ساخرين من كل محاولة لفهمهما او وضعهما في اطار المنطق.
قرابة الشهر ونصف الشهر قضاها يوسف شاهين في غيبوبة لا يستطيع انسان ان يتنبأ بما كان يراه خلالها او يشعر به. فتلك حالة عصية على الفهم على الرغم من كل التفسيرات الطبية التي تشرّحها بلغة ومفردات لا تقترب بأي حال من الاحوال من الحقيقة الانسانية. فالكلام على جسد مستغرق في سبات عميق يؤدي وظائفه الكاملة غير محسوس ولا يمكن ترجمته بفهم فعلي لمعانيه او الأحرى لمفاعيله. ولكننا نفهمه من خلال ما لا يعنيه. اي ان الكلام الذي نُقل عن مقربين منه قبل وفاته ظهر أمس من انه كان يُظهر في الايام الاخيرة اشارات تدل على قدرته على السمع يعني انه قبل ذلك لم يكن يرتبط بالعالم من حوله بحاسة السمع وبطبيعة الحال كان معزولاً عنه بعدم قدزته على الكلام. ولكن لهذه الحقيقة دلالات أخرى ربما لا تذهب أبعد من الاعتقادات الشعبية الموروثة او الماورائية من ان يقظة غالباً ما تسبق الموت. فماذا سمع شاهين في ايامه الاخيرة؟ وهل يمكن الذهاب الى حد قول ان سنواته الاخيرة كانت برمتها يقظة ما قبل الموت؟ لقد كان السينمائي ومن دون شك يعيش هاجس الموت منذ سنوات. مازالت كلمته ترن في أذني “الموت في أثري” قالها بعيد تكريمه وعرض فيلمه “سكوت حنصور” في مهرجان البندقية العام 2001 بعد ان كان قد تعرض لنكسة صحية ابان تصوير الفيلم. على أثرها، أعلن انه في صدد التحضير لثلاثية جديدة في عنوان “الرغبة في الحياة” لاعتقاده بأنه لولا تمسكه بالحياة لمات قبل ذلك عدة مرات. ولعل ذلك ما صالحه مع كثيرين من محاربيه ومنتقديه خلال العقد الاخير او أكثر بقليل ممن رموا أسلحة التشهير وحتى مع مقدسيه ممن وضعوا جانباً رايات التهليل لتطفو على السطح صورة شاهين الذي لا يتوقف عن العمل ويسابق الزمن ليدلو بدلوه في كل قضية عامة وان بخطاب شبه معروف. غير انه أثار إعجاب كثيرين بقدرته على العمل المتواصل وقد تجاوز العقد السابع وبحيويته وحماسته في ما لم تشهده السينما العربية من قبل.
بعيداً من الوقوع في قسوة التعبير او صلافته، تبدو لي ميتة شاهين تلك متأثراً بجلطة دماغية أصابته في الرابع عشر من حزيران/ يونيو الفائت ميتة تختصر ماهية حياته ومسيرته السينمائية في شكل رمزي عميق. العقل كان دوماً موضع القلق في حياة شاهين ومنبع سينماه التي لم تكن سوى مرآة لتقلباته الفكرية وتواتر حالاته الذهنية وتبدل مواقفه السياسية. ولعل تلك التحولات الفكرية والسياسية هي التي صنعت اشكالية شاهين بين النقاد والجمهور على مدى نحو ستة عقود من العمل السينمائي أكثر من مغامراته الاسلوبية في السينما. ذلك ان سيرة شاهين الحياتية تملك من التناقضات والغموض والتحولات ما يجعلها مثيرة من أكثر من زاوية وربما أحبها الى قلب المحللين تلك الزاوية التي يمكن من خلالها ان نطل على سينماه.
شاهين اليوم، او الأحرى الذي غاب في الامس، الذي سيسيل الحبر في استذكار مسيرته ومراجعة محطاتها هو اشهر مخرج مصري وعربي. تحول مخرجاً/نجماً عندما حقق نقلة نوعية فى التعامل مع السينما حيث بدأت تنسب الى المخرج وليس الى النجم وحاز”العالمية” كما يحلو لكثيرين القول من خلال اعتراف المهرجانات الكبرى به وآخرها التكريم الذي حازه العام 1998 في خمسينية مهرجان كان السينمائي. ولعل من مفارقات ذلك ان الذين يعرفونه في العالم العربي يفوق عددهم الذين شاهدوا أفلامه. وأولئك يعرفونه من خلال “الصورة” التي تم اختصاره بها وهي صورة تقوم على حدين: إما التهليل وإما “التكفير” وفي حدها الوسطي تختزله بالمخرج “المتحذلق”. واذا كانت علاقة شاهين بالسينما قامت على كل تلك التحولات فإنها ايضاً خرجت من علاقة جدلية مع نشأته ومحيطه وانتقلت الى السينما في شكل تجاذبات حادة في بداياته تحت راية صفات من نوع “المتمرد” و”المشاكس” والقادر دوماً على إثارة المفاجآت.
الحياة الاولى
ولد يوسف شاهين في السادس والعشرين من كانون الثاني/يناير العام 1926 في مدينة الاسكندرية من عائلة مهاجرة، ترك أجدادها بلدة “زحلة” اللبنانية وابحروا الى الاسكندرية الكوزموبوليتية في ذلك الحين. طغى على سكان الاسكندرية وقتذاك وجود “الخواجات” فامتزجت الثقافات والافكار وتصارعت الرغبات في ملعب الطموح السياسي والمالي.. بينهم عاش يوسف، نصف خواجة بامكانات مالية شحيحة وعناد شخصى لا حدود له. كان والده محامياً يحلم بأن يحذو ابنه حذوه ويرتقي درجة في سلم البورجوازية.
كان الشاب مرتبكاً دائما ويتكلم بسرعة لكى لا يلحظ احد توتراته الداخلية. ظل اسير رغبات العائلة واحلامها بالصعود جاهداً في محاولات اقناع المحيط الغريب من حوله بقبوله. هو الفقير بين ارستقراطية الاسكندرية فى مدرسة فيكتوريا كوليدج ( تخرج منها ملوك وتجار و نجوم، من الملك حسين الى ادوارد سعيد مرورا بعمر الشريف). احلامه كبيرة. متعثرة. لايقدر على شراء بدلة على الموضة ولا حذاء ابيض. يملك فقط خفة الدم ومهارة الرقص. تلك كانت ادواته فى لفت الانتباه وسط محيط الاغنياء المتعجرفين. والحكايات كثيرة عن المواقف التي تعرض لها في محيطه الطبقي ذاك، تذكر بأفلام عبد الحليم حافظ التي لعب فيها غالباً دور الشاب الفقير الذي يريد ولوج مجتمع الاثرياء ومنها انه في احدى المرات كان مدعواً الى حفلة ولكنه لم يستطع الذهاب لان الاختيار كان اما ان يشترى بدلة او أن تشترى اخته فستانا جديدا.
تركت تلك الحكايات أثرها في شاهين وبدا واضحاً انه بذكائه الاجتماعي كان جاهزاً ليتلقف فرصة الصعود البديلة. وتلك تمثلت في الفن والحادثة الشهيرة تروي انه وقف امام صفٍّ من ثلاثين طالباً والقى مونولوغ الملك “ريتشارد الثانى”احد ابطال تراجيديا شكسبير فى لحظة حُكم على الملك فيها بالتنازل عن كل شىء. لعب الشاب بكل اعصابه للسيطرة على المشاعر الهائجة والساخطة وانهى المشهد بدموع ساخنة فاستقبله زملاءه بتصفيق حاد وهو المشهد الذي سيجسده بشكل او بآخر في فيلم السيرة الذاتية الاخير “اسكندرية نيويورك”.
يومها اكتشف الفن وسيلة لاثبات الوجود و اكتشف تأثير المسرح الذي سيظهر في سينماه الاولى خلال الخمسينات. كما اكتشف شكسبير. هكذا تحول الحلم من الارتقاء البطيء في الطبقة البورجوازية عن طريق الوظيفة الثابتة الى التمثيل والنجومية. وهنا استنفرت العائلة كل طاقاتها المالية فباعوا قطعاً من الاثاث والبيانو لكي يركب الشاب الطموح السفينة الى “باسادينا” الاميركية.
الحياة الثانية
في باسادينا، اكتشف انه لا يصلح للتمثيل. ولكنه درس الاخراج وعاد الى مصر التي يحب ان يشبه عودته اليها بعودة بطل فيلمه “ابن النيل” المغامر الذى اكتشف وجه المدينة الشرير وعاد ليبحث عن تحقق فى الريف. هو عاد ليكون مخرجا مصرياً. بعيد عودته، قابل المصور الايطالى الفيزى اورفانيللى الذى فتح الباب امام اول تجربة له :””بابا امين” ليصبح مخرجاً وهو لما يتجاوز الثالثة والعشرين. بعد الفيلم الاول في العام 1950، توالت افلام عقد الخمسينات كالتالي: “ابن النيل” (1951)، “المهرج الكبير” و”سيدة القطار” (1952)، “نساء بلا رجال” (1953)، “صراع في الوادي” و”شيطان الصحراء” (1954)، “صراع في الميناء” (1956)، “انت حبيبي” و”ودعت حبك” (1957). عن تلك المرحلة وافلامها يقول في حوار خاص (نُشر في جريدة المستقبل): “بابا امين” فيلم عن والدي الذي لم يعرف كيف يتصرف بالمال برغم انه كان محامياً. مع فريد الاطرش “انت حبيبي” اقول انه كان عملاً من اجل المال ولكن ذلك لا يمنعني من القول ان فريد كان شخصاً كريماً بالفعل وان المرحلة التي اخرج فيها الفيلم كانت مؤاتية. انا لم أخف من التنويع ابداً ابن النيل هو الفيلم الذي كنت أود ان ابدأ به مسيرتي السينمائية وقد كتبته اقتباساً عن مسرحية شاهدتها في اميركا. ولكنه بالنسبة الى المصور الايطالي الفيزي اورفانيللي الذي ساندني بعد عودتي من دراستي كان صعباً كبداية. لذلك بدأت ببابا امين الاكثر خفة. علي القول بأن افلام تلك المرحلة، اي الخمسينات، كانت اكثر براءة لأن الوعي السياسي لم يكن قد ظهر بعد. لذلك يعثر المشاهد في هذه الافلام على التكوين العائلي وشخصيات الام والاب لأن ذاك كان محيطي ولم اكن قد تشجعت بعد للكلام على الحب والعلاقات والجنس. ذلك استلزم السيرة الذاتية. انما التنوع اللاحق هو نتيجة التماشي مع الحداثة التي تقود المرء احياناً الى حكايات مختلفة وجانبية وذلك حصّنني الى حد بعيد ضد التأثيرات السلبية الكثيرة من حولي. كما ان الخمسينات كانت مثالاً على تأثري بالسينما الاميركية والمسرح. ”
كان الصراع سمة تلك الافلام الاولى التي تحدثت دائماً عن شر داهم مصدره خارج الانسان. فهو اما المدينة واما الاقطاع وامام الاحتلال وغالباً ما كان في مقدمة الحبكة قصة حب من النوع العاطفي او الرومنسي وغالباً ايضاً ما قامت تلك الافلام على النجوم فكان نجاحها مرتبطاً بهم الى حد بعيد. ولا ننسى ان معظم تلك الافلام جاء في أعقاب ثورة يوليو التي قامت على فكرة الغاء الطبقية او بشكل ألطف التصالح الطبقي. جاء العام 1958 ليقلب الموازين اذ حقق شاهين خلاله فيلمه الكلاسيكي الواقعي “باب الحديد” الذي وان حافظ على موضوعة الصراع والظلم الواقع على الفقراء الا انه قدم عناصر جديدة على تركيبة السينما المصرية. فقد طرح موضوع الاستلاب الجنسي في شكل اساسي ومباشر وقدم فيه شاهين نفسه ممثلاً للمرة الاولى والاخيرة في دور “قناوي” بائع الصحف المشوه الذي يعاني من مشكلات نفسية. وفضلاً عن ذلك، لم تكن معادلة النجوم هي السائدة اذ ظهر فيه فريد شوقي “ملك الترسو” في ذلك الوقت في دور لا يشبه كثيراً بطولاته المعهودة بينما بقي حضور هند رستم نجومي بامتياز. المهم ان الفيلم استثار الجمهور، جمهور “ملك الترسو” فكسروا السينما ولفظوا الفيلم الذي ظل خارج التداول والاعتراف لسنوات طويلة غير انه كان البداية الحقيقية لمسيرة يوسف شاهين السينمائية.
الهاجس الوطني
بعد سنوات من العمل على أفلام تصدت للصراع الاجتماعي بملامحه الطبقية وبعيد الانتصارات التي أعقبت العام 1958 (عدوان السويس وتأميم القناة واشتداد الحرب الجزائرية…) بدا المناخ ملائماً للانتقال الى الموضوعات الوطنية فكان فيلم “جميلة” عام 1958 الذي تناول النضال الجزائري ضد الاستعمار الفرنسي من خلال شخصية المناضلة جميلة بوحيرد. على الرغم من النجاح الجماهيري الذي حازه الفيلم، لم يكن عملاً ينتمي تماماً الى شاهين لاسيما في اعقاب التحول الذي أرساه “باب الحديد”. ولكنه مهد لعمل ثانٍ من النسق الوطني عينه هو “الناصر صلاح الدين” الذي اوكل به الى شاهين المخرج عز الدين ذوالفقار قبيل وفاته. لم يكن الفيلم عن صلاح الدين تماماً بقدر ما كان يرمي الى رسم تماثل بين شخصية صلاح الدين وجمال عبد الناصر. على الرغم من الانتاج الضخم والمدة الطويلة التي استغرقها انجاز الفيلم، لم يحقق اي نجاح يذكر. فعاد بعده الى فيلم اجتماعي ذي ملامح سياسية هو “فجر يوم جديد” عام 1964 والذي لن يحقق لمخرجه اية اضافة كما هي حال افلامه التالية حتى العام 1970 وفيلم “الارض” الذي أعاده الى رحلة الصعود بعيد نكسة 1967 التي يصفها بانها اكثر التحولات السياسية تأثيراً فيه وبوعيه. كان “الارض” فاتحة لمرحلة انجز فيها ما يمكن ان نسميه افلام الهزيمة وهي: “الاختيار” و”العصفور” و”عودة الابن الضال”. اتسمت تلك الافلام بالقلق والتساؤلات الكثيرة والحدة والادانة لاسيما لدور المثقف وهو ما سيعود الى التصالح معه في مرحلة لاحقة مع افلام مثل “المصير ” و”الآخر”. اتسمت افلام الهزيمة، الى حدة النقد والادانة، بلغة سينمائية معقدة اصبح شاهين بعدها من عدة المثقف ووصفت سينماه بسينما المثقفين. تكرست التسمية مع المرحلة التالية مرحلة الافلام الذاتية التي اتسمت بشخصية الفنان القلق الذي يعري ذاته ويحاكمها كما في ثلاثيته: “اسكندريه ليه” (1979)، “حدوتة مصرية” (1982 و”اسكندرية كمان وكمان” (1990). (ستكون لنا لاحقاً وقفة تحليلية مفصلة في مقالة منفصلة). منذ افلام النكسة ومروراً بالافلام الذاتية، ظلت افلام شاهين بعيدة من التداول العام، محاصرة فى قاعات خاصة وحكايات منقولة عن نخبة من المشاهدين لأفلام تُختصر بتعبير “سينما المثقفين” الفضفاض. ويقصد بها سينما مختلفة لا تفهمها سوى شريحة مميزة تختلف بقدرتها على ممارسة “المتعة الذهنية” عن “الجمهور العادي” الباحث عن متعة حسية أو تسلية أو حكاية لا تقض استقراره بل تطمئنه. وذلك الفرز وضع أفلام شاهين في خانة التبعية اما للسياسة او للفكر وصنع صورته الندية والضدية في مرحلة ما لمخرج مثل حسن الامام مثلاً ملك الميلودراما الجماهيرية. هكذا أصبح شاهين من عدة المثقف بأفلامه التي تلعب على خطي النقد السياسي والنقد الذاتي القائم على الرموز.
المعلم والحقيقة
لاحقاً، تحول شاهين مرشداً ومعلماً ينوء تحت ثقل “الحقيقة” و”واجب” ايصالها الى الناس في اسلوب ممسرح ثقيل تجلى في “المصير” و”الآخر” و”سكوت حنصور”، عاد الى المجرى العام وصار نجماً عمومياً وترافق ذلك مع مشاركة التلفزيون المصري (الحكومي) فى الانتاج ورفع قرارات المنع غير المعلنة عن أفلامه وعرضها للجمهور.
فأفلام شاهين الأخيرة وتحديداً منذ “المصير” (1997) او ربما “المهاجر” (1994)، نزعت الى الخطابة التي انعكست على الشاشة في مشاهد مسرحية ومونولوغات طويلة واستعراضات ذهنية للشخصيات. كل ذلك جعل النقد والتفكير والالعاب الذهنية خطاً منفصلاً في الافلام بخلاف أفلامه الاولى ـ “بابا أمين” مثلاً ـ التي حملت النقد وان مخففاً في سياق الفيلم. لقد بدا شاهين في أفلامه الأخيرة وكأنه يعود الى الرسائل الفكرية او ما تبقى منها ليصبح “كيتش”. فكان خطاب “المصير” رسالة دعائية ضد سيطرة الاصوليين انما بالطريقة الشائعة: رمز من التراث “ابن رشد” في مواجهة رمز مضاد من نفس التراث. أسلحة قديمة في معركة جاهزة تحمل رسالة كبرى الى الجمهور. انه شاهين المعلم هنا وليس القلق، الفصيح وليس المتأتئ. واذا كانت أفلامه السياسية الاولى قامت على جهود “مهندسين” في الخلفية مثل لطفي الخولي في “العصفور” وصلاح جاهين في “عودة الابن الضال” ويوسف ادريس صاحب فكرة “حدوتة مصرية”، فإن المرحلة السياسية الاخيرة اقترنت باسم خالد يوسف مساعداً بدايةً ومن ثم صانع أفلامه الخاصة (العاصفة كان فيلمه الاول على خلفية حرب الخليج الاولى) وأخيراً مشاركاً في إخراج آخر أفلامه “هي فوضى”. لعله من المبالغة القول ان يوسف أخذ مكان الخولي او جاهين على الأقل ليس في “الآخر” و”سكوت حنصور” كصانع الخلفية السياسية ولكن دوره كان كبيراً حتماً في تظهير الخطاب السياسي للفيلم الأخير.
وبعد… يل يمكن القول ان السيرة اكتملت؟ هل ختم الموت سيرة شاهين؟ المؤكد وبصرف النظر عن اي تقويم او حكم، فإن سيرة شاهين الحياتية والمهنية لن تركن الى الماضي او التاريخ في وقت قريب لأنها ستظل مسيرة أكثر السينمائيين العرب انتاجاً واشكالية واثارة للفضول والاعجاب والنقد على حد سواء. فلتبدأ سيرة جديدة الآن مبنية على النهاية وليس البداية وقائمة قبل اي شيء على علاقة أفلامه بالزمن المقبل. انه الموت يعيد الاشياء الى اصولها في رحلة بحث واستكشاف هادئة لاشك في ان يوسف شاهين يستحقها.