صفحات الناس

قمح معفن.. خيرمن قمح مستورد

null
ميشال شماس
في مثل هذه الأيام من العام الماضي كانت أزمة الكهرباء على أشدها، وقد ألقت الحكومة حينها عبر تصريحات رئيسها المهندس ناجي العطري من اللاذقية تحديداً، باللائمة في حدوث تلك الأزمة على شماعة الضغوطات الدولية خاصة الأميركية والفرنسية منها،وقد علق الراحل الكبير عصام الزعيم على تصريحات رئيس الحكومة قائلا: ( إن تصريحات رئيس الوزراء هي محاولة لتجنب اللوم الذي تتحمله حكومته على تأخرها سنوات طويلة في تحسين شبكات الطاقة الوطنية التي ما تزال تعمل وفقاً لتقنيات قديمة جداً). وأضاف الراحل الكبير قائلاً: (إن المشكلة الرئيسية التي تعاني منها سوريا هي الافتقار التام للتخطيط للمستقبل. وقد يكون للعقوبات الدولية بعض التأثير ولكن التوجيه السيئ هو العامل الأساسي، ونحن لا نرى بأن هناك أي مسؤول يحاسب على أخطائه التي يرتكبها).
لقد آثر الدكتور عصام الزعيم الرحيل عن دنيانا، على أن يشاهد بأم عينيه مدى الارتجال الذي وصلت السياسات الحكومية خاصة على الصعيد الاقتصادي.
ترى هل كان يتوقع عصام الزعيم لو قيض له البقاء حياً أن يرى بلاده وهي تتحول من بلد مصدر للقمح إلى مستورد له؟ أو هل كان سيتصور أن دولة الإمارات العربية المتحدة ستهدينا نصف مليون طن من القمح مشكورة؟ أو هل كان يتوقع أن الحكومة السورية ستشتري قمحاً من السوق العالمية في العام 2008 ؟ وهو الذي رحل مطمئنا على مخزون من القمح يكفي لخمس سنوات قادمة؟ وإذ بوزير الاقتصاد يبيع مخزون سوريا الاستراتيجي من القمح، ويخفضه من خمس سنوات إلى أقل من سنة. ويعترف بذلك أمام أعضاء مجلس الشعب بقوله:”عندما جئت إلى الوزارة تحدثت أنه ليس من داعٍ أن يكون هناك فائض متراكم عمره خمس سنوات يصاب بالعفن ويلقى في القمامة، وبدلاً من هذا حصلت على تفويض من رئيس مجلس الوزراء للتصرف بالفائض، وبعتُ هذا الفائض). وأضاف وزير الاقتصاد محاولاً طمأنة أعضاء مجلس الشعب قائلاً 🙁 أن سورية تمتلك احتياطياً استراتيجياً يكفي لعام كامل من مادة القمح، حتى وإن كان هذا الموسم ضعيفاً.) ولم تمض أيام قليلة على هذا التصريح، حتى أعلنت مؤسسة الحبوب عن مناقصة دولية لشراء/ 120000/ طن من القمح من الأسواق العالمية؟ فلو كانت سورية تمتلك فعلاً احتياطياً استراتيجياً يكفي لعام كامل من مادة القمح،لما كانت الحكومة السورية أعطت الضوء الأخضر لمؤسسة الحبوب لشراء 120000طن وبأسعار مرتفعة..!
نعم لقد صدق الراحل الكبير عصام الزعيم حين اعتبر أن مشكلة سورية الرئيسية تكمن في افتقارها التام إلى التخطيط للمستقبل واستشرافه. وسوء التوجيه والإدارة، وعدم محاسبة أي مسؤول على أخطائه التي يرتكبها ، كما تكمن أيضاً في محاسبة الشرفاء كما سبق أن حاولوا النيل من عصام الزعيم عندما اتهموه بالفساد وحجزوا على أمواله، لأنه شكل طيلة حياته حالة سورية فريدة ممزوجة بالذكاء والعلم والمعرفة ومعجونة بالحب والصدق والبراءة والعفوية.وهو الذي سبق له أن أنقذ عدة دول من الإفلاس قبل أن يحط رحاله في وطنه الذي ناده فلبى النداء تاركاً وراءه كل الامتيازات الكبيرة التي كانت ممنوحة له خارج سورية.. أما من يبدد الثروات الوطنية، ويوافق على بيع المخزون الاستراتيجي من القمح، فإنه يبقى حراً طليقاً دون أية مساءلة أو حساب.
لم ينس السوريون تلك الظروف القاسية والصعبة التي سبق أن عاشوها في الثمانينات من القرن الماضي ، وكيف كان التدافش بين المواطنين على أشده للحصول على رغيف الخبز.. ! وهم اليوم قطعاً لا يريدون العودة نهائياً إلى تلك الأيام، ولا حتى إلى استذكارها أو مجرد التفكير بها، ويفضلون القمح المعفن على القمح المستورد.
لقد كانت مرحلة الثمانينات مرحلة مؤلمة وعصيبة، تحملها السوريون بمختلف أطيافهم، بعد أن شدوا الأحزمة بقوة على بطونهم، وشمروا عن سواعدهم السمراء التي أخذت تشق الأرض شقا لتنبت منها حبات القمح على وقع قطرات العرق التي كانت تهطل من جباه السوريين على الأرض التي عانقتها بشوق وكأنها تلامسها لأول مرة، وتسمح لها بالتغلغل في داخلها بهدوء حتى وصلت إلى جذور سنابل القمح فازدادت شموخاً نحو السماء، إلى أن صبغتها أشعة الشمس بلونها الذهبي الرائع.
وقد تغنى السوريون وما زالوا يتغنون بهذا المنظر الرائع وهذا الانجاز العظيم الذي حولهم من مستوردين للقمح إلى مصدرين له، وجعلهم يتفاخرون بهذا المحصول الاستراتيجي الذي تهافتت الشركات العربية والأجنبية على شرائه.
واليوم للأسف الشديد وتحت شعار السوق الاجتماعي، استكثر البعض على السوريين فرحتهم وتغنيهم بذلك الانجاز الهائل الذي صنعه السوريون بعرقهم ودمائهم وسواعدهم الجبارة، فأخذ هذا البعض يفرط به تحت شعار”كيلا يتعفن”، ولسان حال السوريين يقول : سكابا يا دموع العين سكابا على القمح الباعوا وزير الاقتصاد
* محام من دمشق
( كلنا شركاء ) 27/7/2008

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى