“فالس مع بشير” والذاكرة المغيّبة
محمد علي الأتاسي
حرصتُ منذ أيام الدراسة في باريس أثناء فترة التسعينات على أن لا أفوّت فرصة تسنح لي من دون أن أستثمرها في مشاهدة الأفلام الإسرائيلية التي تعرض بين الحين والآخر في الصالات الفرنسية، وبقي الأمر على حاله في كل زيارة لاحقة أقوم بها إلى الخارج. هذا الحرص لم يكن مرده فقط الى المنطق القائل بضرورة معرفة العدو والذي نراه في بعض ما تترجمه الصحف العربية نقلا عن الصحف الإسرائيلية، بقدر معرفة المجتمع الإسرائيلي من الداخل ومتعة اكتشاف راديكالية بعض المخرجين الإسرائيليين وجذريتهم في نقد الإيديولوجيا الصهيونية المؤسسة لدولتهم العبرية وتفكيكها، من مثل المخرج إيال سيفان، وصولاً إلى تتبع تحولات المكرسين منهم كالمخرج عاموس غيتاي الذي بات أكثر قرباً من الحركة الصهيونية في نسختها المعتدلة المتمثلة في حركة “السلام الآن”.
هذه المرة، كان عليَّ أن أنتظر بداية الشهر الحالي ووجودي لمدة يومين في العاصمة الفرنسية، من أجل أن تسنح لي فرصة مشاهدة الفيلم الإسرائيلي الجديد الذي شارك في المسابقة الرسمية لـ”مهرجان كانّ” وكاد أن ينال “السعفة الذهب” فيها. الفيلم عبارة عن 90 دقيقة من الرسوم المتحركة ذات الطابع الوثائقي، من إنتاج إسرائيلي وألماني وفرنسي مشترك، كتب السيناريو له وأخرجه المخرج الإسرائيلي آري فولمان، ويروي فيه من خلال طريقة “الفلاش باك” ذكرياته كمجنّد إسرائيلي كان له من العمر 18 عاما خلال مشاركته في اجتياح لبنان في عام 1982.
يبدأ الفيلم بمشهد قطيع من الكلاب السوداء المسعورة تركض في شوارع المدينة مثيرةً الرعب والفوضى، ثم نشاهد لقاء في حانة في مدينة تل أبيب بين المخرج آري فولمان وصديق قديم له منذ أيام اجتياح بيروت. يروي هذا الصديق، الذي كلّفته كتيبته العسكرية قنص الكلاب الشاردة ليلا على مداخل القرى كي لا يتنبه السكان إلى دخول الجنود إلى شوارع بلداتهم، كيف أنه لا ينفكّ يشاهد كوابيس مضنية لستة وعشرين كلباً ضاريا (هو عدد الكلاب نفسه الذي تمّ قتله في لبنان) تلاحقه في شوارع المدينة لتصل إلى بيته وتحاصره هناك. يبدي آري فولمان دهشته لكونه لا يتذكر الشيء الكثير عن تفاصيل خدمته العسكرية في لبنان! لكن في الليلة ذاتها التي تم فيها لقاؤه مع صديقه المجند السابق، يدهمه هو الآخر حلم غريب فيرى نفسه يُخرج شاباً برفقة اثنين من رفاقه المجندين من قلب مياه كورنيش بيروت والرملة البيضاء ويعبر إلى أحد الشوارع الجانبية حيث يصادفه جمع من النساء والأطفال الهائمين على وجوههم.
تستيقظ ذاكرة المخرج شيئاً فشيئاً على وقع جلسات التحليل النفسي التي راح يخضع لها في عيادة صديق له. ويبدأ رحلة البحث عن أصدقائه من المجندين القدامى ويحاول من خلال المقابلات التي يجريها معهم أن يعيد تشكيل حقيقة الأحداث التي مروا بها وفقاً لرؤية نقدية تحاول أن تدين العسكريتاريا الإسرائيلية وما جرّت إليه من غزو للبنان واحتلال لبيروت.
يستند الجانب الوثائقي من الفيلم الى مقابلات أجراها المخرج مع تسع شخصيات كانت مشاركة في شكل أو آخر إلى جانبه في أحداث تلك الفترة. صوّر آري فولمان هذه المقابلات سينمائيا واستند إليها لتحقيق شريط الرسوم المتحركة المطابق للواقع، في حين أبقى صوت التسجيل كما هو، وأسماء الشخصيات الحقيقية، مستثنياً اثنين منهما فضّلا إبقاء اسميهما الحقيقيين مغفلين. وتم رسم الأمكنة في بيروت الغربية بكثير من الدقة استناداً الى صور فوتوغرافية من مثل كورنيش عين المريسة وشاطئ الرملة البيضاء ومطار بيروت والمدينة الرياضة ومداخل المخيم. لكن هذا لم يمنع المخرج من الوقوع في أخطاء كما هي الحال مع عملية مقهى الوينبي حيث يبدو المقهى بواجهات غريبة ويقع في شارع لا علاقة له بشارع الحمراء.
الطريق إلى المجزرة
انطلاقا من الأحلام ومن جلسات التحليل النفسي واستناداً الى المقابلات التي أجراها المخرج، تبدأ تفاصيل القصة بالتجمع على وقع موسيقى الروك الإسرائيلي في تلك المرحلة، فنرى شباناً في مقتبل العمر يدخلون إلى لبنان بدباباتهم وكأنهم في نزهة ويصل بعضهم بين الخيال والواقع على متن يخت فاخر إلى الشاطئ اللبناني، ولا تلبث أن تبدأ ضدهم عمليات المقاومة ولا يلبثون أن يتورطوا أكثر فأكثر في عمليات العنف الأعمى وفي قتل المدنيين التي يقدمها المخرج وكأنها تقع دائما نتيجة خطأ.
تصل أنباء اغتيال الرئيس اللبناني بشير الجميل الى كتيبة الجنود الإسرائيلية القابعة في إحدى الفيلات الفارهة في ضواحي العاصمة اللبنانية. ولا تلبث أن تأتيهم الأوامر بدخول الجزء الغربي من مدينة بيروت المحاصرة والعمل على تمشيطه. في واحدة من عمليات المقاومة، تتعرض مجموعة من الجنود المشاة، تضم في صفوفها المخرج في أحد شوارع بيروت الغربية، إلى عملية قنص يسقط فيها العديد من الجرحى، فيقوم واحد من الجنود بعبور الشارع وكأنه يرقص لتجنّب النيران مطلقاً النار في كل الاتجاهات مصيباً واجهات المباني ومن بينها واحدة علِّقت عليها صورة عملاقة لبشير الجميل. ومن هنا يأتي الاسم المجازي للفيلم “فالس مع بشير”.
تتسلسل الأحداث ونكتشف أن المخرج ورفاقه لم يكونوا فقط في عداد قوات الجيش الإسرائيلي التي دخلت إلى بيروت الغربية غداة اغتيال الرئيس اللبناني، بل قامت كذلك بحصار مخيمي صبرا وشاتيلا وأضاءت سماءهما ليلا وسمحت لقوات الميليشيا المسيحية بدخول المخيمين وارتكاب أبشع المجازر فيهما في حق المدنيين العزل على مدى ثلاثة أيام.
يستند المخرج في تتبعه لأحداث تلك الأيام السوداء الى شهادات رفاقه الجنود عموماً والى شهادة المراسل الصحافي الإسرائيلي الشهير رون بن يشاي خصوصاً، والذي كان أول من تنبه من بين وسائل الإعلام إلى المجزرة بعد يومين من بدئها واتصل في المساء نفسه موقظاً وزير الدفاع الإسرائيلي آنذاك أرييل شارون من النوم ومحذراً إياه من أمور خطيرة تجري داخل المخيمات، فما كان من هذا الأخير إلى أن وعده خيراً وعاد من جديد إلى النوم. ولم تتوقف أعمال القتل والذبح إلا في اليوم التالي!
في إحدى المقابلات مع واحد من العسكريين الإسرائيليين الذي كان حاضراً في الخطوط الأمامية لمداخل المخيم ورأى كيف كانت الشاحنات تخرج محملة مدنيين وتعود من جديد فارغة من دون أن يتبادر إلى ذهنه، كما يدّعي، حقيقة مصير هؤلاء الناس، يلوم المخرج رفيقه على سذاجته ويقيم مقارنة جريئة مع مشاهد اليهود المحمولين في شاحنات والذاهبين إلى المحرقة.
ينتهي الفيلم على مشهد حلم الخروج من الماء في جزئه الأخير عند دخول المخرج أحد الأزقة ومصادفته جمعاً من النساء الهائمات على وجوههن. فجأة وفي الدقيقة الأخيرة، تتحول الرسوم المتحركة إلى صور حقيقية مسحوبة من الشريط الشهير لمجازر صبرا وشاتيلا حيث نرى أشلاء الضحايا وجثثهم ونرى جمع النساء الفلسطينيات يخرجن باكيات مولولات، يصرخن بأعلى الصوت “وين العرب، وين العالم صوّروا خلّي العالم يشوف”، ونسمع واحدة تبكي شقيقها بحرقة وندب. المثير للاهتمام هنا، أن المخرج الذي أراد من خلال هذه النقلة أن يذكّر بالجانب الوثائقي لفيلم الرسوم المتحركة الذي صنعه، فاته أن يترجم إلى العبرية أو حتى الى أي لغة أوروبية ما قالته النساء الفلسطينيات من عبارات لدى خروجهن من المخيم. وكأن على الضحية أن تبقى في منزلة الضحية، لا اسم ولا هوية ولا صوت يعبّر عنها!!!
الذاكرة المغيّبة
الحقيقة أن هذه الخاتمة الملتبسة، على قوتها، تشير إلى واحدة من المشكلات الرئيسية لهذا الفيلم، وهي تركيزه المفرط على الذات الإسرائيلية وضرورة غسل ضميرها وتفعيل عمل ذاكرتها. في المقابل هناك عجز تام عن تحرير الضحية من صورتها المهيضة من خلال إعطائها بعدها الإنساني الشامل. فكأن المطلوب منها أن تبقى في منزلة الضحية الصامتة حتى يطيب للجندي الإسرائيلي أن يمارس عملية تطهره وغسله لضميره. الأكيد أن فيلماً كهذا، على أهميته، يسرّ أكثر مما يزعج في صفوف الجمهور الإسرائيلي كما في الأوساط المتعاطفة مع إسرائيل، كونه يبيع الوهم بقدرة الضمير الإسرائيلي على ممارسة إنسانيته وتطهره من ذنوب الاحتلال، من دون أن يطرح على نفسه الأسئلة الوجودية الصعبة المرتبطة بالطبيعة الكولونيالية للمشروع الصهيوني.
أما على المستوى السياسي فإن الفيلم، وإن كان يوجه نقداً صارماً الى العسكريتاريا الإسرائيلية والى حروبها العبثية، فإنه يتبنى بالكامل رواية لجنة كاهانا الإسرائيلية في شأن المجزرة والتي ترفع بالكامل المسؤولية عن جيش الدفاع الإسرائيلي وتضعها فقط على ميليشيا “القوات اللبنانية” وتحمّل القيادة السياسية الإسرائيلية ممثلةً بأرييل شارون مسؤولية جزئية في التقصير في منع المجزرة. وكان المخرج قد عبّر بوضوح عن هذا الموقف في كل مقابلاته الصحافية.
المؤلم في هذا كله، ليس فقط غياب عمل الذاكرة في الجانب اللبناني وخصوصاً في جانب “القوات اللبنانية” وحزب الكتائب، كون كل فريق يتمسك بذاكرته الحربية المقاتلة ويحافظ عليها ويعيد إنتاجها ويرفعها درعاً في مواجهة الأطراف الآخرين، ولكن في كون هذه الذاكرات المقاتلة باتت سجوناً تمنع حتى على الضمير الفردي أن يستيقظ ويمارس عمل ذاكرته على المستوى الشخصي البحت، وهذا أبسط الإيمان.
طبعاً لن أسأل في ختام هذا المقال لماذا لا يعرض فيلم “فالس مع بشير” في صالات العرض اللبنانية، ذلك ان الجواب معروف وتحصيل حاصل، لكني أسأل لماذا لم يعرض إلى اليوم لا في صالات السينما ولا على شاشات التلفزة اللبنانية فيلم “مجزرة” اللبناني، من إخراج مونيكا بورغمان ولقمان سليم، وهو الفيلم الذي يعرض لشهادات المقاتلين اللبنانيين الذين نفّذوا مجزرة صبرا وشاتيلا!؟ ترى ألم يحن الوقت لكي تبدأ الأجيال الشابة في لبنان النظر بعين نقدية إلى تاريخ الحرب الأهلية، بدلا من إعادة إنتاجها؟ ترى ألم يحن الوقت لكي تبدأ الذاكرة عملها بدلا من أن تظل أشباح الماضي تأكل الحاضر والمستقبل وما بقي من ذاكرة
* كاتب سوري