أشكوك إلى “ساحرة الشعر” يا ملك الشعر
خالد الحروب
هددته في مكتبه في مركز خليل السكاكيني الثقافي في رام الله وقلت: “على كل حال بعد أن تعود من السفر سأقرأ عليك قصيدتي المتمردة عليك وشكواي ضدك أمام “ساحرة الشعر”, فإن كانت رائقة على مسامعك أكون سعيداً وإن كانت رديئة فليكن أستماعك لها عقاباً لك على ما فعلت من وئد لم تقصده لشعراء كثيرين هنا وهناك ربما كانوا سيكونون لو لم يكن قد شلهم سحر شعرك”. فضحك وقال أتقفنا. سعدت بالإتفاق وصرت أنتظر. كنتُ واثقا من أن الذي جندل الموت في “الجدارية” وهتف “يا موت هزمتك الفنون جميعها” هو الذي سينتصر على عملية القلب المفتوح, وأن “لاعب النرد” المستسلم أمام الموت “من أنا لأخيب ظن العدم” لن يكون سوى جملة معترضة في حياة الشاعر المتشبث بالحياة: ” من أنا لأقول لكم ما أقول لكم|أنا لاعب النرد أربح حينا وأخسر حينا|.. لا دور لي في حياتي|سوى أنني|عندما علمتني تراتيلها|قلت: هل من مزيد؟|وأوقدت قنديلها|ثم حاولت تعديلها|.. في الساحة المنشدون يشدون أوتار آلاتهم|لنشيد الوداع, على مهلك أختصريني|لئلا يطول النشيد, فينقطع النبر بين المطالع|وهي ثنائيةٌ والختام الأحادي: تحيا الحياة”. ثم يرسم بنبوءة فاجعة وفي نفس القصيدة لحظات موته الأخيره: “ومن حسن حظي أني أنام وحيداً|فأصغي إلى جسدي|وأصدق موهبتي في إكتشاف الألم|فأنادي الطبيب, قبيل الوفاة بعشر دقائق|عشر دقائق تكفي لأحيا مصادفة|وأخيب ظن العدم|من أنا لأخيب ظن العدم؟| من أنا؟ من أنا؟”. “لاعب النرد” آخر قصائد محمود درويش ومرثيته البديعة لنفسه ستدخل تاريخ الشعر العربي والعالمي بكونها الحرف الأخير قبل المضي نحو الكفن. قرأها في رام الله في أول يوليو/تموز 2008 وساد بعدها صمت الموت في قلوب عشاقه. الشاعر يعلن الإستسلام لموته: هزم الأشياء جميعها إلا هذا الشيء الغريب. ثم ذهب إليه مطمئنا ومقتنعاً كأنما يريد إعادة بعث واحدة من قصائده القديمة لنراه جميعا قد “عاد في كفن”.
اليوم ستنتحب “ساحرة الشعر” يا سيد الشعر عندما تعلم أن الشاعر الذي ذابت في حروفه يوم شكوته لها قد غادر باكراً. قلت لها: كلما جالت في حروفنا صورة, يكون قد نسجها تطريز جمال, كلما أردنا أن نعشق وطنا أو نغازل حبيبة أو نتنهد لمنفى أو نشتاق لأمٍ يكون قد سبقنا فنعجز عن الإكمال. “يا ساحرة الشعر, نشكوه إليك|بالكلمات يبني الهيكل الأول|بلا أقفال للأبواب, لا جدران, لا أسقف|بموسيقى تظل طوال الليل تغوي ما أستجد من الحروف|تطير إليه في المعبد|يخدرها ويسحرها|إله حيفا: يأمر أين تروح وأين تبيت”. تغادر باكراً وباكراً جداً يا سيد الشعر, وتتركنا مشدوهين أمام حروفنا الناقصة.
صباح الأثنين وصل ديوان “ساحرة الشعر” من القاهرة, أستلمته في رام الله, وأنا سعيد لأن لحظة قراءتي لما فيه لدرويش تقترب. ثم ذهبت إلى مخيم جنين حيث مضى اليوم يقطر شمساً من عيون أولاد المخيم. في قلبه كانت ضحكاتهم قد أقامت هيكل صمود, وأياديهم كتبت على جدرانه ترتيلاً لمحمود درويش يقول “على هذه الأرض ما يستحق الحياة”. في مدخل المخيم وقف حصان كبير مصنوع من بقايا دمار المخيم يوم حاصره الغزاة وأرادوا ذبحه. حصان فينيق المخيم هو “جداريته”: عنوانُ إعتلائه للحياة, وركلُ اولاده لصف الدبابات الطويل دبابة دبابة. مساء الإثنين غادرتَ يا ملك الشعر وتركت أرتالاً من العاشقين وراءك. أشتعلت هواتف المخيم بالخبر, وذرفت أشجار الزيتون فيه أوراقها. وجاءت همهمات من مقبرة الشهداء تنادي إسم قديس زهر اللوز.
ليل الإثنين كان الطريق طويلا طويلا بين جنين ورام الله. أصدقاء كثيرون من داخل وخارج فلسطين يتصلون: هل الخبر صحيح. لم يصدق أحد أن إله الشعر يمكن أن يموت. هل تموت الآلهة؟ وحدها أشجار حيفا ورام الله كانت تعد الجنازة. كانت تبكي بصمت وتغزل كفنا للشاعر من “أوراق الزيتون”. كان “ورد السياج” يبكي هو الآخر بصمت ويتجمع عند مداخل القلوب يستعد لإحتضان المغادر. كان سنى بيروت وسهاد دمشق وعشق عمان وخضرة تونس وحب كل العواصم يصلي لك. وفي أول ليلة بعد غياب العاشق الكبير كانت فلسطين حزينة. من جنين إلى رام الله هبط ليل هائل على الجانبين. بدت الجبال العالية منحنية والسيارة تصعدها ثم تنحدر في وديانها بخجل. أتصل صديقاي ساهر وفراس وقالا نحن وأصدقاء كثر نزور خلود ومنى في بيتك في كامبردج ونعزف على العود “درس في فن الإنتظار”, قصيدة درويش البديعة في الغزل الشفيف. يعرف فراس كم أعشق تلك القصيدة فبدأ من سنة يلحنها وقد أنهى ثلثيها. كنا أتفقنا أن أحملها ملحنة ومسجلة بصوت فراس وعزفه على العود وأهديها بإسم تونس كلها, بلد فراس, إلى محمود درويش. سبقنا الموت يا فراس. لأول مرة في حيات العاشق الكبير يسبق الموت في حياته لحناً يتشكل. سندندن القصيدة معاً, وربما نأخذها إلى “ساحرة الشعر” نهدهدها ونمسح دمعها الدافىء.
يوم قرأ تلك القصيدة في أمستردام في هولندا قبل عدة سنوات قام الجمهور الهولندي المكتظ الذي تابع ترجمة القصيدة على شاشة كبير وصفق طويلا طويلاً. كان درويش قد أستهل القصيدة بكلمات قصيرة قال فيها إنه قرأها أثناء الحصار في رام الله في الإنتفاضة الثانية مع قصائد كثيرة عن المقاومة والحصار والبطولة. أضاف أن قصيدة الحب والغزل هي التي طلب الناس أن يعيدها وهم تحت الحصار. كانوا يعلنون إنحيازهم للحب على حساب الرصاص الجالب للموت. كانوا يردون على الغزاة بشعار “تحيا الحياة”. صفق الناس يومها لبراعة الحياة في التملص من الموت. بين سطور القصيدة وقصائد أخرى كانت ملحمة غياب الشاعر تُنسج حرفاً حرفا. في قصائده الأخيرة, وخاصة في ديوان “كزهر اللوز أو أبعد” (2005), يحضر الموت بكل وطأة. “الآن, في المنفى … نعم في البيت| في الستين من عمر سريع|يوقدون الشمع لك|فافرح بأقصى ما أستطعت من الهدوء|لأن موتاً طائشاً ضل الطريق إليك|من فرط الزحام … وأجلك”. بين أغنية وأخرى يتسلل لحن جنائزي ينشر الحزن المبكر. لم نكن نعلم أن نهايات تلك الألحان تتجمع في روح الشاعر ليطلق الشهقة الأخيرة في “لاعب النرد”.
سأشكوك إلى “ساحرة الشعر” مرة ثانية أيها المغادر باكراً. هربت من الإستماع للشكوى الأولى ضدك. لما شكوتك لها وأعدت على مسامعها ما قلته هنا وهناك أنهارت هي الأخرى وأنحازت لك وسقطت في شراك ألحانك. ماذا سأقول لها هذه المرة؟ أأقول لها ساحر الشعر يا ساحرة الشعر خدعنا وغاب وهو في أكمل ما يكون النجم من السطوع؟ ستنهار هي الأخرى كما أنهار عشاق كثيرون لك. ستصير شمعة مضاءة بصمت على “دوار المنارة” في رام الله تحملها صبية شعرها أسود طويل تحني رأسها مع جموع كثيرة في تلك الليلة الحزينة ويسح على خدها دمع صامت يقول وداعاً يا أجمل الأصوات, وداعاً يا إله حيفا, وداعاً يا ملك الشعراء.
قناة العربية