رحيل الشاعر الكبير محمود درويش صوت فلسطين العالي
بول شاوول
رحل الشاعر الكبير محمود درويش، الذي هزم الموت مرات، ليهزمه أخيراً، وهو في عزّ وقفته العالية، في عز قدومه، وفي عزّ أحزانه. وأحزان فلسطين، تماماً كما هزم المنافي مرات، وكاد يهزمه الوطن، رحل بين شموس الأحلام الفلسطينية المشرقة، وبين انكساراتها. رحل محمود درويش، ويا للأسف، وفلسطين أمامه، ذلك الذي كان صوتها وجسدها وقصيدتها، مِزَقٌ، وحلمه في قلبه مزق، حتى عاد لا يطيق أو يحتمل، فانفجر جميعه وصمت. لم يعد من احتمال لهذه العددية. ولم يعد من احتمال لهذه الميتات المتراكمة حوله: من عدو يبطش ويفترس وطنه السليب، ومن أخوة يتقاسمون بالدم أرضاً كأنها لم تعد لهم. هكذا، كأنما ترك وراءه ما لم يعد قابلاً للتقاسم من حفى امال وأرض وسماء ودم وقتل واستباحة ومجازر.
غادر فلسطين إلى المنفى، وهي في المنفى. وكثرت منافيه وتكاثرت منافيها. وعندما كاد حُلمٌ بالعودة أن يرتسم، ويحفر، كان لمحمود أن ينفض المنافي كلها عن عينيه، وعن صوته، وعن روحه، يعود إلى حيث لتراب الوطن نكهة القيامة، ولهوائه نَفَسُ الحياة، ولناسه شهادة الانتصار. وهكذا، كان له أن ينتقل من حلم يتجسد ثم يتبدد، إلى حلم يتبدد ثم يلوح. وهذا مصير الاوطان السليبة. وهذا مصير المقاومات الدائمة. ومحمود درويش صوت المقاومة الشعري الأول، وصوت الضمير الوطني الأول، وصوت الحلم الكبير الأول، وصوت الانكسار الأول. لكنه، هذه المرة، عندما عاد، إنما عاد ليبقى. كل المنافي مناف، ومنفى الوطن وطن. ولا يرث الوطن سوى أهله. ولا يرث ترابه سوى أهله. ولا يرث أمله سوى أهله. وهو الوارث في كل الأحوال. من فلسطين المحتلة إلى بيروت، فإلى بلاد أخرى، فإلى أسفار، ليكون سفير فلسطين الحي، سفيرها الشعري، سفيرها المقاوم، سفير ثورتها، سفير شهدائها، سفير شعبها. انه السفير بحجم القضية. السفير بحجم المواجهة. السفير بحجم شاعر كبير، عرف، كيف يرسم فلسطين، بكل وجوهها، وتحولاتها، وآلامها، بقصيدة بدأت صوتاً معلناً، يخترق العقول والقلوب والعالم، بنبرة عمومية، رفيقة، قريبة، شرسة، مباشرة، محسوسة، وكأنما، وهو يكتب، تكتب معه الأمة كلها، والناس كلهم: كان شعر محمود درويش في تلك اللحظات الجمْرية، يُوَقّعه بحبر ناسه وأنفاسهم، وشغفهم وإيمانهم: من الناس إلى الناس. وعندما كان لهذا الصوت العمومي أن يمتد في فلسطين وكل العالم، ويكون الصوت المعلن، عرف محمود درويش، بعدها، كيف يمزج هذا “القدر” الشعري العمومي بذاتية تحترق وتلتهب، وبحميميات، هي إلى خصوصيتها، كمن يمزج هواء الوطن بهواء القلب، وبأنفاس الحبيبة، وبإيقاعات “الغريب”، وبتفاصيل الحياة، واللوز، والليمون.. والموت.
وكان محمود، بذلك، يمزج، بين قوة الإحساس المرتعش بالقريب، وبالقلق الوجودي، وبالحب، وبالتأمل، وبين انفتاح على لغة خصوصية، لغة شعرية تحمل قلقها بقدر ما تحمل قلق الأسئلة، من أسئلة الوطن إلى أسئلة الشعر من اجتراح وطن صعب إلى اجتراح لغة مركبة. تماماً كما فعل الكبار من أهل النضال والقضايا الكبيرة، حين كان للغتهم العالية، وذواتهم الخاصة، الحيز الكبير، والشعرية المتجددة كبابلو نيرودا، ولوركا، والبرتي وناظم حكمت وسواهم. وكأنه يكاد يكون هنا، الاستثناء بين الشعراء العرب، الذين تحسب لكثيرين منهم أعمالهم الأولى ثم يتعبون، وهو، محمود درويش، الذي تعب بشعره النضالي الأول، لتحسب له انجازاته الأخيرة، الممتدة على عقدين، والتي اتسمت بقلق حي بالتجديد وبالخروج من العمومي إلى الخصوصي، ومن الشعر كمجرد سلاح للقضية، إلى الشعر كسلاح للشعر، من دون أن يفترق عن “قدره” النضالي المقاوم. وهكذا تآخت عنده النبرتان، واستوت عنده اللغتان، واحدة تهجس بقلق الناس، وأخرى بقلقه الشعري، لكن على غير انفصال، وعلى غير تنافر، وعلى غير تضاد.
ولهذا، نقول، ان الصديق الأقرب محمود درويش، مات في عزّ مقاومته الشعرية، موتَه في عز مقاومته السياسية، والانسانية، مات في أوجّ تألقه، وتدفقه، وتملكه أدواته، وتحوله، وخروجه على السائد المعمم الى تلك النقاط المستحيلة من القصيدة.
خسرناك يا محمود. وفي “الليلة الظلماء يفتقد البدر”. انطفأ البدر، والليلة الظلماء أكثر ظلمة وسواداً.
خسرناك يا محمود، أنت الذي كنت ذاتك في وداعات لا تنتهي، ها أنت تُلوِّح لنا بالمنديل الأخير، من وراء السُّجب والغيوم، والآمال، والموتى. كأنما آن “للفارس ان يترجل”، وأن ليوليس ان يعود الى أرضه. ففي رحيلك عودات. وفي عودتك ألف رحيل. هكذا نبكيك يا محمود، بدمع الأخوة والصداقة والمصير والقدر، نبكيك، وأنت الحصان الذي خلّفت وراءك ما خلّفت من “صهيل” عال، ومن شعر عالٍ، ومن نبل عال!.
هكذا ترحل يا محمود، وكنّا بانتظارك، تماماً، كما ترحل الأوطان، والناس بانتظارها.
أرضك تنتظرك ربما للمرة الأخيرة، لكي لا تغادرها، الى أي منفى. فقد تعبتَ من المنافي، وتعبتْ منك المنافي. فآنَ لك أن تكون حيث لا كان للمنافي، ولا للرحيل، في منفاه الأخير.
كأنك يا محمود اليوم اول الداخلين الى فلسطين، وكأن فلسطين أول الواصلين اليك.
المستقبل