محمود درويش: عندما أكتب أترك مطبخي الشعري مفتوحا
حاوره: سيد محمود
منذ أيام يرقد الشاعر الفلسطيني الكبير محمود درويش في أحد مستشفيات الولايات المتحدة الأمريكية طلبا للشفاء بعد جراحة دقيقة في القلب.
منذ أكثر من عامين يرقد الحوار الذي أجريته معه في جهاز الكمبيوتر الخاص بي وما أن وصلني خبر مرضه حتي عدت إليه وتذكرت قصتي معه، فقد التقيت الشاعر الكبير في البحرين، حيث كنت أعمل، في مصادفة غريبة جمعتنا من جديد، إذ كانت هذه هي المرة الأولي التي يزور فيها الشاعر الكبير مدينة المنامة في وقت كنت أعايش فيه اغترابا قاسيا لكنه حين رآني هناك رحب بي بطريقة منحتني ثقة كنت بحاجة إليها انذاك،
فالشاعر النجم فاجأني بمودة كبيرة أضافت إلي علاقتي به عمقا لا حد له، إذ دعاني إلي مرافقته في الأيام التي قضاها هناك في الفترة من 7 وحتي 10 مارس 2006 ثم منحني شرف إجراء هذا الحوار الحصري معه إذ لم يمنح مندوبي الصحف البحرينية كلها هذا الامتياز الذي جاء بعد أن عبرت معه محطات كثيرة للثقة، كانت المرة الأولي التي التقيت فيها بشاعر “سرير الغريبة” بحاجة إلي جولات تفاوضية طويلة ساعدتني علي إنجازها ثقة الزميل الإعلامي نبيل درويش مدير مكتب إذاعة مونت كارلو في القاهرة، الذي قدمني إلي درويش وصديقي الصحفي الفلسطيني المحرر الثقافي لوكالة الأنباء الفرنسية رياض أبوعواد ليجري كل منا حوارا صحفيا يخص المؤسسة التي يعمل معها.
وخلال الحوار الأول نجحت في بناء ثقة مع درويش جعلت من اللقاء بيننا طقسا ضروريا كلما عبر درويش فوق مديتنا الرائعة، وقد رافقته في أكثر من رحلة إلي مدن مختلفة، التقينا في الإسكندرية في صحبة كفافيس وزرنا دمشق وكنا معا في حضرة محمد الماغوط وأحمد عبد المعطي حجازي وعباس بيضون، وقد نشرت حواراتي كلها معه في صحيفة الحياة اللندنية التي كنت أعمل معها.
ولا شك أن القارئ الذي سيقرأ هذا الحوار سيسأل نفسه لماذا لم ينشر لقاء المنامة؟ الإجابة ببساطة تعود إلي سبب فني محض يعود إلي جهلي التام باستخدام “الكاسيت الديجتال” الذي كنت استخدمه للمرة الأولي لإجراء هذا الحوار.
وبفضل هذا الجهل نتجت مجموعة من الأخطاء الفنية أصابت شريط الصوت بتشوه منعني من نشر الحوار الذي بقي منه مجموعة من التأملات التي أوردها درويش في إجاباته عن أسئلتي وأنا في جناحه الخاص في فندق “راديسون دبلومات” في قلب البحرين، وقد خفت أن تكون هذه التأملات عند نشرها إجابات ناقصة قد تثير غضب شاعري المفضل وقد قلت له ذلك حين سألني في دمشق خلال لقاء بيننا في مايو 2006 عن مصير الحوار الذي بات الآن أقرب إلي “الوثيقة” التي أظن أن فيها الكثير من “الهدايا” والورود التي يقدمها درويش إلي قرائه حتي وهو علي سرير المرض ولا هدف لي من ورائها سوي أن أعلن له من جديد عن حبي وامتناني.
سألته يومها عن علاقته بالجمهور فقال لي: “جمهوري يتغير معي، إذ يلفت نظري الآن طريقة إصغائه لشعري، أشعر أن غالبيته تجاوز طريقته القديمة وبات معنيا بشاعرية الشعر وليس بموضوعه، ويبدو لي أن قارئي قد اختارني، يعرف الآن لماذا هو قادم إلي، أشعر أنه يأتي للبحث عن مفاجأة شعرية في كل مرة، وزاد اقتناعا باقتراحاتي الشعرية الجديدة، ومن جهتي لا أحب أن أقدم له “رشوات” وإنما أقدم له “هدايا” بين القراءات ألجأ أحيانا لتقديم قصيدة قديمة كنوع من ربط الحاضر للماضي، واليوم لا أتكئ في أمسياتي علي شعري القديم، أريد أن أقول للناس إنني وفيا لكم. ولكن ليس الوفاء بتكرار المتوقع وإنما بالمفاجأة”
قلت له: بعض الشعراء الشباب كانوا يعيبون عليك إلحاح البعد السياسي علي شعرك فهل يزعجك هذا الكلام، فقال: “يشرفني أن يكون في شعري بعد سياسي فلا أستطيع أن أدعي أو أن أطلب من شاعر أن يتخلي عن الناس وعن قضاياهم ولكن السؤال هو: كيف يمكن أن تعبر عن ذلك ؟ هل تكتب بلغة سياسية مباشرة أم تجعل السياسي يستوعب شعريا بحيث لا يقدم كمادة خام”.
هنا قلت له هل هي لعنة الفلسطيني التي حذرت منها وقلت في أكثر من مرة: “أنقذونا من الحب القاتل” فقال: “لعنة الفلسطيني أنه مقروء سلفا، نحن نعرف ماذا سيقول؟ وماذا سيكتب؟ وماذا سيرفض؟وماذا سيصور من أفلام قبل أن نري أفلامه؟
هو دائما في خانة ثابتة تجعلنا نتوقع منه ما الذي يقدمه؟ وهذا التوقع القاسي يضع الشعر الفلسطيني في زاوية، والآن لا يقال عن أي شاعر، هذا شاعر مصري أو لبناني أو عراقي، يقال: هذا شاعر عربي باستثناء الفلسطيني الذي يقدم بهويته بحيث تسبق اسمه، ويعرف بقضيته وليس بإبداعه الشعري ومع كل الاحترام لهذه الهوية وللأسف بعض النقاد عملوا علي محاصرة النص الفلسطيني، أما صرختي التي أشرت إليها في سؤالك فهي لم تسبب مأزقاً ومن الطبيعي أن تفتح آفاقا جديدة وأنا أسالك سؤالاً آخر: لولم أكن موجودا هل كان الشعر الفلسطيني سيكون أفضل؟!
عدت لأسأله من جديد: هل تشعر بأن الشعراء الشباب لديهم أحساس بالغيرة من قدرتك علي التجديد وامتلاك الجمهور؟ فقال: “الجمهور لا يحتكره أحد، وأفضل شيء لمقاومتي هو أن تكتب نصا مختلفا عني، وهذا الاختلاف هو الذي سيفتح بابا أفضل أمام من يستشعر أن قصيدتي وعلاقتي بالجمهور وضعته في مأزق، أما من يتتبع خطاي فهذا لا يفيد”.
قبل فترة من لقائي مع درويش كان قد أطلق في تونس تصريحاته الشهيرة التي فسرت بأنها هجوم علي شعراء قصيدة النثر والتي قال فيها إن “المتنبي أكثر حداثة من كل ما يكتب الآن” ولذلك سألته عما قاله وعن استقباله لردود أفعال الشعراء الشباب فقال لي: “لا علاقة بين رأيي في المتنبي ورأيي في قصيدة النثر فلماذا يغضبون من حبي للمتنبي، فما زلت أتصور أنه كشاعر نجح في امتحان التاريخ والزمن، أما الكلام عن قصيدة النثر في هذا السياق فاعتقد أن هناك نماذج مضيئة جدا لكن دائما لا يمكن إرضاء الجميع”.
من الطبيعي وأنت في حضرة شاعر كبير له اقتراحه الجمالي المميز وله جماهيرية عريضة لم يبلغها أي شاعر عربي معاصر أن تسأله عن دور النقد في حياته، ولكن إجابته كانت مفاجأة إذ قال فيها: “لاشك أن ضرورة الناقد في أن يعلم المنقود وأن يوجه القارئ، فهناك ناقد يكتب نصا مورزيا وأنا شخصيا أستفيد من أي نقد يكتب عن أعمالي حتي لو كان نقدا تجريحيا” سألته: هل تعرضت لنقد من هذا النوع يمكن أن تسميه نقدا تشهيريا وما مصدره؟ فقال: “أقصي نقد قرأته حول أعمالي قدمه أستاذ سوري في سياق محاضرات قدمها عن الشعر العربي الحديث وعندما تكلم عني للأسف أخرجني من سياقي الشعري وتعامل مع نصي بكراهية تحاول أن تحطم كل شيء وتنطق بثقافة التكفير”.
وتابع درويش بقليل من الأسي: “كنت أظن أن هذا غير طبيعي ولكن علي أن أعترف أنه من الطبيعي أن أتعرض للتجريح بوصفي شخصية عامة ولكل شخص الحق في أن يدافع عن خياره ولكن أفضل دفاع يمكن أن يقدمه الشاعر عن نفسه هو خياره الفني أو نصه الشعري الذي يقدمه وليس محاولة الاعتداء علي تجارب الآخرين، من السهل مثلا علي الشعراء الشباب أن يقولوا إنني لا أساوي شيئا، لكن هل هذا سيفيد نصوصهم الشعرية؟”.
وهنا واجهته من جديد.. لكن الشباب يتهمونك بأنك لا تتابع ما يكتبون ولذلك تطلق علي نصوصهم أحكاما عاما؟ فقال: “هذا غير صحيح، أنا أتابع قدر طاقتي، لكن لا أستطيع أن أقبل بالتشابه أو التطابق بين غالبية ما ينشر، فكثير من النصوص التي يكتبها عشرات من الشعراء تشعر معها أن شاعرًا واحدًا هو من كتبها وعلي هؤلاء الشعراء أن يبحثوا عن نبرتهم الخاصة ويقدمونها، وأنا لا أود الإشارة إلي أسماء معينة جاءت في أجيال تالية ولكني معجب بأسماء كثيرة منها بسام حجار، وطاهر رياض، وأمجد ناصر، وزهير أبوشايب، وعباس بيضون، وللأسف هناك آلاف الناس يكتبون شعرا أو خواراً يسمونه «الشعر» وأنا أتلقي بالبريد عشرات الكتب وطبعا ليس لدي وقت لقراءتها جميعا، لكن إذا حدث ولفت شخص نظري إلي نص أو إلي شاعر معين أقرأه فورا، فلا أزال بحاجة إلي دليل نقدي يقرأ لي ويوجهني.
– سألته: كيف تقيم نصك الذي تكتبه؟ فقال: علي كل شاعر أن يكون ناقد نفسه، ويجري تعديلات ضرورية علي ما يكتبه، ليصمد أمام الزمن. علي أساس ألا يتكرر ما كتبه من قبل، وأنا لم أتخذ قرارا بتغيير نصي كما لم أعد برنامجا لتغييره، ما حدث له علاقتي بطبيعتي الشخصية، فأنا لا أشعر بالرضا عمّا أكتبه ولا تنتابني فكرة أنني بلغت الشعر ولا تزال عندي رغبة شديدة في الوصول إلي “صفاء الشعر” الذي يخفي ضغط اللحظة الراهنة عليه ويصلح لأن يقرأ في أي زمن. ربما تتصور أن هذا “وهم” ولكنه أحساس يقودك إلي شيء جميل، وبالتالي يجب أن تسعي إليه. وعملية التطور في شعري تدريجية ومستمرة، منذ أن بدأت، إذ ظل فيها الجدل بين عملية الاستمرار والقطيعة يرافقها وعي نقدي أعلي ومعرفة أكثر وخبرة أكبر سمحت لي بأن أحقق بعضاً ما وعدت به، وانتهيت إلي قدرة التمرد علي نصي الشعري بحيث لا أحبس نفسي في صورتي باستمرار. وعندما أكتب أترك مطبخي الشعري مفتوحا”.
ما طرحه درويش عن الشعر الذي يكتب حاليا كان كفيلا بإثارة شهوتي لأساله عن رأيه في ظاهرة غياب الجمهور عن الأمسيات الشعرية ” فقال لي: غياب الجمهور عن أمسيات الشعر ليس دليل أزمة، ولكن الشعر الذي لا يقرأه أحد أو لا يسمعه أحد يجب ألا يحتفي بعزلته التامة تحت شعار أن القارئ سيأتي من المستقبل”