محمود درويش: التعاقد الشاقّ
صبحي حديدي
يحتلّ محمود درويش موقعاً فريداً قلما حظي به شاعر في الثقافة العربية الحديثة، ولا يقارن نفوذه الأدبي إلا بالنفوذ الخاص الذي تمتّع به كبار الشعراء العرب في أطوار ازدهار الشعر، حين كان الشاعر أشبه بنبيّ الأمّة، والناطق المعبّر عن كيانها، وعرّافها الذي يستبصر أقدارها الماضية والحاضرة، وتلك الكامنة في مجهول لا يرى معلومه سواه، في السموّ والانتصار كما في الانكسار والهزيمة. وفي ثقافات الأمم تكررت على الدوام تلك البرهة الاستثنائية التي تُلقى فيها على عاتق شاعر مهمة كبرى مثل التقاط الوجدان الجَمْعي للأمّة، وتحويل الشعر إلى قوّة وطنية وثقافية، روحية ومادية، جمالية ومعرفية. ولقد توفّرت للشاعر أسباب موضوعية وأخرى ذاتية لبلوغ هذا الموقع، وحدث أحياناً أن كان التفاعل بين هذين النوعين من الأسباب في صالح مشروع درويش الشعري في حصيلته، كما حدث في أحيان أخرى أنّ ضغط الشروط الموضوعية ألزم الشاعر بدفع برنامجه الجمالي إلى الصفّ الثاني والسماح للمهمة الوطنية باحتلال الصفّ الأول. ولكنه في الحالتين أثبت حساسية فائقة تجاه تطوير لغته وأدواته وموضوعاته، خصوصاً في العقدين الأخيرين من مسيرته الشعرية حين استقرّت كثيراً معادلة العلاقة التبادلية الوثيقة بين تطوير جمالياته الشعرية وتطوّر نفوذه الأخلاقي والثقافي في الوجدان العربي.
وفي طليعة الأسباب الموضوعية يأتي انتماء الشاعر إلى تلك الحركة الشعرية الغنية التي كانت تتطوّر في فلسطين المحتلة منذ مطلع الستينات على يد شعراء مثل توفيق زياد وسميح القاسم وسالم جبران ودرويش نفسه، ثم اكتشفها العالم العربي في أوج هزيمة 1967، فأطلق عليها اسم اشعر المقاومةب في غمرة الحاجة الماسة إلى بدائل خَلاصية تخفف وطأة الاندحار وتعيد الأمل إلى روح تعرّضت لجرح عميق. ورغم أن هذه الحركة الشعرية لم تكن منفصلة عن التيارات العامة في الشعر العربي آنذاك، فإنها مع ذلك حملت نكهة خاصة مختلفة، نابعة جوهرياً من موضوعات ذات حساسية وجدانية (الأمل، المقاومة، الأرض، الهوية الوطنية)، وكذلك من أشكال في التعبير لم تكن مألوفة في الشعر العربي آنذاك.
وبين مجموعة شعرية وأخرى أخذت سلطة درويش الأدبية تتعاظم وتترسخ، فأدرك أن موقع الشاعر الناطق باسم الوجدان الجمعي للأمة يقتضي قبل أي شيء آخر تطوير الموضوعات والأدوات والأساليب التي تضمن للشعر أن يواصل الحياة تحت اسم وحيد هو الشعر، وأن لا ينقلب إلى تعاقد سكوني شبه إيديولوجي بين الشاعر الذي ارتقى إلى مصاف النبيّ، وبين الوجدان الجمعي الذي أسلم للشاعر قسطاً كبيراً من الحق في تكييف الميول وردود الأفعال. ومنذ هذا الطور واصل درويش وفاءه لتعاقد ثنائي ـ شاقّ وخلاّق ـ مع موقعه كشاعر: تعاقد مع مشروع شعري لا بدّ له من أن يتطور ويتكامل وفق دينامية متصاعدة، وتعاقد مع قارىء عنيد عريض يتشبث بالطور الراهن من خطاب شاعره النبي لأنه يجد فيه الملاذ.
والمراقب للمشهد الشعري العربي المعاصر لا يجد صعوبة كبيرة في ملاحظة السلطة الأدبية الكبيرة التي يحظى بها شعر درويش، في مسألة الشكل والتجريب بصفة خاصة. فالشعراء الذين يقلدونه لا يجدون حرجاً في وضوح هذا التقليد وصراحته، والذين يزعمون الاستقلال عن منجزاته لا ينجحون غالباً في إخفاء الضغوطات الداخلية التي يمارسها شعره على خياراتهم الأسلوبية واللغوية والمجازية، مثلما على تجاربهم الشكلية. والواقع أنّ مشروع درويش الشعري يمارس، في الحالتين، تأثيرات إيجابية تصبّ في صالح تطوير تيارات الشعر العربي المعاصر.
”’ في 13 آذار (مارس) 1941 ولد محمود درويش في قرية االبروةب التي تقع مسافة 9 كيلومترات شرق عكا، وكان الابن الثاني في أسرة فلاّحية تتكون من ثمانية أفراد، خمسة أولاد وثلاث بنات. ولقد عاش طفولة بريئة في أحضان هذه القرية الوادعة الواقعة على هضبة خضراء ينبسط أمامها سهل عكا. في سنّ السابعة اتوقفت ألعاب الطفولةب كما يعبّر في وصف ليلة النزوح من االبروة’، تحت ضغط العمليات العسكرية التي شنتها العصابات الصهيونية بهدف تفريغ قرى الجليل من الفلسطينيين. وفي هذا يقول درويش: إني أذكر كيف حدث ذلك… أذكر ذلك تماماً: في إحدى ليالي الصيف، التي اعتاد فيها القرويون أن يناموا على سطوح المنازل، أيقظتني أمّي من نومي فجأة، فوجدت نفسي مع مئات من سكان القرية أعدو في الغابة. كان الرصاص يتطاير من على رؤوسنا، ولم أفهم شيئاً مما يجري. بعد ليلة من التشرّد والهروب وصلت مع أقاربي الضائعين في كلّ الجهات، إلى قرية غريبة ذات أطفال آخرين. تساءلت بسذاجة: أين أنا؟ وسمعت للمرّة الأولى كلمة البنانب.
يخيلّ إليّ أنّ تلك الليلة وضعت حدّاً لطفولتي بمنتهى العنف.
فالطفولة الخالية من المتاعب انتهت. وأحسست فجأة أنني أنتمي إلى الكبار. توقفت مطالبي وفُرضت عليّ المتاعب. منذ تلك الأيّام التي عشت فيها في لبنان لم أنس، ولن أنسى إلى الأبد، تعرّفي على كلمة الوطن. فلأوّل مرّة، وبدون استعداد سابق، كنت أقف في طابور طويل لأحصل على الغذاء الذي توزعه وكالة الغوث. كانت الوجبة الرئيسية هي الجبنة الصفراء. وهنا استمعت، لأوّل مرّة، إلى كلمات جديدة فتحت أمامي نافذة إلى عالم جديد: الوطن، الحرب، الأخبار، اللاجئون، الجيش، الحدود… وبواسطة هذه الكلمات بدأت أدرس وأفهم وأتعرّف على عالم جديد، على وضع جديد حرمني طفولتيب.
بعد سنة تسلّل درويش، برفقة عمّه والدليل الذي يعرف مجاهل الدروب في الجبال والوديان، عائداً إلى فلسطين ليستقرّ في قرية ادير الأسد’، لأنّ قريته الأصلية االبروةب كانت قد هُدمت تماماً وأقيمت بدلاً عنها مستوطنة إسرائيلية. ولم يطل الوقت حتى فهم الفتى أنه فقد أرض الأحلام الأولى نهائياً: ‘كلّ ما في الأمر هو أنّ اللاجىء قد استبدل عنوانه بعنوان جديد. كنتُ لاجئاً في لبنان، وأنا الآن لاجىء في بلادي (…) وإذا أجرينا مقارنة بين أن تكون لاجئاً في المنفى، وأن تكون لاجئاً في الوطن، وقد خبرت النوعين من اللجوء، فإننا نجد أن اللجوء في الوطن أكثر وحشية. العذاب في المنفى، والأشواق وانتظار يوم العودة الموعود، شيء له ما يبرره.. شيء طبيعي. ولكن أن تكون لاجئاً في وطنك، فلا مبرر لذلك، ولا منطق فيهب.
وفي مدرسة القرية كان المدير والأساتذة يحبّون هذا الفتى المتفوّق في الدراسة والرسم، والذي كان يحاول كتابة الشعر الموزون على غرار قصائد الشعر العربي القديم، وكانوا يخبئونه كلما كانت الشرطة الإسرائيلية تأتي إلى القرية لأنه يُعتبر في حكم االمتسلل’، وكانوا يحذّرونه من الاعتراف بأنه كان في لبنان، ويعلّمونه أن يقول إنه كان مع إحدى القبائل البدوية في الشمال.
وكان اللجوء إلى الشعر هو أحد أشكال بحث محمود درويش عن اوطن لغويب يخفّف من حدّة النفي داخل الوطن الحاضر والغائب معاً. وفي وصف ذلك يقول درويش: بدأت علاقتي بالشعر عن طريق علاقتي مع المغنّين الفلاحين، المنفيين من قبل الشرطة. كانوا يقولون أشياء غريبة على درجة من الجمال بحيث أنني لم أكن أفهمها، ولكني كنت أشعر بها (…) وهكذا وجدت نفسي قريباً من أصوات الشعراء الجوّالين المغنّين، وفيما بعد أخذت أستمع إلى الشعر العربي الكلاسيكي الذي يروي مغامرات عنترة وسواه من الفرسان، فاجتذبني هذا العالم وصرت أقلّد تلك الأصوات، وأخترع لنفسي خيولاً وفتيات، وأحلم في سنّ مبكرة أن أتحوّل إلى شاعر (…) وقد مررت بتجربة مبكرة علمّتني أنّ ما أفعله، وما ألعبه، هو أخطر بكثير مما أتصوّر. ذات يوم دُعيت لإلقاء قصيدة في المدرسة، ومن الغرابة أنّ المناسبة كانت ذكرى استقلال إسرائيل. وكنت وقتها في الثانية عشرة من عمري، وكتبت شيئاً سمّوه قصيدة، تحدثت فيها عن عذاب الطفل الذي كان فيّ، والذي شُرّد وعاد ليجد االآخرب يقيم في بيته، ويحرث حقل أبيه. قلت ذلك كلّه ببراءة شديدة. وفي اليوم التالي استدعاني الحاكم العسكري، وهدّدني بشيء خطير جداً. ليس بسجني، بل بمنع أبي من العمل. وإذا مُنع أبي من العمل، فإنني لن أتمكن من شراء الأقلام والأوراق لكي أكتب. ساعتها فهمت أنّ الشعر حكاية أكثر جدّية مما كنت أعتقد، وكان عليّ أن أختار بين أن أواصل هذه اللعبة الأكثر جدّية مما أتصوّر، أو أن أتوقف عنها. وهكذا علّمني الاضطهاد بأنّ الشعر قد يكون سلاحاً’.
ولقد واصل محمود درويش اللعبة! وبين عام 1961 و1967 سُجن خمس مرّات. كانت الأسرة قد انتقلت من ادير العدسب إلى قرية ثانية هي االجديدة’، وأمّا محمود فقد استقرّ في مدينة حيفا، وانتسب إلى الحزب الشيوعي، وعمل في صحيفتي االاتحادب واالجديدب اللتين كانتا المنفذ الإعلامي الشرعي الوحيد للعرب الفلسطينيين. وفي عام 1971 قطع درويش دورة دراسية في موسكو وظهر فجأة في القاهرة، فأثار خروجه ضجة كبرى واستُقبل في العالم العربي بترحاب كبير. بعد إقامة في القاهرة استغرقت سنتين، انتقل درويش إلى العاصمة اللبنانية بيروت، وعمل رئيساً لتحرير فصلية اشؤون فلسطينية’، ثمّ أسّس الفصلية الثقافية االكرملب التي ستصبح أهمّ دورية ثقافية عربية. وفي عام 1982، إثر الاجتياح الإسرائيلي للبنان، غادر درويش إلى تونس ثمّ إلى باريس التي بقي فيها حتى عام 1995 حين عاد إلى رام الله، فلسطين، واستأنف إصدار االكرملب من هناك.
”’ ويمكن تقسيم تطوّر تجربة محمود درويش الشعرية إلى المراحل التالية: 1 ـ مرحلة االطفولة الشعريةب وتمثّلها مجموعة اعصافير بلا أجنحةب (1960) التي سيتخلّى عنها درويش سريعاً لأنها، بالفعل، كانت تمثّل محاولات مبكّرة لا تعكس صوته الخاصّ بقدر ما تردّد أصداء تأثّره بالشعر العربي الكلاسيكي والحديث الرومانتيكي.
2 ـ االمرحلة الثوريةب وتمثّلها مجموعته اأوراق الزيتونب (1964)، حين انتقل درويش من الهمّ الذاتي إلى الهواجس الجماعية، والحلم الثوري، والتغنّي بالوطن، وتثبيت الهويّة (كما في قصيدته الشهيرة ابطاقة هوية’، التي ستشتهر باسم آخر هو السطر الاستهلالي فيها: اسجّل أنا عربيب والتي تحوّلت إلى أيقونة لأفكار المقاومة والصمود والإعلان عن الهويّة، في الشارع العربي العريض أكثر بكثير من الشارع الفلسطيني نفسه)، وحسّ الالتزام الثوري، والتضامن الإنساني والأممي (كما في قصائده اعن إنسان’، واعن الأمنياتب والوركاب).
3 ـ االمرحلة الثورية ـ الوطنية’، وتمثلها مجموعاته اعاشق من فلسطينب (1966)، واآخر الليلب (1967) واالعصافير تموت في الجليلب (1969) واحبيبتي تنهض من نومهاب (1970). وفي هذه المرحلة كان شعر درويش قد أصبح جزءاً أساسياً من الحركة التي عُرفت في العالم العربي باسم اشعر المقاومة’، وضمّت شعراء من أمثال توفيق زياد وسميح القاسم. وكان شعره يتطوّر ضمن المنطق ذاته والموضوعات ذاتها، ولكنه امتاز عن أقرانه في خصائص عديدة بينها غزارة إنتاجه، والأفق الإنساني الأعرض لموضوعات قصائده، وحسن توظيفه للأسطورة والرموز الحضارية الشرق أوسطية والهيللينية، وبراعته في أسطَرة الحدث اليومي والارتقاء به إلى مستوى ملحمي في الآن ذاته، ورهافة ترميزه للمرأة بالأرض، ومزجه بين الرومانتيكية الغنائية والتبشير الثوري، وسلاسة خياراته الموسيقية والإيقاعية، وحرارة قاموسه اللغوي، وميله إجمالاً إلى الصورة الحسية بدل الذهنية.
4 ـ امرحلة البحث الجمالي’، وهي التي تبدأ مع خروج درويش إلى العالم العربي وانتقاله من القاهرة إلى بيروت. لقد أراد البرهنة على أنّه شاعر صاحب مشروع جمالي منذ البداية وقبل أيّ ‘تصنيفب آخر، وأنّ اقتران تجربته بـ اشعر المقاومةب لا يعني أنه لم يكن يسعى إلى تطوير موضوعاته وأدواته ولغته الشعرية على نحو يتفاعل مباشرة مع حركة الحداثة الشعرية العربية ويغني تيّاراتها. في عبارة أخرى هذه هي مرحلة اصراعب محمود درويش مع قارئه العربي الذي أحبّه وأراد أن يسجنه في صورة اشاعر المقاومةب فقط، في حين أنّ درويش كان يعاند في البرهنة على أنّ شاعر المقاومة ينبغي أن يكون شاعراً حقيقياً أوّلاً، وشاعراً جيّداً ثانياً وأساساً.
ومنذ سنة 1972، حين صدرت مجموعته اأحبّك أو لا أحبّك’، وهي الأولى له خارج فلسطين، واصل محمود درويش تطوير مشروعه الشعري على نحو منتظم وعنيد، بحيث كانت كلّ مجموعةجديدة تشكّل نقلة أسلوبية عن المجموعة التي سبقتها: امحاولة رقم 7ب (1973) تضمنت مزجاً بين الموضوع الغنائي والاستعادة التاريخية ـ الأسطورية للمكان الفلسطيني ـ الكنعاني (كما في قصائد االنزول من الكرملب واالخروج من ساحل المتوسطب واطريق دمشقب)؛ ومجموعة اتلك صورتها وهذا انتحار العاشقب (1975) مثّلت نقلة أكثر وضوحاً نحو القصيدة الطويلة التي تمزج بين التأمّل الغنائي والسرد الملحمي؛ ومجموعة اأعراسب التي تعود إلى الموضوع الوطني ولكن ضمن صياغات إنسانية ـ ملحمية أوسع، وأخرى تسجيلية ذات ارتباط بوقائع محدّدة في الزمان الفلسطيني (كما في قصائد اكان ما سوف يكونب واأحمد الزعترب واقصيدة الأرضب).
5 ـ االمرحلة الملحمية’، وهي التي تعقب الاجتياح الإسرائيلي لبيروت سنة 1982 وخروج الفلسطينيين من لبنان إلى بحر جديد وتيه جديد. وفي هذه المرحلة كتب درويش قصيدته الطويلة الشهيرة امديح الظلّ العاليب (1983) التي صنّفها في ما بعد تحت تسمية اقصيدة تسجيليةب لأنها تصف أجواء مقاومة الاجتياح، ومعنى مدينة بيروت، ومجزرة صبرا وشاتيلا، وأسئلة الوجود الفلسطيني بعد الخروج إلى أوديسة جديدة. وإلى هذه المرحلة تنتمي أيضاً مجموعة احصار لمدائح البحرب (1984) التي احتوت على اقصيدة بيروتب بوصفها العمل الشعري الطويل الثاني الذي يكمل ملحمة الخروج الفلسطيني من لبنان.
6 ـ االمرحلة الغنائية’، وهي تشمل القصائد التي كتبها درويش في باريس، وظهرت بعدئذ في مجموعتَيه اهي أغنية، هي أغنيةب (1986)، واوردٌ أقلّ’ (1986). وفي هذه القصائد استمرّ البحث الجمالي الذي بدأ في بيروت وانقطع فجأة مع الاجتياح الإسرائيلي وخروج الفلسطينيين من لبنان، وبدا أنّ درويش يتفرّغ أكثر من ذي قبل لهواجس الذات والتأمّل الميتافيزيقي، والمحاورة الغنائية بين الشاعر والعالم. وهي أيضاً مرحلة استكشاف مسائل الشكل والبنية الموسيقية للقصيدة، إذْ كتب درويش الرباعيات، وحاول محاكاة إيقاع العزف المنفرد في الموسيقى، وكتب القصيدة القصيرة المعتمدة على االفقرةب الشعرية المتصلة بدل السطور، أو القصيدة الطويلة المعتمدة على قصائد قصيرة من عشرة سطور (كما في مجموعته اورد أقلّ’). ولعلّ هذه الفترة هي أكثر مراحل تجربة درويش قلقاً وتجريباً وتطويراً وخصوبة.
7 ـ االمرحلة الملحمية ـ الغنائية’، وتمثلها قصائد مجموعتَيه اأرى ما أريدب (1990) واأحد عشر كوكباً’ (1992). وهذه هي المرحلة التي شهدت عودة درويش إلى القصائد الطويلة والمشهد الملحمي العريض الذي لا يقهر النبرة الغنائية حتى وهو يستعيد الموضوع التاريخي، والذي ينفتح على تجارب إنسانية تراجيدية كبرى (المغول، الهنود الحمر، الأندلس، طروادة) ويبحث للفلسطيني عن موقع فيها، للفلسطيني ذاته أوّلاً ثمّ للإنسانية بعدئذ. وفي هذه المرحلة كان درويش يستكمل الفصل الأنضج من تجربته في مصالحة الموضوع الملحمي مع الموضوع الغنائي، وكان يقدّم صياغة فذّة لمراوحة الفلسطيني بين صورة البطل الملحمي الملتَقط على هيئة ضحية، وصورة الفلسطيني العادي الواقف أمام منعطف السلام واستحقاقات اتفاقية أوسلو. وكان درويش يرسم صورة شعرية رفيعة لآلام وآمال هذه المراوحة.
8 ـ امرحلة الموضوعات المستقلّة’، وتشمل مجموعتَي الماذا تركتَ الحصان وحيداً’ (1995) التي تدور حول موضوعة السيرة الذاتية للشاعر منذ الطفولة وحتى الآن، كما تدوّن سيرة المكان حين تحتويه الجغرافيا وينبسط فيه التاريخ، وسيرة دلالات المكان حين تنقلب إلى محطات للجسد وعلامات للروح؛ ومجموعة اسرير الغريبةب (1999) التي تدور حول موضوعة قصيدة الحبّ إجمالاً، وااغتراب الرجل في المرأة والمرأة في الرجل ودمجهما معاً’ كما يقول درويش. هذه هي مرحلة التفات درويش إلى شؤون نفسه كشاعر وإنسان، وإلى شؤون الفلسطيني بعد أن غادر مرحلة االبطولةب وانتقل إلى مرحلة اليوميّ والعاديّ.
وضمن مرحلة الموضوعات المستقلة هذه يمكن احتساب مجموعتين صدرتا ضمن سياقات خاصة، شخصية ذاتية تخصّ الشاعر، وأخرى وطنية عامة تخصّ الأوضاع في فلسطين. وهكذا صدرت اجداريةب (2000)، وهي قصيدة طويلة تقارب الـ 1000 سطر، لكي تسجّل سلسلة تأملات ملحمية كثيفة في موضوعة الموت على خلفية رمزية وأسطورية وتاريخية محتاشة بتوتر الوجود ومقاومة العدم وموقع الشعر والفنون في هذا الخضمّ كلّه، وذلك من وحي تجربة شخصية عاشها الشاعر حين خضع لعملية جراحية دقيقة في القلب سنة 1998. كما صدرت احالة حصارب (2000) لتدوّن يوميات الفلسطيني في سنوات استشراس آلة الاحتلال العسكرية والأمنية الإسرائيلية قبل وبعد مجزرة جنين وأعمال النسف والتصفيات الجسدية وبناء الجدار العنصري العازل. ولكنّ اليوميات لم تكن تسجيلاً حزيناً أو محزناً لعذابات الفلسطيني، بل أرادت أساساً القول إنه باق على قيد الحياة، يقاوم في صيغة آدمي من لحم ودمّ وليس في صيغة أسطورة ملحمية ورمز بطولي. 9 ـ المرحلة الراهنة في شعر درويش تستأنف برنامج البحث الجمالي والفنّي الذي بدأه الشاعر في بيروت مطلع السبعينيات وفي باريس مطلع الثمانينيات من القرن الماضي، ولكن في نطاق محدد أكثر هذه المرّة، هو تطوير شكل القصيدة العربية المعاصرة وجَسْر الهوّة بين الشكلين الرئيسيين السائدين في الكتابة الشعرية الراهنة، أي قصيدة التفعيلة وقصيدة النثر. ولأنّ درويش يؤمن بثراء البنية الإيقاعية للشعر العربي، وأنها ما تزال غنية وخصبة وقابلة للكثير من التطوير والتجريب، فإنّ هاجسه في المجموعات اللاحقة انصبّ على التطوير المرن والحيوي للتفعيلة عبر تطويعها ضمن تشكيلات موسيقية سلسة الوقع وخافتة الصوت تكفل تقريب المسافة بين الوزن والنثر. هذه هي السمة الكبرى في مجموعتَي الا تعتذر عمّا فعلتب (2004)، وبكزهر اللوز أو أبعدب (2005)، وكانت النماذج المبكرة لهذا البحث الجمالي والفنّي قد تبدّت كذلك في اسرير الغريبةب (1999)، لكنها لا ريب تبلغ ذروة دراماتيكية في كتاب درويش الأخير افي حضرة الغيابب (2006) الذي شاء الشاعر أن يطلق عليه صفة انصّ’ لأنه في الواقع يستكشف أرحب آفاق شعرية النثر، وينجز صيغة فريدة وفذّة من امتزاج الشعر والنثر في قول ينفكّ عنهما معاً ويشكّل جنساً مستقلاً جبّار الإيحاء وعبقريّ التأثير. وأمّا عمله الشعري الأخير اأثر الفراشة’، 2008، الذي يجمع بين التفعيلة والنصوص النثرية، فقد كان أكثر أعمال درويش اقتراباً من قصيدة النثر، خصوصاً وأنّ الشاعر تعمّد إنصاف الوزن حين أعاد إنتاج تشكيلات إيقاعية عالية تذكّر بتقنيات قصيدته في أواسط السبعينيات، كما أنصف النثر حين تلمّس شعريته على نحو جمالي ولغوي غير مسبوق في نتاجه. وإلى جانب الأعمال الشعرية (وهي 23 حتى الآن) كان درويش قد اعتاد كتابة المقال السياسي والثقافي منذ أيّام عمله في صحيفتَي االاتحاد واالجديدب في الداخل، وخلال رئاسته لتحرير الشهرية الثقافية اشؤون فلسطينيةب في بيروت خلال السبعينيات، وتأسيسيه لمجلة االكرمل’، الفصلية الثقافية الأشهر في العالم العربي، التي صدرت في بيروت، ثم انتقلت بعدئذ إلى نيقوسيا، وعادت مؤخراً إلى رام الله. ومقالات درويش جُمعت في الكتب التالية: ااشيء عن الوطن’، ‘وداعاً أيتها الحرب، وداعاً أيها السلام’، ‘يوميات الحزن العادي’، ‘في وصف حالتنا’، ‘عابرون في كلام عابر’، مجموعة االرسائلب المتبادلة مع الشاعر الفلسطيني سميح القاسم، وبحيرة العائدب الذي ضمّ منتخبات من مقالاته على امتداد عقدين.
غير أنّ كتابه النثري الأشهر يظلّ ‘ذاكرة للنسيان’، وهو عمل شبه روائي يصوّر فيه درويش تفاصيل العيش اليومي تحت الحصار الإسرائيلي لبيروت سنة 1982 على نحو مذهل في بساطته وعمقه وشاعريته العالية. وقد اشتهر كثيراً ذلك المقطع الذي يصف فيه درويش نضاله من أجل الانتقال تحت القصف من صالون البيت إلى المطبخ لصنع فنجان قهوة، وكيف تحوّل غلي القهوة إلى طقس إنساني فريد واستثنائي.
”’ وإذا كان مشروع محمود درويش الشعري هو مشروع تراجيدي في الجوهر، لأنّ ‘وعي الفلسطيني بالتراجيديا عالٍ بدرجة تكفي لكي يتماهى مع أي تراجيديا منذ الإغريق وحتى الآنب حسب تعبيره، فإن الملحمية الغنائية هي السمة المركزية في هذا المشروع. لقد حاول اإطلاق اللغة الشعرية في أفق ملحمي يكون فيه التاريخ مسرحاً لمناطق شعرية فسيحة تتسع لتجوال غير محدود للشعوب والحضارات والثقافات، ولبحث عن عناصر الهوية الذاتية ضمن اختلاط وتصادم وتعايش الهويات’، كما يقول الشاعر عن نفسه.(1) ‘ناقد من سورية يقيم في باريس (1) نُشر هذا النصّ، بالفرنسية أولاً، في مختارات درويش الشعرية La terre nous est ‘troite، التي صدرت سنة 2000 عن دار النشر الفرنسية غاليمار، في سلسلتها الشعرية الشهيرة، باختيار الشاعر وترجمة الياس صنبر. وقد تمّ تحديث النصّ بما يتيح الإشارة إلى أعمال درويش الجديدة.