سِماهم في صورهم
خافيار ماري
في عالم الأدب اشتهر تشارلز ديكنز بكرسيه، وأوسكار وايلد بأناقته، ولم يكن بوسع إليوت فعل الكثير فيما يتعلق بآذانه. وهنالك المزيد، هنا يضعنا خافيار ماري أمام معرض خاص به يضم بعض الصور لبعض الأدباء في هذا الشأن، والتحليلات المتعلقة بها.
لا أحد يعلم بالضبط كيف كان سرفانتس يبدو أو يتصرف تماماً، ولا أحد يعرف بدقة كيف بدا شكسبير، ولعل الكثير من الوجوه والتصرفات التي تمر بنا يومياً تشبه إلى حد كبير هؤلاء، ولذا فقد انساقت الأجيال اللاحقة لوضع تصورات وأشكال توحي بالقلق والتردد والإضطراب والمعاني التي تخيلو وجودها في شخصياتهم تلك، والتي ربما لاتمت بصلة لهم، مثل شكسبير وسرفانتس.
في أغلب الأحيان اعتمد القراء على تصورات شخصية، فكل منهم رسم صورة له تبعاً للرواية أو الطريقة أو النهج الذي اتبعه الكاتب، وربما انتبه مؤلفو القرنين الأخيرين إلى تلك الناحية وتركوا خلفهم الكثير من الصور، أنا شخصياً، لدي اهتمام كبير بهذا، وعملت على تشكيل مجموعة غير منهجية بشكل كامل، وهي تشمل الآن حوالي 150 صورة.
القليل من تلك الصور تظهر الجسم بالكامل، فأغلبها يحوي صورة رأس الكاتب من دون جسده، والقلة تظهرأوضاع اضطجاع، جلوس أو وقوف
وفي كل وضعية من تلك الوضعيات، أو تفصيل صورة، تحليل ومفاتيح لشخصياتها، قد تدلنا على الكثير، وخاصة مع قلة تلك الصور أو انعدامها.
ربما كان ديكينز هوالأكثر استثناءً. فلديه ثلاث صور يبدو فيها في وضعية الجلوس، وفي إثنتان منها، يجلس على كرسي منفرج، في مواجهة ظهر الكرسي. في الصورة الأولى يبدو وحيداً، يوحي منظره بأن تلك الوضعية اصطناعية و تدرب عليها جيداً. حيث يميل ذراعيه على ظهر الكرسي، ويرفع ذراعه الأيمن لتلامس رأسه بشكل رشيق ويميل بكئابة مستنداً إلى تلك اليد. في الصورة الثانية يبدو مع بناته، ويبدو وكأنه يقرأ إليهم مجلد كما يبدو وربما أحد مؤلفاته. هنا أيضاً، يجلس منفرج الكرسي، مواجه لظهر الكرسي، وربما توحي لنا تلك الصورتين بأن الأمر أكثر من مجرد صدفة، فقد توحي لنا بأن ديكنز في الحقيقة كان يجلس في تلك الوضعية في كثير من الأوقات. وعموماً وفي كلتا الصورتين، يبدو بملامح جدية، و لا يبدو رجلاً مرحاً، أو حتى سعيداً، ويبدو خشناً ومتأنقاً بالأحرى. لكن ذلك قد لا يخدعنا: فالرجل الذي أعطى الحياة إلى بيكويك، ميكاوبير، سنوجراس وإلى العديد من الشخصيات الأخرى تكشف لنا الحس الهزلي اللماح الذي يملكه. في الصورة الثالثة يكشف هذا الرجل عن دهاءٍ وحيلة أكبر، حيث يظهر ربما مدعياً الكتابة، او الشروع بها، يدعي التفكير وقلمه في يده، ويستند بكل من قلمه ويديه على ورقة.وكأن ديكنز قد توقف لتأمل الجملة القادمة، هذا قد يوحي لنا هذا بأنه لن يكتب، أو على الأقل في تلك اللحظة، وهذا يمنحنا شعوراً شبه أكيد أنه يأخذ وقته كاملاً، ويفكر جيداً ربما قبل الشروع بكتاباته.
أما قدرة أوسكار وايلد على التأنق فقد وصفت بالمتطرفة جداً بحيث يصعب علينا في النهاية تمييز الأصل من الملابس والزينة، ولكنه وفي كل الحالات يسعى لأن يبدو رجلاً وسيماً للغاية، حتى أنه يبدو وكأنه يشبه نماذج إعلانات الطرق التي تصنع في أيامنا هذه. تعبير الفم هو نفسه في كل المناسبات، كما لو أنه أدرك تماماً من النظر إلى نفسه في المرآة، بأن هذا الجزء هو الوحيد المقبول والأجمل. ولعل الشيء الشاذ حول تلك الصورتين كان السخرية ومرح وايلد في ملابسه و التي غابتا عن وجهه كلياً، الذي اتخذ جدية كبيرة. تشير تفاصيل أنفه المتوهج بأن وايلد انتظر، وحبس أنفاسه لبعض الوقت من أجل الصورة. والعناية بالتفاصيل بدت من أولوياته: الشعر الطويل، القفازات، الفراء، القبعة، الرأس، وربطة العنق، لعل التعبير عن تلك الحالة أو هذه المواصفات، يمكن اختصارها بعبارة جمال الجدية.
ما تبقى لهنري جيمس صورة واحدة جسدها سارجينت في إحدى لوحاته، ويظهر في الصورة أخذت ومعه أخاه الأكبر سناً وليام. يبدو وجه جيمس رسمياً بشكل إجمالي، الخدود والجمجمة تشكلان استمرارية توحي بوجه سياسي أو مصرفي. على أية حال، فإنه يظهرفي لوحة سارجينت، بنظرة بليدة، وهناك تفصيل واحد يقوض هذا الإحترام الظاهر ويمنعه من أن يكون سياسياً أو مصرفياً: فيظهر وقد وضع إبهامه في جيب صدريته، ربما بشكل أخرق أو شكل خجول، مزعج وقلق. في الصورة، من ناحية أخرى، تظهرأربطة عنق المرحة، ويظهرتنازل إستثنائي من الخيال في مثل هذا الشخص الزاهد. كما تظهرنظرة ذكية بشكل مخيف، ويظهر مختلفاً بكثير عن أخيه في اللوحة الذي يبدو وجهه من النظرة الأولى بخطأً ما، في النظر إلى عيونهم، يظهروليم وهو ينظر بشكل مستقيم، تقريباً من دون رؤية، أما هنري فينظر بشكل جانبي إلى الخواء كما يبدو.
أما كونراد فيبدو جالساً بشكل جدي جداً، على مسند كرسي، لا يعرف أين يضع يديه، لهذا السبب تبدو أحداها مثبتة والأخرى مفتوحة بينما يغطي ويخفي الأولى. ويظهر كونراد قلقاً جداً بشأن ظهوره، كما لو أنه لم يعتد على الظهور بزي حسن المظهر كهذا، ذلك، وتوحي صورته بمزيد من الإحترام، ويبدو مثل هؤلاء المهاجرين والمنفيين الذين يذهبون إلى مثل تلك الأمكنة للحصول على تلك الصور التي توحي بأنهم أشخاص محترمون. تظهرلحيته مشذبة بدقة شديدة، ويظهر كمن يكون مواطن إنكليزي أصيل، بذلك الشكل المثلثي المستدق وذلك الشارب ذو النهاية المدببة. عيون برموش قصيرة وحادة للغاية، يظهر كهؤلاء الرجال الذين يتحكمون بغضبهم، رجل بريء أَو ربما هي مجرد عيون شرقية.
يوحي وجه الشاعر ريلكه في صوره بعدم الحساسية، أو حساسية لا تطاق مع أنه كان شاعراً عظيماً، يقهر العادات وينجز الحاجات. وبصراحة يوحي وجهه بالخطر، وخاصة تلك الدوائر المظلمة تحت عيونه الثابتة، وعلى وجهه تدلى شارب يعطيه مظهراً منغولياً غريباً؛ تلك العيون المائلة الباردة تجعله يبدو قاسياً تقريباً، وأيديه مشبوكة، على خلاف أيدي كونراد الي لا توحي بشكل حاسم – أما نوعية ملابسه فتوحي بالراحة أو شيء ما قد يسكن تلك الوحشية. ويبدو عموماً كطبيب نبوئي ينتظر في مختبره نتائج تجاربه البشعة والمحرمة.
تظهر دجونا بارنز، بالمعطف على أكتافها والعمامة الجميلة الأكثر بروزاً في المعرض. و تظهر بشكل ثابت يوحي بعقلانية، وكأنها تعيد إنتاج عاداتها اليومية. على خلاف وايلد، الذي حاول أن يبدو وسيماً، فهي تعرف بأنها ليست جميلة ولا تعتقد بأنها يمكن أن تبدو هكذا، لهذا فهي لم تبد اي محاولة لتبني نظرة بعيدة مغرية، بدلاً من ذلك تبدو نظرتها مستقيمةً للأمام، شكاكة وهازئة، إيحاء بالأمان في ثوبها (خصوصاً ياقة المعطف المرفوعة) وفي ثقة الوقفة. ويبدو العقد لا يزينها بل يحميها. وتظهر إمرأة مسيطرة اكثر من امرأة توحي بالتواضع والإحترام.
أما بالنسبة إلى نابوكوف، فيظهر بكوميدية لا يقر بها بشكل واضح. يظهر في سروال برمودا، يصلح لأن يكون لصيد الفراش، و جيب قميصه مليء بالأقلام أَو الأقداح أو شيء ما: وهو رجل عجوز، وهذا واضح من وجهه المتحمس إبتداءً من حقيقة أنه يرتدي بلوز بأزرار.
توماس هاردي الأكثر ريفية في المظهر في المجموعة. وهو الوحيد الذي لا يوحي مظهره أبداً بأنه كاتب، على الأقل في هذه الصورة التي أخذت في الشيخوخة، ويرتدي فيها صدرية وصوفية كتومة وسميكة وتبدو بشرته خشنة كالخشب وعيونه برموش قصيرة للغاية، وحواجب كثيفة، وشارب يشبه القشة، تعبيره يوحي بالبلادة والسخط التي توحي بتقاعد غير مرغوب ومفروض عليه، أو كما أنه بسبب ما شهد من القصص الكئيبة العديدة التي أطلق عليهم في ذلك الوقت “سخريات الحياة الصغيرة”، ترك هاردي النثر وتحول للشعر، ورغم ذلك فإنه بدا مثل أي أحد إلا الشاعر. عندما عاش 14 سنة أخرى، تجعلك تلك الفكرة ترتجف، وبدا عموماً كفلاح، كما كان دائماً منذ أن كان شاباً.
ييتس شاعر بما لايقبل النقاش، بالرغم من ظهوره في الصورة، شعره أبيض ولا يميل إلى مشارَكة الرجال العجائز بكتابة الشعر، عندما ترى وجهه، مُتعصباً أَو حالماً، رجل بشخصية قوية وذو وجه أصيل جداً. شعر من النمط القديم ويبدو أشقر تقريباً، يعطيه حركةً وحيويةً إلى الوجه بالكامل و هو رجل ذو طاقة كبيرة. حواجبه مُظلمة مع نظرة مخفية وشفاه قوية، كما لو أنها لا شيء سوى صوت.
على خلاف ييتس، وجه إليوت يوحي بسهولة بشكل الكاتب، وهورجل أمضى عقوداً من الزمن يمشط شعره بنفس الطريقة تماماً، مخفياً أسفل الشعر شكل أذنه الدائري. وصورة إليوت توحي بالدقة والكمال، لديه نظرة واثقة هادئة، شخص لديه بالكاد شكوك حول النظام العالمي، لأنه موافق أساساً معه ويساهم في إبقائه. على الرغم من هذا، وجهه الكامل ينضح بالغرابة، إحساس عنيف تقريباً من الأمل، كمن لا يمكن أَن يكون مبدعاً أيضاً.
يظهر الشاعر وليم بليك وكأنه حتى ليس نفسه، بقناع يذهل للوهلة الأولى لكن قناعه الخاص، ويظهر بوضوح أن تلك الصورة أخذت لجثته، ولكنها في حقيقة الأمرصنعت في حياته، وتحديداً قبل وفاته بأربع سنوات حيث تخبرنا اللصقة المرافقة للوجه بأنها تعود إلى عام 1823م، ثنائية الموت والحياة تتجسد في هذا القناع في الوقت الذي تبدو فيه ملامح جثة عليه، توحي عيونه المغمضة أنه لايمكن أن يكون ميتاً، لأنهم بالغو في إغماض عينيه، كما لو أنه ما يزال يستطيع الرؤية، وكأن الأنف يحبس الأنفاس،
و الجبهة مشدودة للغاية، كما لو أن مليئة بالعروق الخافقة. الشفاه شبه غير موجودة، هي فقط خط مشدود في حركة واحدة، وهناك توتر في ذلك الخط. تلك الصورة تحديداً تملك غموضاً وازدواجية تظهر بليك ميتاً بينما هو حي، وتظهر كخدعة مرئية تضع المشاهد في ذهول تام يسيطر على الأجيال اللاحقة، المزيج بين الحي والميت، ولهذا السبب كانت صورته الأكثر مثالية وتعبيراً بين الفنانين.
هذا النص مقتطف من كتاب بعنوان “الحياة المكتوبة”
الصورة للمثلة انيتا ايكبرغ
ترجمة: سامي سليمان
خاص بأوكسجين