“كوميك” الخسارة
ادوارد سعيد
إليكم هذه الترجمة لمقدمة ادوارد سعيد لكتاب “كوميك” بعنوان “فلسطين” للرسام والصحفي الأميركي جو ساكو. عنوان المقدمة الأصلي “Homage To Joe Sacco” ولتكون جميع صور هذا العدد من كتاب ساكو الصادر عام 2003
كتب “الكوميك” ظاهرة عالمية مرتبطة بالمراهقة. يبدو أنها متواجدة في جميع اللغات والثقافات، من الغرب إلى الشرق، وتتراوح مواضيعها بين الملهمة والرائعة والعاطفية والتافهة، لكنها جميعاً سهلة القراءة، متداولة، محفوظة ومرمية. الكثير من “الكوميك” مثل “استريكس” و”تان تان” سلسلة متواصلة من المغامرات يقرأها الشبان بوفاء شهرا بشهر، ومع مرور الزمن، مثل المثالين اللذين أوردتهما، يغدو الأمر اكتسابا لحياة قائمة بذاتها، شخصيات متكررة، حبكات روائية، وعبارات يتداولها القراء، سواء في مصر، الهند أو كندا، فيما يشبه ناديا كل عضو فيه متشربا بها، ويمكنه العودة إلى افتراضات وأسماء مشتركة. معظم اليافعين، أعتقد، يميلون للاتصال بـ “الكوميكس” بخفة وبشكل مؤقت، وهناك افتراض مفاده أنه كلما كبر المرء في العمر كلما وضعها جانباً لصالح ما هو أكثر جدية، عدا استثناءات قليلة (كما الأمر مع كتاب سبيجلمان “فأر”)1 حيث تم التعامل مع موضوع منفّر وجاد عبر كتاب لرسام “كوميك” جاد.، لكن وكما سنلاحظ في الحال، هذه مناسبات قليلة جداً، ما دام المطلوب أولاً موهبة من النخب الأول.
لا أتذكر متى قرأت أول كتاب “كوميك”، لكنني أتذكر تماماً كم كانت مشاعري متحررة وهدامة نتيجة لذلك، كل شيء في كتاب الصور الملونة الجذاب هذا، خاصة انعدام الترتيب، أسلوبه المسطح، اسراف صوره الملونة والمشاكسة، والترابط المفكك بين ما تفكر به الشخصيات وما تفعله، الكائنات والمغامرات الغريبة تروى وترسم، كل ذلك صنع لي إثارة هائلة ورائعة لم أكن عرفتها أو جربتها من قبل.
نشأتي المتنافرة بين عائلتي العربية البروتستانية وتعليمي في الشرق الأوسط في حقبة الحرب العالمية الثانية الكولونيالية (الاستعمارية) كانت على ولع بالكتب ومتطلبة أكاديميا. الرصانة المتواصلة تحكم كل شيء. لم تكن بالتأكيد أيام التلفزيون، أو العدد الهائل من التسالي المتوفرة بسهولة. الراديو كان رابطنا بالعالم الخارجي، ولأن أفلام هوليود كانت متعذرة وخطرة على صعيد أخلاقي، فقد أبقينا على نظام يسمح بمشاهدة فيلم كل أسبوع، يقيّم من والدي، يصرح له وفق معايير محاكمة خفية (بالنسبة لنا) تجعله مقبولاً وليس بسيء للأطفال.
فيما يقرب الثالثة عشرة من عمري، دخلت المدرسة الثانوية تحديدا بعد سقوط فلسطين عام 1948. مثل جميع أفراد عائلتي سجلت في المدارس البريطانية، والتي صممت بما ينسجم مع Tom Brown’s Schoolboys2 وغيرها من روايات اتون، هارو، ريغبي3، التي كنت قد التهمتها وغيرها من كتب انكليزية حصراً. في تلك المرحلة الامبريالية المتأخرة من عالم متصارع أغلبه من الأولاد العرب والمتوسطيين، كان المعلمون البريطانيون في عموم البلدان العربية المسلمة تحت تأثير تغيير عاصف، فبينما كان المنهاج يعتمد على أوكسفورد وكامبريدج (كشهادة ثانوية معترف بها كما تدعى في تلك الايام)، كان الاقتحام المفاجىء لكتب “الكوميك” الاميركية – التي منعت على الفور من قبل الأهل وسلطات المدرسة- قد انفجر كاعصار صغير. في غضون ساعات كنت مغموراً وبسبل غير شرعية بفيضان من سوبرمان، طرزان، كابتن ميرفيل ومغامرات وندر وومن التي عصفت بذهني وحولته بالتأكيد عن أشياء صارمة ورمادية كنت أخاطبها.
محاولتي استبيان سبب كون منع هذا العالم الجديد الممتع بهذه الصرامة، وفرضه بقسوة في البيت لم توصلني إلى مكان مع والدي العنيدين عدا كون الكوميك يؤثر على واجباتي المدرسية. أمضيت أعواماً وأنا أحاول فهم منطق المنع وخلصت مع مرور الزمن إلى أن التحريم كان محكماً بدقة (أكثر مما فعلت أنا بدوري) على ما أحدثه “الكوميك” وبشكل لا مثيل له. أولاً كان “الكوميك” مثل أشياء كالعامية أو العنف تزعزع الهدوء المزعوم للعملية التعليمية. ثانيا وربما هذا أكثر أهمية وإن لم يصرح به من قبل، كان هناك تحرير لحياتي الجنسية الشابة المقموعة من خلال الشخصيات المنحلة أخلاقياً (منها شينا فتاة الأدخال التي ترتدي ثيابا متقشفة ومثيرة) والتي كانت تقول أشياء وتقوم بأفعال لا يقر بها إما لأسباب متعلقة بالاحتمالية أو المنطق، أو على نحو أخطر، لأنها تنتهك المعاير التقليدية- معايير الأخلاق، الأفكار، الأنماط الاجتماعية المقبولة. لعبت كتب “الكوميك” دور المخرب لمنطق A B C D وبالتأكيد شجعت المرء لئلا يفكر وفق ما يتوقعه المعلم منه أو ما يطالبه به موضوع كالتاريخ. أتذكر بقوة النشوة التي عشتها عندما كنت أهرب خلسة نسخة من الكابتن ميرفل في حقيبتي واقرأها بمراوغة في الباص أو تحت لحافي أو في آخر الصف. إضافة لذلك فإن “الكوميك” تزود المرء بالمقاربة المباشرة (المزج بجاذبية وحرفية مبالغ بها بين الصور والكلمات) التي تبدو دون مجال للشك حقيقية من ناحية، ومغلقة بطريقة ساحرة، صادمة، عادية من ناحية أخرى. في طريقة أجدها للآن عصية على الحل، “الكوميك” وعلى الأرضية الصارمة السابقة الذكر – تقول أكثر من أفلام الرسوم المتحركة والرسوم الهزلية المتسلسلة، فأنا لم أهتم بأي من تلك – بدت تقول ما لا يمكن قوله بطريقة مغايرة، ربما ما لم يكن مسموحاً بقوله أو تخيله، متحدية العملية العادية للتفكير، الذي نظم وشكل وأعيد تشكيله عبر كل أنواع الضغوط البيداغوجية والأيدلوجية. لم أكن أعرف شيئاً عن ذلك، لكنني أحسست بأن “الكوميك” حررني لأفكر واتخيل بطريقة مختلفة.
اقطع الآن إلى العقد الأخير من القرن العشرين. بوصفي أميركياً من أصل فلسطيني، وجدت نفسي متورطاً بالضرورة في الصراع الفلسطينيي لتقرير المصير وحقوق الانسان. بالموازاة مع البعد، المرض، والمنفى، دوري كان في الدفاع عن أصعب قضية، أن أدافع وأحاول رسم أبعادها المعقدة والمقموعة في الغالب بواسطة الكتابة والتحاور مع البشر، محاولاً طيلة الوقت تبيان تاريخنا كشعب في أمكنة مثل عمان، بيروت، وفي النهاية، عندما كنت قادرا على العودة إلى فلسطين عام 1992 لأول مرة منذ أن غادرت عائلتي القدس عام 1947، في غزة والضفة الغربية.
عندما بدأت تلك الجهود تماما بعد حرب حزيران 1967، كانت حتى كلمة “فلسطين” أقرب للاستخدام المستحيل في الخطاب العام. جمعت دلالات خارج حلقات البحث والمحاضرات عن فلسطين ..في تلك المرحلة الغائمة “لم يكن هناك من فلسطين”، وفي عام 1969 كان تصريح غولدا مائير الشهير بأن الفلسطينين غير موجودين. أكثر أعمالي ككاتب ومحاضر كانت تهتم بدحض التحريفات ونزع الصفات الانسانية عن تاريخنا، محاولاً في الوقت نفسه منح الرواية الفلسطينية – الممحوة بفاعلية من قبل وسائل إعلام وجمعيات الخصم المقابل – حضوراً وشكلاً انسانياً.
دون تحذير أو استعداد، وقبل ما يقرب العشر سنوات أحضر ابني إلى البيت كتاب “الكوميك” لجو ساكو عن فلسطين. منقطعاً عن ما كنته كقارئ نهم ل “الكوميك”، ومتاجرا ومقايضاً لكتبه، لم يكن لدي أدنى فكرة عن وجود كتاب ساكو. غرقت في الحال بعالم الانتفاضة العظيمة الأولى (1987 – 92)، مع مؤثر أقوى يتمثل بالعودة إلى عالم “الكوميك” الذي ردت إليه الحياة وتجسد من جديد بعد أن كنت قد قرأت الكثير منه فيما مضى. لذلك كانت صدمة الاكتشاف مضاعفة، وكلما قرأت أكثر من كتب ساكو “فلسطين”، الموجود منها ما يقرب العشرة، وقد جمعوا جميعاً في مجلد واحد متمنياً أن يكون متوفرا على نطاق واسع ليس في أميركا فقط بل في العالم كله، كلما اقتنعت أكثر بالأصالة الاستثنائية لعمل سياسي وجمالي، لا يشبه شيئاً آخر، وغالباً تلك الحوارات المتورمة والمتملصة بعجز الفلسطينين الواقعين تحت الاحتلال، الاسرائيليون، ومؤيديهم المعتبرين.
بما أننا نعيش في عالم متخم بوسائل الإعلام حيث الغلبة للأخبار المصورة التي يتحكم بها وينشرها حفنة من الرجال المتواجدين في أمكنة مثل لندن ونيويورك، فإن جدولاً من الصور والكلمات يحمله كتاب “كوميك”، له أن يحدث أثراً مؤكداً، وعلى نحو متنافر مع المؤكد والمضخم ليتطابق مع الأوضاع المتطرفة التي يصورنها، مقدماً ترياقاً مميزاً. في عالم جو ساكو ليس هناك من سلاسة مماثلة للتي لدى المذيعين ومقدمي البرامج، ما من راو حماسي للانتصارات الاسرائيلية، الديموقراطية، الانجازات، ما من تمثيلات مفترضة أو معاد تأكيدها – جميعها مفصولة عن أي مصدر تاريخي أو اجتماعي، ومن أي واقع معاش- والفلسطينيون ليسوا رماة حجارة، رافضين، أوغادا متطرفين هدفهم الرئيس افساد حياة محبي السلام، أي أولئك الاسرائيلين المضطهدين. ما نراه عوض ذلك يكون عبر عيني شخصية صاحبة نظرة بسيطة متواجدة في كل مكان شاب أميركي بشعر قصير تجول في عالم غير مرغوب وغير عادي خاضع للاحتلال العسكري، للاعتقالات العشوائية، تجربة مروعة من هدم البيوت والاستيلاء على الأراضي، تعذيب “ضغط جسدي بسيط”، قوة وحشية بسخاء، تتسبب بمعاناة، يعيش (مثال: جندي اسرائيلي يرفض أن يسمح لأناس بالعبور من حاجز في الضفة الغربية بسبب، هو يقول، مظهراً طقم أسنان هائل وعدائي، بسبب هذه، بندقية أم 16 التي لوّح بها) تحت رحمتها الفلسطنيون يومياً وفي الساعات.
ما من نسيج واضح، ما من خط يدرك بسهولة لعقيدة في المواجهة الساخرة غالباً لدى جو ساكو مع فلسطينيين تحت الاحتلال، ليس هناك من محاولة لتلطيف ما يبدو في جزء كبير منه ضئيلاً، وجوداً مضطرباً من انعدام اليقين، بؤساً جماعياً، وحرماناً، و، وخاصة في الرسوم الخاصة بغزة، حياة من تجوال على غير هدى داخل مكان له أن يكون سجناً عدائياً، تجوال وغالباً انتظار، انتظار، انتظار. باستثناء روائيين وشاعرين ما من أحد قدم من قبل الحالة المريعة للعلاقات افضل من جو ساكو. إن صوره أكثر تصويراً من أي شيء يمكن أن تقرأه أو تشاهده على التلفاز. مع صديقه، المصور الياباني سابورو (الذي بدا ضائعاً في موضع ما)، جو منصت، حضور مراقب، شكاك أحياناً، ملول أحياناً، لكنه في الغالب متعاطف وطريف، كما يلاحظ أن فنجاناً من الشاي الفلسطيني يكون منقوعاً بالسكر، الطريقة التي يشبه فيها صيادو الأسماك حجم ما يلتقطونه أو الصيادون المتربصون بالفريسة.
طاقم الشخصيات في أحداث عدة جمع هنا بتنوع رائع ، وبفكاهة لاعب داما يتمتع بقدرة خارقة على التقاط التفاصيل المروية، هنا نحت شاربين بعناية، أسنان كبيرة بافراط هناك، بدلة كاكية هنا، خطط ساكو للحفاظ عليها متواصلة بتقنية غير مبالية. الخطوات البطيئة وانعدام الهدف في تجواله يؤكد بأنه ليس صحفياً يبحث عن قصة ولا خبيرا يحاول اكتشاف الحقائق ليخلص إلى رؤية سياسية. جو هناك لأنه يريد أن يكون في فلسطين، فقط لا غير – تحت تأثير تمضية أكبر قدر من الوقت في المشاركة، إن لم يكن ذلك في النهاية العيش كما يعيش الفلسطيني حياته المدان عليها. مقدما واقع السلطة وتماهيه مع المضطهد، اسرائيلو ساكو مرسومون بمساحة من الشك لا تخطئها العين، ما لم تكن بانعدام ثقة. معظمهم أشكال من السلطة الظالمة والسلطة المريبة. لا استعين هنا فقط بالشخصيات المنفرة بوضوح لتلك المرتبطة بالجنود والمستوطنين، الذين يطلقون النار دائماً لتبدو حياة الفلسطينين صعبة وغير محتملة لكن، وتحديدا في أحد الأحداث المروية، حتى مع من يعرفون بمناهضي الحرب الذين يدعمون حقوق الفلسطينين الذي ظهروا مقيدين، جبناء، وغير فاعلين في النهاية كما ليكونوا موضع ازدراء مخيب.
جو هناك ليكتشف لمَ الأشياء على ما هي عليه ولمَ يبدو أن الطرق المسدودة بقيت متواجدة لوقت طويل. انجر إلى المكان لأنه إلى حد ما (نتعلم من “الكوميك” الغريب والاستثنائي السابق له “War Junkie” (مدمن الحرب)4 قادم من خلفية عائلته المالطية (من مالطا) أثناء الحرب العالمية الثانية، إلى حد ما لأن عالم ما بعد الحداثة مفتوح أمام شاب أميركي فضولي، إلى حد ما لأنه مثل مارلو شخصية جوزيف كونراد مشدود إلى أمكنة وبشر منسيين في هذا العالم، أولئك غير الناجحين بالوصول إلى شاشات التلفزة، أو إن فعلوا، فإنهم يصورون كهامشيين، عديمي الأهمية، وربما على قدر من التفاهة حيث لا مكان لقيمتهم المزعجة، والتي مثل الفلسطينين، من الصعب التخلص منها. دون أن يفقد القدرة الفريدة ل “الكوميك” في تقديم عالم سريالي كما صور وبطريقة خاصة مماثلة للعنف الآسر التي تمتلكها رؤية الشاعر للأشياء، بمقدور جو ايضاً ببساطة نقل مجموعة كبيرة من المعلومات، السياق الانساني والأحداث التاريخية التي أوصلت الفلسطينين إلى ما هم عليه في الحاضر من الوهن الساكن، رغم عملية السلام ورغم المظهر البراق واللزج الذي أحيطت به الأشياء بشكل رئيسي من خلال قادة منافقين، وصناع سياسات وأصحاب وسائل الإعلام.
لم يقترب ساكو في أي مكان من الحياة الواقعية المعاشة للفلسطيني العادي كما فعل في تصويره الحياة في غزة، الجحيم الوطني. خواء الوقت، الرتابة لئلا نقول قذارة الحياة اليومية في مخيمات اللاجئين، العمال المسّرحين، الأمهات الثكالى، الشبان العاطلون عن العمل، معلمون، شرطة، شحاذون، حلقات الشاي والقهوة الدائمة، أحاسيس السجن، الحضور الدائم للوحل والبشاعة في مخيم اللاجئين والذي له أن يكون أيقونية بالنسبة لكل التجربة الفلسطينية: كل ذلك صوِّر بدقة مروعة في الغالب، بتناقض كاف، بلطافة في الوقت نفسه.
جو الشخصية موجود هناك ليفهم بتعاطف ويحاول تجربة ليس فقط سبب كون غزة تمثل مكاناً مفرط الازدحام ومساحة منزوعة الجذور والملكية، بل ليؤكد أيضاً بأن ثمة هناك، ويجب أن يكون جزءا من شروطها الانسانية، في تتابع سردي يمكن لأي قارئ أن يتماهى معه.
إن أوليت الاهتمام فإنك ستلاحظ التصوير الدقيق للأجيال، كيف أن الأطفال والبالغين يصنعون خياراتهم ويعيشون حياة ذليلة، كيف يتكلم البعض ويصمت البعض، كيف يرتدون سترات بنية اللون، ومعاطف مماثلة، وحطة دافئة في حياة مرتجلة، على أطراف وطنهم الذي صاروا فيه أكثر الكائنات حزناً وضعفاً وتناقضاً، أجانب غير مرحب بهم. يمكن رؤية ذلك بعيني جو الذي يتحرك ويقيم بينهم، متفهماً، مسالماً، مهتماً، ساخراً، وهكذا هي شهادته البصرية التي تصير هو نفسه، هو نفسه من يتكلم في رسومه، في فعل له أن يكون في أعتى حالات التماسك العميق. فوق ذلك فإن سلسلة غزة تصور وتؤكد ما قام به ثلاثة شهود مميزين قبله، ثلاثتهم نساء، كتبن عن ذلك (إحداهن اسرائيلية، الثانية أميركية يهودية، والثالثة أميركية دون أن تكون على اتصال سابق مع الشرق الأوسط)، أميرة هاريس، مراسلة “هآرتس” الشجاعة التي لا تنسى، حيث عاشت في غزة وكتبت منها لأربع سنوات، سارة روي التي كتبت دراسة موثقة عن الكيفية التي تم فيها تدمير التطور الاقتصادي في غزة، وغلوريا اميرسون، الصحفية والروائية الحائزة على جوائز، مانحة سنة من وقتها لتعيش مع سكان غزة.
لكن ما الذي يجعل من ساكو في النهاية مصورا غير عادي للحياة في المناطق الفلسطينية المحتلة إنه اهتمامه الحقيقي بضحايا التاريخ. استعادة معظم “الكوميك” الذي نقرأه بطريقة روتينية وخلاصة انتصار أحدهم، انتصار الخير على الشر، تسيد العدالة على الظلم، أو بزواج عاشقين. الأشرار المحيطون بسوبر مان يرمى بهم ولا نسمعهم أو نراهم مجدداً. طرزان يفشل مخططات الرجال البيض الشريرة ويطردون من أفريقيا مجللين بالعار. كتاب ساكو “فلسطين” ليس كذلك أبداً. الناس الذين عاش بينهم هم الخاسرون في التاريخ، منفيون على الأطراف حيث يبدو يأسهم من الإقدام على أية حركة، دون أمل أو تنظيم، باستثناء انعدام قهرهم البهيج، رغبتهم الصامتة بمواصلة الحياة، وارادتهم بالتمسك بقصتهم، وإعادة قصها، ومقاومة مشاريع لكنسهم جميعاً. بذكاء، يبدو ساكو غير واثق بالروح القتالية، خاصة تلك المعبر عنها جماعياً بشعارات أو تلويح أعلام كلامية. ولا يحاول أن يمنح حلولاً مثل تلك التي صنعت مهزلة مشروع السلام في أوسلو. لكن “كوميك” ساكو عن فلسطين يؤثث لقارئه إقامة مؤقتة بين أناس قدرهم من المعاناة والظلم استوطنهم لزمن طويل مع اهتمام انساني وسياسي ضئيل. لفن ساكو أن يأسرنا، يبعدنا من التعقب المتبرم لملاحقة عبارة رنانة أو سرد متوقع بأسف لنصر وانجاز. ولعل هذا أعظم انجازاته.
1 كتاب كوميك عن “الهولوكست”
2 رواية انكليزية لتوماس هيوز طبعت عام 1857 وتعتبر رواية المدارس الانكليزية في القرن التاسع عشر.
3 مدارس انكليزية.
4 من تأليف جون ستيل صادر عام 2003
ترجمة:زياد عبدالله
خاص بأوكسجين