صفحات الناس

يسألك موقع “فايسبوك” هل تقبل بصداقتي؟

null
نور الأسعد
يقول مؤشر الشعبية في صفحتي على موقع “فايسبوك” إن في جعبتي ثلاثمئة وثلاثين صديقاً! يفغر فاهي لهول الصدمة، ثم أتمتم صلاة صغيرة في سرّي لمارك زيكربرغ، مؤسس الموقع الشهير. فلولاه لما أدركت يوماً أن ثلاثمئة وثلاثين أذناً مستعدة للإصغاء إلى تذمري وشكواي، ولكنت لا أزال أخال نفسي غير قادرةٍ على الفوز بعشرة أصوات مجتمعة، في حال ترشحي للانتخابات يوماً! لكن هذا الموقع لا يقتصر فقط على مجموعة من الرسائل المتبادلة، نرفع فيها أيدينا بسؤال يتيم: “هلاّ قبلت صداقتي؟”، بل أصبح اليوم عجلة حيوية تشارك فيها جهات متنوعة من المجتمع. هل تريد تشجيع فريقك المفضل في مباراة اليوم؟ عليك بالفايسبوك. هل ترغب في معرفة نسبة الحضور إلى مسرحيتك الليلة؟ الفايسبوك. هل تسعى إلى تنظيم ندوةٍ حول تعقيدات السياسة ودور المجتمع المدني في تعزيز الحوار بين مختلف الأطراف؟ الفايسبوك، الفايسبوك ثم الفايسبوك.

زميل الدراسة وابنة الجيران
كلنا سمع بفوائد الفايسبوك باعتباره نافذة تطل بالمرء على ماضيه، فتعيد ربطه بوجوهٍ طواها النسيان، وتحيي بالقوة صلات بشرية لم يكن الزمن قد شاء لها البقاء. بغض النظر إن كان يصح إدراج هذا الأمر في خانة “الفوائد”، فإنه سيكتشف بواسطة هذه الآلية أن الولد الضخم الجثة والضعيف الشخصية الذي كان يجلس قربه على مقاعد الدراسة قد أصبح فجأةً سليل ستالون، وأن طريقته في نفث دخان السيجار حرّيفة فعلاً. ويتعرف بالكاد إلى معالم ابنة الجيران في الحي القديم حيث كان يسكن، لشدة ما نحتت في وجهها مقصات أطباء التجميل. هكذا دواليك، تتوالى أمام ناظريه صور لأرشيف كامل عن حياة أشخاص قدّموا إليه خصوصيتهم على طبق من فضة؛ حتى ليخيل إليه أن الغرض من سهراتهم واجتماعاتهم لم يعد التسلية والترفيه بالضبط، بقدر ما أصبح التقاط الصور وعرضها على الملأ في اليوم التالي. لكأننا وظّفنا الفايسبوك عدسةً لأحد مصوّري الصحافة الصفراء، نتدلل عليها فتلحق بنا أينما ذهبنا. كأن عين الغريب هي الأقوى؛ هي الأكثر استمرارية بعد زوال الأشياء. ولا يطول الوقت حتى تكون لائحة “الأصدقاء” هذه قد ضمّت مدرساً قديماً، وحبيباً سابقاً، ومديراً، وقريباً لا يزوره إلا في الأعياد، وصديقاً لصديق، وزوجة صديق الصديق، وابنهما الذي لم يتعلم السير بعد، وزميلاً صادفه في مؤتمر ولا يذكر إن كانا تبادلا أطراف الحديث والابتسامات المتكلفة فعلاً أم لا.
في الواقع، أصبح الفايسبوك طقساً من طقوس الحياة اليومية. قلةٌ فقط لم تجتحهم هذه الموجة، لعل أبرزهم الجدات اللواتي يقول لسان حالهن: “عيب يا ستي، بيقولوا الفايسبوك صور بنات وفضايح على الإنترنت!”. أما البقية، فدخول الموقع لتمضية “الصبحية” مع فنجان قهوة جزءٌ لا يتجزأ من تقليدهم الصباحي. ويمكن القول إن العلاقات الإنسانية عبر الفايسبوك طغت على غيرها من وسائل الاتصال، كالرسائل القصيرة والمكالمات الهاتفية؛ وصار المرء يحدث آخر أخبار تقلباته المزاجية لحظةً بلحظة: فتارةً هو ضجر، وطوراً في حالة انتظار، ثم مكتئب لأنه “نسي الطبخة على النار”. أما الخربشة على الحيطان، التي كانت في ما مضى فعلاً سرياً يتلذذ المرء بارتكابها بعيداً عن الأنظار، فقد أضحت اليوم حدثاً يحتفى به ويكرّس على مرأى من الجميع: صار في مقدور سائر المنتسبين إلى “صداقتك الإلكترونية” أن يتابعوا أي محادثة شخصية تتبادلها مع شخصٍ معين على حائط رسائلك. وبعد، فمن يدري، لعل الفترة المقبلة تشهد تحول حائط الفايسبوك إلى حائط مبكى جديد، حيث يفترض أن تجد المسند والصديق الذي يقدّم إليك خير كتف.
ليه ما في كهرباء بالجنوب؟
تصلني عشرات الطلبات بالانضمام إلى مجموعات مناقشة فايسبوكية متنوعة، معظمها يصب في خانة محاربة السياسة. مظلومةٌ السياسة في لبنان! يمجدها العالم بصفتها علماً يدرس تنظيم الدولة ومؤسساتها، وفناً يقوم على التكتيك والعلاقات الاجتماعية والفطنة، لتسيير عجلة الأمن والازدهار في الدولة. غير أن مجموعات فايسبوك المخصصة للسياسة في بلادنا تسبغ عليها صفة شيطانية، وتكيل لها من عبارات الشتم والمهانة ما قد لا تجرؤ ربما على توجيهه إلى الزعماء السياسيين أنفسهم: فمن مجموعة “طز بالسياسة، لا نريد إلا العيش بسلام” التي استقطبت ما يزيد على الألف ومئتي عضو، إلى مجموعات “لا للسياسة”، و”نحن ضد السياسة”، و”لتذهب السياسة إلى الجحيم”، يخيل للمرء أن سلسلة العناوين هذه تتكرر إلى ما لا نهاية… باستثناء ربما مجموعات صغيرة تنبثق بين الفينة والأخرى، لتحمل على عاتقها قضيةً أكثر إلحاحاً، ويا للأسف، بصوت أكثر خجلاً، على غرار: “ليه ما في كهرباء بالجنوب؟”… غير أن هذا لا ينفي أن المواجهة بين فريقي آذار قد انعكست بدورها على صفحات الموقع. فكم من مرة يضرب لنا هذا أو ذاك وعداً بالسباحة عارياً في البحر، أو بخفض أسعار البنزين، أو بعودة الكهرباء نفسها “لتنير براداتنا المنزلية” في حال وصول عدد أعضاء مجموعته، ممن ينتسبون إلى 8 أو 14 آذار، إلى عشرة آلاف شخص أو ما شابه. فتدخل المجموعة وكلّك عجبٌ من صلاحيات هذا الشخص الواسعة، متسائلاً ما الرابط مثلاً بين المجموعة السياسية والسباحة كما خلقنا الله على مرأى من الجميع؛ لتفاجأ أن المناقشة على الحائط تحولت منذ مدة إلى التباحث في “أجمل مفاتن هيفا”، و”أحدث نكت أبو العبد”، و”أيهما أفضل في السرير: الشقراوات أم السمراوات”.
بين التجسّس واصطياد الحريم
لكن لا ريب في أن هذا الموقع أصبح اليوم، وقبل كل شيءٍ، أداةً ترويجية بامتياز، يلجأ إليها، وبالمجان، كل من يريد الإعلان عن حدث من أي نوع. وقد راج هذا الموقع في أوساط المرشحين للانتخابات بشكل خاص، سواء في لبنان أو في الخارج؛ فتألفت المجموعات الشبابية عبر الفايسبوك التي تنادي بهذا المرشح أو ذاك، إن على صعيد الانتخابات الطالبية نفسها أو على صعيد البلد ككل. وأدى ذلك إلى ما أدّاه من مشاحناتٍ وتلاسناتٍ كلامية بين أنصار الأحزاب المتنافسة، انتقلت من العالم الافتراضي إلى أرض الواقع، كما حدث في جامعة الآداب والعلوم والتكنولوجيا في لبنان وحملات جامعة القديس يوسف الانتخابية الأخيرة. بدورها، تنشط مجموعات المجتمع المدني، على غرار الحملة المدنية للإصلاح الانتخابي التي تطالب بقانون انتخابي سليم، ومرصد الأداء النيابي اللبناني الذي يقدم طريقة جديدة في نشر الشفافية من خلال رصد أداء كل نائب، وحملة “جنسيتي حق لي ولأسرتي” التي تطالب بحق المرأة اللبنانية في منح جنسيتها لزوجها وأولادها من غير اللبنانيين، وغيرها كثير. على رغم ذلك كله، لا يمكن القول إن الفايسبوك في لبنان قد تطور بما فيه الكفاية لأداء دور حاسم في تحديد نتائج الانتخابات لمصلحة فريقٍ ما، أو التأثير في فئة واسعة من الناس، كما فعل باراك أوباما عندما سخّر الفايسبوك أداةً مهمة في حملته الانتخابية.
أما بعد، وبالعودة إلى جدوى هذه الآلية، فسواءٌ كان الفايسبوك قاعدة بيانات خاصة بوكالة الاستخبارات المركزية (سي.آي.إي)، أو مركزاً إحصائياً، أو وسيلة جديدة للاتصال أو التعارف أو “اصطياد الحريم”، فلا شك في أن لملمة أغراضك والانسحاب بعيداً عنه قد يرتدّ عليك بما لم تكن تتوقعه. لذا، عندما تحين تلك اللحظة فيطلب منك الفايسبوك تأكيد رغبتك في تعطيل حسابك، وقبل أن تنقر ذاك الزر بهنيهة، فكر قليلاً: بعد اليوم، لن يذكر أحدهم عيد ميلادك، لن يسألوا عن مزاجك اليومي، لن يكتشفوا كيف أمضيت ليلة أمس… لن يتفقد غيابك إلا من استفقدك فعلاً. ستكون في سكينةٍ تامة. بعيداً عن كل تلك الأخبار التي تتلى عليك كرهاً. لن تسمع تعليقاتٍ عنصرية في حق هذا الفريق أو ذاك؛ لن تضطر الى التنصت، رغماً عنك، إلى غزل حبيبين على العلن؛ لن تنضم إلى جوقة المثرثرين والمهنئين والمعزين. سكون… سكون… سكون. والآن قرر: أحقاً لديك ثلاثمئة وثلاثون صديقاً؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى