المثقف والسياسي…سـؤال العــلاقــة ؟
ب
سام الهلسه
* وجهت إليَّ الصحفية في جريدة “الحوار” الجزائرية “نصيرة سيد علي” السؤال التالي عبر البريد الإلكتروني:
“ما هي الأسباب التي قلبت طبيعة العلاقة بين المثقف والسياسي، علماً بأن القطيعة بين فكر المثقف وفلسفة السياسي ثبتت عبر التاريخ العربي؟”. والسؤال كما يلاحظ غير محدد، ويتضمن أحكاماً معممة ينطلق منها ويقدمها كبديهيات…
وهو ما يحتاج إلى تدقيق وفحص للمفردات التي كونته: (قلبت، طبيعة، العلاقة، المثقف، السياسي، علماً بأن، القطيعة، فكر المثقف، فلسفة السياسي، ثبتت، عبر التاريخ العربي).
فلا أعلم عن أي “إنقلاب” يتحدث السؤال، ولا عن أي “طبيعة” أو “علاقة”، أو “قطيعة” أو “مثقف” أو “سياسي”…
أفهم من السؤال ككل أن “القطيعة” هي الأصل في “العلاقات” بين “المثقفين” و”السياسيين” وان “انقلاباً” قد حدث على هذا “الأصل” (أو “الطبيعة” كما أسماها السؤال، دون أن يحدد في أي اتجاه)… ربما تريد السائلة القول ان “الوئام” و”الاتفاق” قد حل بينهم –الساسة والمثقفون- بدل “القطيعة” التي “ثبتت عبر التاريخ العربي”!؟
أشعر أن ثمة خللاً هنا -فيما يسمى في البحث العلمي-: “وضع المسألة”.. فليس مسلماً به ان “القطيعة” قد ثبتت عبر التاريخ العربي بين “المثقف” و”السياسي”.. ومراجعة التاريخ العربي تظهر “انماطاً” متعددة متباينة من “العلاقات” بينهما، مثلما تظهر “أنماطاً” و”فئات” متعددة من المثقفين ومن السياسيين ذوي الأفكار والمواقف المتباينة أيضاً، وهو ما كونته أسباب وظروف مختلفة يصعب حصرها…
* * *
ففي العصر الجاهلي كان “عروة بن الورد العبسي” مثالاً للشاعر المثقف صاحب الرؤية والموقف المعارض للنظام القبلي.. وكان الخطيب المثقف “قس بن ساعدة الايادي” معارضاً للعقائد الشائعة آنذاك؛ فيما كان الشاعر “النابغة الذبياني” مداحاً لملوك الحيرة طمعاً في عطاياهم –وهو ما ينسحب على عدد آخر من الشعراء المتكسبين-.
وفي حين عبر “طرفة بن العبد” عن تأملات وجودية لا زالت تثير فينا الإعجاب، عبر “امرؤ القيس” –الشاعر الرائد- عن تجارب حسية شخصية، قبل أن يتحول إلى “سياسي” طالب للثأر والسلطة بعد مقتل أبيه الملك!
وفي فجر الإسلام انتمى “حسان بن ثابت” إلى الدعوة الجديدة، ووقف مدافعاً عنها، بعدما كان من قبل مداحاً لأمراء الغساسنة، في الوقت الذي وقف فيه مثقف كبير هو “امية بن أبي الصلت” معارضاً لها ولرسولها.
هذه النماذج المتعددة من المثقفين بمواقفهم المختلفة، هي ما ستتكرر معاينته في العهود العربية التالية -مع ملاحظة التغير الذي طرأ على أشكال ونوعية وبنية السياسة والسياسيين، وأنماط ونوعية وبنية الثقافة والمثقفين-، بحسب التغيرات الكبيرة التي حدثت في المجتمع والسياسة العربيين بنتيجة الإسلام والفتوحات، وأدت إلى نشوء دولة, وأمة, وسلطة, ومعارضات, وفرق وأحزاب؛ وإلى ظهور ثقافة جديدة ومثقفين جدد كـ”الفقهاء”, و”أصحاب الكلام”, و”الفلاسفة”, و”كتاب الدواوين” الذين توزعت أفكارهم ورؤاهم ومواقفهم على خريطة واسعة من الولاء والمعارضة والحياد واللامبالاة وهو يعرفه كل مطالع للتاريخ وللثقافة العربيين.
وعلى سبيل المثال يمكن أن نذكر هنا بأن معظم المثقفين المعارضين لحكم بني أمية، أيدوا الخليفة “عمر بن عبدالعزيز” وسياسته العادلة، علماً بأن ثلاثة من كبار الشعراء العرب (الأخطل، جرير، الفرزدق) كانوا متهافتين على بلاطهم.
في العهد العباسي دفع مثقف كبير هو “عبدالله بن المقفع” حياته ثمن محاولته “عقلنة” و”ترشيد” السلطة الجديدة الظافرة التي أيدها.. فيما تراوحت مواقف مثقفين آخرين –في المراحل المختلفة- بين تأييدها، أو الحذر منها والابتعاد عنها، أو معارضتها، أو الابتعاد كلياً عن الاهتمام والتدخل في السياسة لدواع عديدة كالانصراف إلى حياة “اللهو” أو التفرغ للعبادة والتأمل، أو البحث والتأليف في شؤون معرفية جديدة.
ومن تتبع مواقف وعلاقات المثقفين والسلطات، نجد أن من الصعب أن نضعهم جميعاً في إطار واحد.. فشتان ما بين مواقف: الحسن البصري, وبشار بن برد, وأبي حنيفة النعمان، والنظام، ومروان ابن أبي حصفة، وأبي نؤاس، وأبي العتاهية، ودعبل الخزاعي، وأبي تمام، والجاحظ، والحلاج، و”إخوان الصفا”، والطبري، والكندي، وابن العميد…الخ
وشتان ما بين طالب السلطة والولاية “المتنبي”، والعازف عن الدنيا “أبي العلاء المعري”!
وشتان ما بين تأييد فرقة “المعتزلة” الكلامية ومثقفيها –كـ”ابن أبي دؤاد”- للخليفة المأمون, الذي تبنى مذهبها جاعلاً منه المذهب الرسمي للدولة وسعى لفرضه على الآخرين، وموقف المعارضة والممانعة الذي اتخذه الإمام “أحمد بن حنبل”.
يمكننا الحديث فقط عن “الخوارج” (وبضمنهم مثقفوهم: الفقهاء، والدعاة، والخطباء, والشعراء) بوصفهم الجماعة الوحيدة تقريباً التي واظبت باستمرار على معارضة السلطات ومواجهتها في العهود المختلفة، باستثناء تلك التي أقاموها في نواحي المغرب العربي وعُمان.
* * *
ومع انحسار واضمحلال السلطان العربي، وهيمنة الأجناس الأجنبية على معظم الأقطار العربية، انحسرت الثقافة والمثقفون العرب بشكل كبير بعدما فقدت وفقدوا من يعنى بها وبهم.
وهو ما سنلاحظه منذ القرن الحادي عشر الميلادي ثم توالى طوال القرون التالية التي تباينت فيها أيضاً مواقف المثقفين من السلطات القائمة، شأن القاضي “ابن خلدون” الذي تقلب في خدمة عدد من أمراء المغرب العربي والأندلس، قبل ان يفرغ همته –وحسناً فعل- في وضع مؤلفه الرائد في التاريخ والاجتماع.
ورغم بعض الأسماء اللامعة -في التأليف التاريخي خاصة- كـ”ابن الأثير”، فقد تفاقم اضمحلال الثقافة والمثقفين العرب خلال عهدي المماليك والعثمانيين وخروج العرب من الأندلس. وتضاءلت مراكز انتاجهما (الثقافة والمثقفين) وتدنت وتردت مشاغلهما ونوعيتهما إلى حد الافقار والبؤس، خصوصاً مع شيوع الأمية وتضاؤل تعليم واستخدام اللغة العربية في الإدارة والتخاطب والإنتاج الأدبي والمعرفي؛ إلى الدرجة التي يصعب معها الحديث عن ثقافة عربية متميزة متجددة، وعن مثقفين عرب متميزين متجددين…
فقد تبددت وتبددوا مثلما تبدد السلطان السياسي العربي…
والجماعات القليلة التي استمرت منهم –المثقفون- التحقت –حيثما أمكنها ذلك- بالسلطات القائمة، فيما انكفأت المراكز (العلمية) و(الثقافية) القليلة المتبقية على شرح وإعادة شرح وترداد مآتي وانتاج الأقدمين…
وهو الوضع الذي استمر حتى القرن التاسع عشر الميلادي عندما حفَّزت المواجهة مع الغزو الاستعماري الغربي، الأذهان والعقول للبحث والتساؤل عن مسببات التخلف والعجز من جهة، واحتياجات التقدم والنهوض وامتلاك القدرة من جهة أخرى.
وهو ما دشن ما يعرف بعصر النهضة الذي تواءم فيه المثقف الجديد (نشير إلى “رفاعة الطهطاوي” كمثل له) مع السياسي الجديد (والي مصر “محمد علي باشا”) في مشروع التغيير والتحديث الذي باشره الأخير، مثلما تحالفت من قبل (قبيل منتصف القرن الثامن عشر) فتوى الشيخ الفقيه “محمد بن عبدالوهاب” مع سيف أمير “الدرعية” “محمد بن سعود”، في مشروع توحيد نجد والجزيرة العربية.
* * *
في القرن العشرين، حينما كانت معظم البلاد العربية محتلة أو تحت الهيمنة الاستعمارية، وقف الشطر الأعظم من المثقفين –كما ينبغي لهم- مع السياسيين الأحرار من أبناء وطنهم في النضال من أجل التحرير والاستقلال ومن أجل النهضة والتحديث…
وكذلك كان شأنهم في مرحلة بناء الدول الوطنية في عهد الاستقلال، وما واجهته عمليّتا الاستقلال والبناء من اختيارات متعددة في قضايا: الهوية، والتراث، والحرية، والعدالة، والوحدة، والمشاركة الشعبية، والسلطة، وإيجاد وإدارة الموارد، والمعرفة، والحقوق، والتغيير المنشود عموماً…
وكان طبيعياً أن تتعدد الاختيارات والإجابات، وأن تتعدد وتتمايز، أو تتلاقى، أو تتصادم، أو تتهادن، مواقف السياسيين والمثقفين إزاءها.
وفي العقود الأخيرة، ومع انكشاف العجز الشامل والتمزق العربي، والاستبداد، وهيمنة نمط العلاقات الرأسمالية التابعة، وعودة الاستعمار المباشر، تفاقمت أزمة المثقفين العرب الذي هم –معظمهم- موظفون في مؤسسات الدول أو الشركات الخاصة.. وظهرت فئة جديدة تقدم موضوعات وحلولاً منطلقة من أجندات وتمويل أجنبي…
وتجلت بشكل أكبر شخصية المثقف الموظف التابع (بالمعنى الوظيفي، وبالمعنى المرجعي- المعرفي) سواء كانت هذه التبعية لمرجعيات (تتمثل نماذج قيم، وحياة، وبناء) أجنبية أو ماضوية.
وتراجع كثيراً ثقل –وعدد- المثقفين المستقلين المنتجين لمعرفة ورؤية أصيلة تنطلق من معاينة الوجود العربي المعاصر ونقده -لتجاوزه- في آن.
أقول هذا رغم معرفتي بوجود عدد هائل من مؤسسات التعليم، ومراكز الأبحاث، ووسائط الإعلام، ودور النشر، ومنتديات الثقافة، والكتاب والكاتبات العرب…
فهذه جميعاً تعمل على تفريخ “متعلمين” لتلبية حاجات الوظائف في السوق، وليس تكوين وتأهيل “مثقفين” ذوي رؤى وذهنية نقدية متميزة،قادرة على طرح أسئلة العصر والإجابة عليها.
* * *
علاقة المثقف بـ”السياسي” إذن، هي أعقد وأعمق وأكثر تنوعاً من أن تختزل في حدي “القطيعة” و”الاتفاق”..
فالمثقف –كما السياسي- مدعو إلى “الاستقلال” وتأسيس “سلطته المرجعية” الخاصة التي تغني الإنسان والحياة والوجود العربي (والإنساني عموماً)، وتوسع الآفاق بتبصراتٍ خلاقة تعين على الخلاص من البؤس المهيمن وتدفع لإحراز عالم أفضل.
وهذه التبصرات –والمشاريع التي تنبثق منها- هي التي ينبغي أن تقرر نوعية وحدود العلاقات بين المثقفين والسياسيين أياً كانت مواقعهم: (في السلطة، أو المعارضة، أو المقاومة…).
في “الوضع المرجو” ينبغي أن يكون السياسي مترجماً لهذه التبصرات في الممارسة العملية الواقعية، ومثرياً لها بالخبرات الحية العيانية في الوقت نفسه.
نحن ندعو إذن إلى “المثقف المسيس” و”السياسي المثقف” المنشغلين بالشأن العام والحاملين –في المجال الخاص بكل منهما- لمشروع التغيير والتجدد المعبر عن مطامح وتطلعات الأمة، والداعي لإحيائها ونهوضها ووضعها في المكان اللائق بها بين الأمم الحية الفاعلة.
فإذا كان السياسي مطالباً بالإنشغال اليومي في الشأن العام للأمة، وبتطويره باستمرار، وتوسيع مداه بتعزيز المشاركة الشعبية، ولمصلحتها؛
فإن المثقف (المفكر، العالم، الفيلسوف، الباحث، الأديب، الفنان…) –إضافة إلى إسهامه في تعيين وتعريف الشؤون العامة- مطالب بتخليق وتعميق وتجديد الإدراك والاحساس بالذات والحياة والوجود، ومنحه المعنى…
وبغير هذا فإننا نخسر الاثنين معاً: -المثقف والسياسي- ونبدد الكثير من آمالنا وأعمارنا وأجيالنا…