صفحات الناس

تقاليد جديدة لموتٍ سوريٍ قديم: “إلى عدنان محفوض لعلَّه مازال يقرأ”

null
مالك داغستاني
حين وقف الشيخ ليعلِّمه بماذا سيجيب عندما يسأله الملَكان من هو ربك؟ ومن هو نبيك؟ ومن هو إمامك؟ حينها تخيلتُه تماما، بقامته التي لا تُضاهى وعذوبة ابتسامته، بصوته الهادئ الرخيم، بنظرته التي تحوك حلماً، تخيلتُه هكذا في وجه الملَكان صامتاً وربما مبتسماً… وينسحب الملكان بوجلِ المتلكئ في إنجاز مهمة لا يتقنها.
حين كان في السجن تفتق قلب أمه النبيل عن أمنية بالغة العذوبة، ومفرطة العاديَّة: ماذا لو يسمحون له بلقاء “لينا”، علَّهما ينجبان أخاً لـ”نوّاره” قبل فوات الأوان. ابتسم الإخوة من براءة أمهم وانعدام معرفتها بالجغرافيا وما يهدد أمن البلاد. ابتسمت الأم أيضاً… وتابعت، كأي أم من هذي البلاد، صمتها ودموعها وأحلامها المربِكة. حتى دون أن تسأل: من أعطاهم الحقَّ أن يأخذوا مني هذا الولد الجميل.
على الضريح وقف صديقَه حزيناً ومعاتباً: يا رجل، لم يمضِ على خروجك سوى سبع سنوات… التفتت نوّاره وصححت الأرقام التي تحفظها عن ظهر حبٍ وقلبٍ وتعلقٍ وقرب: إنهنَّ فقط ست سنوات وتسع شهور وعشرون يوماً يا عمّ.
بوقار قرأ الشيخ أدعيته والآيات المطلوبة للمناسبة. أنصت الحاضرون جميعاً كما تتطلب مهابة اللحظة. وعندما انتهى تسلل صوت أخته تغني له الأغنية التي طالما غنتها لأربعة عشر عاماً من الغياب: ” يا بحر.. صبري صبر سفينة.. يا بحر إمتى الحلو يجينا.. يا بحر.. يا بحر..” بكى الأصدقاء جميعا. بكت الأًشجار والملَكان المسكينان اليائسان بكيا. وأكاد أجزم أن الأب الراقد قربه في الضريح قد بكى.
على رائحة البخور استيقظ الصديق الذي نام قربَه، يحرس ليلته الأولى. سهر، هو وكل أشجار الوادي القريب, يغني له ترنيمة حياة، كررها ألف مرة، علَّه يبدل رأيه فيعود من هذا الموت المجحف. ولما أعياه التحايل غفا، وكان أن استيقظ على رائحة أعواد البخور، وعلى الكثير الكثير من الخذلان.
في الصباح التالي، وفي كل صباح تلا، اجتمع الأصدقاء قربه. غنوا له كل الأغاني التي أحب. نثروا ماء الحياة على ترابه… أغووا روحه بكل ما ظنوا أنه قد يبدل إحداثياتها. ولما أعياهم الوقت، قال أحدهم: يا عدنان.. نحن أصدقاؤك الذين عشنا معك ومضيت قبلنا. نحن الذين نحبك، نعدك بألا ننساك… ارتبكت دموعه، ثم تداخلت الحروف وتدلَّت متعثرة وبلا معنى.. فصمت الصديق، وكان يعرف في سرِّهِ، أن لا فضلَ ولا مِنَّةَ، فرغم تعب الذاكرة، ورغماً حتى عن أرواحنا، ودون قصد، أو تعمد، أو نوايا طيبة, كان يعرف أنه، ببساطةٍ، يتحدث عن رجلٍ سوف يأباه النسيان.
لم يشهد أحد خروجه من البحر وارتماءه هكذا وحيداًَ على الرمال. ولذا قال صديق: صارع عدنان كثيراً وخرج من الماء وحاول ألا يخذلنا لكنه، في هذه المرة, لم يُوفق.
قالت أمه: أظنه اشتاق لأبيه.
قالت عجوز بروحٍ جعدتها الأحزان: لا تبكوا عليه.. كي لا تجعلوه يبكي, فهو يحيا الآن في مكان آخر.
قالت لينا: سرٌّ لا يُفسَّر أغواهُ، فمشى وراء السر، وإلا فلا معنى لكل هذا البكاء المرير.
قالت نوّاره: لم يكن الغدر من صفاتك يا أبي, فكيف واتاكَ البحر والليل ونبل السريرة، وفعلتها بي؟
حمص 13/8/2008
خاص – صفحات سورية –

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى