صفحات ثقافيةمنهل السراج

الفَرْج الساخط

null
منهل السراج
المكتوب باين من عنوانه. استخدمت الكاتبة ماريا سفيلاند الكلمة العامية لعضو المرأة الجنسي وعنونت به روايتها مصممة أن تنتزع العيب عنه. هذا هو لب القضية في كتاب “الفَرْج الساخط”  للكاتبة السويدية ماريا سفيلاند 2005.
“كيف يمكن أن أحيا من دون أن أصبح ساخطة، حين يوجد أسباب عديدة لذلك؟ تشاهدين النساء بفم حامض وعيون فارغة، يوبخنك وهن بجانب حوض الغسيل فقط لأنك تعترضين طريقهن إلى حوض الغسيل، يدفعنك لأن تفحي في وجوههن كعجوز شمطاء.
كيف لا أتحول إلى فرج فاجر وأنا أعيش في مجتمع يتحامل ويغتصب ويسئ ويهين الفتيات والنساء”؟
“كيف يمكننا تحقيق المساواة في المجتمع إذا لم نستطع فعل ذلك حتى مع الشخص الذي نحب؟”

“الفرج الساخط” كتاب هجين بين تحقيق صحفي ووثائق ذاتية من حياة الكاتبة وريبورتاجات أجرتها خلال عملها في الإذاعة، وبالنتيجة أصبح رواية سياسية تعالج موضوعة المساواة في المجتمع من جوانب مختلفة بلغة جريئة وهادرة مما أحدث نوعاً ما جدلاً في الوسط الثقافي السويدي.
حلمت سارة الشخصية الأساسية في الرواية بالحب وبأنها ستصبح امرأة ناجحة حرة وبلا عقد، كاتبتها التي قرأت لها كثيراً نجحت في الحصول على أسرة محبة في السبعينيات، أما سارة فبدل أن تصبح كما حلمت رحماً دافئاً للطفل، وزوجة حبيبة، أصبحت “فرجاً ساخطاً” وتحول حلمها إلى أمنية النوم ليلة كاملة من دون أرق الولد.
سارة امرأة في الثلاثين متزوجة ولديها طفل، تقول إن مسؤولية زوجها بخصوص الطفل لا تقارن بمسؤوليتها كأم: “حين يكون الدور عليه ليستيقظ مع الطفل ليلاً لا أستطيع إلا أن أستيقظ أيضاً”. باختصار تقوم المرأة بإلغاء جزء من ذاتها من أجل الطفل، أما الرجل فإنه يمارس هذا بإرادة حرة تماماً.  وبعد تراكمات الظلم التي كانت تهيمن على تفكير سارة طوال الوقت.. استيقظت ذات صباح كانوني فوجدت نفسها حانقة جداً، ملعونة من شدة الغضب، فاتخذت قرارها، تركت وراءها البيت والرجل والولد وطارت إلى جزر الكناري كي تستريح وتتأمل.
طفولة سارة كانت بين أم بظهر محني على حوض جلي الصحون وكفين مصابتين بالأكزيما، وأب متسلط. تنام الطفلة تاركة الأم أمام المجلى، وحين تستيقظ تجد الأم في مكانها نفسه أمام المجلى، كأنها لم تغادره طوال الليل.. أما الأب الذي يتوعد في النهار فكثيرا ما رأته الطفلة يبكي ليلا بصمت.
في هذا التهافت لانتزاع أعراف نشأت وتمترست منذ آلاف السنين تركض سفيلاند وراء سارة. تمضي لتنبش في حياتها، تتشمم كل الزوايا المعتمة وتنشر رائحة السخام في وجه قارئها، تفرد فصلاً كاملاً لتتحدث عن عدد المرات التي لقبت بها “عاهرة” منذ كانت في الثالثة عشرة وحتى الثلاثين. تقول إن شهوة ابنة الثالثة عشرة لا تختلف إطلاقا عن شهوة ابنة الثلاثين، ككل الصبيان كانت تشتهي وتمضي لتشبع.
تتحدث عن تذمرها من صدمة أمها حين علمت بأنها مصابة بعدوى تنتقل عادة عبر الجنس. فتترك أمها ذاهلة، وتندفع لتلتقي الشاب الذي نقل إليها العدوى فهي كما تقول: لا أطيق أن أتخلى عن ذلك الإحساس اللذيذ. سارة لا تطيق أن تمضي ليلة واحدة وحيدة.
وهكذا تمضي أحداث الرواية/ أجزاء من سيرة الكاتبة.
ماريا سفيلاند التي تناضل من أجل تحقيق المساواة بين الجنسين تقول عن الدافع وراء هذا الكتاب: مفهوم الحب وكل الأساطير التي نسجت حوله في التاريخ، تلك الخرافة التي أثرت على أصغر خلية من خلايا جلدنا.. علينا أن نفهم بداهة أنه أمر غير عادل.. بالطبع إن العنف والاضطهاد لا يهيمنان بشكل كامل على علاقة، إلا أن العديد منا بشكل ما عاش تحت أنواع من الظلم، حتى نحن من نعتبر النموذج المناضل من أجل المساواة.
وتضيف: كثيرون يبررون عدم المساواة بين الجنسين بسببب الاختلاف الفردي أو البيولوجي أو الثقافي أو البيئي  أو الخ.. في الحقيقة كتبت كتابي لكي أنهي أكل الخرا هذا..

سألتُ الكاتبة شخصياً عن معنى “الفرج الساخط” أو المرّ، هذا العنوان المستفز خصوصاً وأن الكاتبة استخدمت الكلمة العامية لعضو المرأة الجنسي وعنوان الرواية جاء عبارة مبتذلة تطلق على المرأة الكريهة.
أجابت: شعور الحزن والكره الذي ينشأ بسبب الحسابات الخاطئة، أو بتعبير آخر الشخص الذي رزح تحت ظلم وإهانة لمدة طويلة. سارة في الرواية عايشت الأمر ذاته، أما كلمة “الفرج” بالعامية، فهي لقب مهين لعضو المرأة الجنسي. حاولت في كتابي أن أقلبه إلى مفهوم إيجابي وبناء، ليس خطأ فادحاً أن تصبح المرأة غاضبة أحياناً. الفرج الفاجر عكس المرأة الشهيدة التي تعاني وتبقى صامتة.
فالعنوان المستفز هذا منعكس صحي على مجتمع مريض. الكلمتان: الفرج والفاجرة، كلمتان تطلقان بهدف التهجم على المرأة، للتقليل من شأنها وإهانتها، الشتيمة التي تطلق عادة على المرأة الساخطة، المرأة الأقبح في الوجود.
قالت إحدى الناقدات عن الكتاب: لا تخطئ أبدا بالظن إن مقصد الكاتبة من كتابها أن الحب غير موجود أو أن الطفل حجر عثرة في طريق النضال من أجل المساواة. أو أن الرجل بالضرورة يتعامل بلؤم. سارة تريد فقط أن تحب وتحيا بنفس الشروط التي يعيشها الرجال.
وأضافت الناقدة اقرأ الفرج الساخط وانشحن لكن أبدا لا تدخر البارود.
قالت سفيلاند عن تجربة الكتابة: أحيانا حين كنت أجلس لأكتب كنت أحس أن النص أصبح كسواد الليل غاضباً وحالكاً وكنت مقتنعة أنني أغرق في التهجم ولكنني صدقاً لأنني حانقة.
كانت ماريا سفيلاند تتحدث بجبين عريض وعيون محدقة بقوة ووضوح، بوجه شاب بكفين ناصعتين وأصابع راقية فهي ما زالت في الثلاثين من عمرها.
أغلقت الكتاب والتلفاز أنا القارئة المشاهدة الشرقية لنضال تلك المرأة السويدية ومرارتها التي كان من الصعب علي تخيلها وفهم تلك القيود التي استدعت كل هذا السخط، ولا أدري لماذا تركت الكتاب ووقفت أمام المرآة، فتشت في شكلي، وجدت جبيني مغضناً وقدمي متفسختين مثل قدمي أمي وأصابعي جافة تماماً مثلها، ذلك لأني وقفت مثلها ومثل أم سارة طويلاً عند حوض جلي الصحون وغسلت الأرض كثيراً، ولم يعترض طريقي أحد إلى هذا، على العكس كان الجميع يصفق، واعتنيت بالولد كما فعلت أمي مع أولادها الثمانية. أحسست أنني مثل أمي التي تعففت عشرات السنين، وأفعل مثلها، الفرق أن وجهي حانق ورافض، ووجه أمي سمح وراض.
ذلك الإرث المرّ..
كنت أثناء القراءة لا أستطيع أن أكبح الذاكرة وأجتر المرارة، الأمهات والجدات وما خلفن لنا وما ورثناه عنهن، وما ورثت سارة عن أمها، كيف لا نقارن بين مرارة سارة ومرارتنا نحن الكثيرات في بلادنا،  كيف لا نفكر بالفلاحات وعلى رؤوسهن أحمال ثقيلة، بالأمهات الخياطات أمام مكنات بالية، بالعاملات اللواتي يرتدين البدلة الزرقاء ويتعرقن أمام الآلة جائعات، بالموظفات المضطهدات، بالعانسات من المهندسات، الطبيبات المحاميات المدرسات وهن يجاورن أمهاتهن، بالصبايا اللواتي لا يتقن إلا الكذب وأخبار الفنانات، بالعروسات الصغيرات اللواتي لم تنتظم دورتهن الشهرية بعد، بالنفسا التي تلد الطفل ويبقى القبر مفتوحاً، بالعاشقات اللواتي يمضين مع ابن الطائفة الجارة ويقتلن، بالبنات اللواتي يكافحن من أجل الذهاب إلى الجامعة، بالزوجات اللواتي أقدمن على حرق أنفسهن من شدة ظلم الزوج والأهل، بالصغيرات يهرولن في الشوارع يمسحن زجاج السيارات ويدعين الرب بشفاه لئيمة، يفكر المرء باللواتي حاولن الاختراق ولم يخلفن إلا الاشمئزاز والرفض.
امتلأت بالمرارة ليس لأن حقوق الناس في بلادنا مهدورة فقط، وإنما لأن الأمر يخلص دائماً إلى نتيجة واحدة، أننا شرقاً في واد وأنهم في تلك البلاد على جبل آخر..
سؤال أول يلح: من أين يبدأ المشوار ومازال هناك فتيات يقتلن لأنهن أحببن.
قمت بترجمة مقطع قصير من “الفرج الساخط” للكاتبة ماريا سفيلاند.
“أقول الوداع 1993
إنه منتصف عامي الأخير في بيت أهلي، سأنتقل للعيش في ستوكهولم في آب بعد انتهاء الفصل الدراسي. أمي وأبي لا يتكلمان مع بعضهما إلا حين يكون أبي ثملاً، وعادة يكون هذا صراخاً، لكن في الواقع كنت أنجو من سماع الكلمات لأن غرفتي تقع في الجانب الآخر من المنزل وبالتالي لا يتناهى إلى أذني سوى هدير النزاع.
أقضي ليالي عديدة عند يانس أو ميكايل أو أحد رفاقي الشباب الذين يكبرونني ولديهم شققهم الخاصة، هناك أجد الصمت والهدوء، ويمكنني الدخول والخروج وقتما أشاء.
أستلقي في أسرّتهم، أقترب من رفيق السرير، وأقترب، إلى أن أنتهي في أحضانه.
أذهب إلى البيت أحياناً، لأتناول طعامي وأحضر ثياباً نظيفة. كانت أمي في كل مرة ترجوني قانطة أن أبقى في البيت:
ـ لا أريدك أن تكثري من المبيت في الخارج.
تقول هذا يائسة وتتشبث بمعطفي الجلدي.
لكن كنت ألوي يديها المصابتين بالأكزيما وبفظاظة أتحرر من قبضتها لأندفع إلى دراجتي مرددة “مع السلامة” ماضية في الطريق ليلاً”.
موقع الاوان

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى