الروائي السوري حنا مينا ينشر وصيته ويرفض إقامة تأبين له
ف
ي أول خطوة من نوعها، نشر الروائي السوري المعروف حنا مينا وصيته، الاثنين 18-8-2008، عبر الصحف الرسمية، بعد أن بلغ من العمر 84 عاماً، معرباً عن شعوره بأنه “عمّر طويلاً”.
وطلب مينا في وصيته ألا يذاع خبر وفاته في أي وسيلة إعلامية، ويحمل نعشه 4 موظفين من دائرة دفن الموتى، وليس أي أحد من معارفه. وتابع: “بعد إهالة التراب علي، في أي قبر متاح، ينفض الجميع أيديهم، ويعودون إلى بيوتهم، فقد انتهى الحفل، وأغلقت الدائرة”.
عمل في بداية حياته حلاقاً ثم حمالاً في ميناء اللاذقية، ثم بحاراً إضافة إلى أعمال أخرى مشابهة، قبل أن يصبح كاتبا
كما أوصى بالا تقام له أية تعزية، أو شكل من أشكال الحزن، مشددا على عدم إقامة حفل تأبين له، وقال إن “الذي سيقال بعد موتي سمعته في حياتي ، وهذه التأبينات، وكما جرت العادات، منكرة، منفرة ومسيئة إلي.. استغيث بكم جميعاً أن تريحوا عظامي منها”.
وختم الروائي السوري وصيته بترك حرية التصرف بما يتركه من إرث لـ “من يدّعون أنهم أهلي” ، ما عدا منزله في مدينة اللاذقية الذي أوصى به لزوجته مريم دميان سمعان، طوال حياتها.
وذيّل وصيته بتوقيعه وبالتاريخ (17-8-2008).
ومينا من مواليد اللاذقية عام 1924. نشأ في أسرة فقيرة، فعمل في بداية حياته حلاقاً ثم حمالاً في ميناء اللاذقية، ثم بحاراً إضافة إلى أعمال أخرى مشابهة، قبل أن يصبح كاتبا لمسلسلات إذاعية، ثم روائيا في الأربعين من عمره، حتى أصبح رئيسا لتحرير صحيفة “الإنشاء” في دمشق.
وكانت أولى روايا مينا “المصابيح الزرق”، وأنتج حوالي 30 عملا أدبيا منها “النجوم تحاكم القمر”، و”القمر في المحاق”، و”نهاية رجل شجاع” ، و”بقايا صور” التي تحول بعضها إلى أعمال تلفزيونية.
وهو أب لخمسة أولاد، بينهم صبيان، هما سليم الذي توفي منذ زمن بعيد، وسعد الذي أضحى ممثلا، أما بناته فهن سلوى (طبيبة)، وسوسن (تحمل شهادة في الأدب الفرنسي) وأمل (مهندسة مدنية).
تجدر الإشارة إلى أن هذه المرة الأولى التي تنشر فيها شخصية معروفة وصيتها بهذه الصورة الدرامية في سوريا.
وصية حنا مينه
أنا حنا بن سليم حنا مينه، والدتي مريانا ميخائيل زكور، من مواليد اللاذقية العام 1924، أكتب وصيتي وأنا بكامل قواي العقلية، وقد عمّرت طويلاً حتى صرت أخشى ألا أموت، بعد أن شبعت من الدنيا، مع يقيني أنه «لكل أجل كتاب».
لقد كنت سعيداً جداً في حياتي، فمنذ أبصرت عيناي النور، وأنا منذور للشقاء، وفي قلب الشقاء حاربت الشقاء، وانتصرت عليه، وهذه نعمة الله، ومكافأة السماء، وإني لمن الشاكرين.
عندما ألفظ النفس الأخير، آمل، وأشدد على هذه الكلمة، ألا يذاع خبر موتي في أية وسيلة إعلامية، مقروءة أو مسموعة أو مرئية، فقد كنت بسيطاً في حياتي، وأرغب أن أكون بسيطاً في مماتي، وليس لي أهل، لأن أهلي، جميعاً، لم يعرفوا من أنا في حياتي، وهذا أفضل، لذلك ليس من الإنصاف في شيء، أن يتحسروا علي عندما يعرفونني، بعد مغادرة هذه الفانية.
كل ما فعلته في حياتي معروف، وهو أداء واجبي تجاه وطني وشعبي، وقد كرست كل كلماتي لأجل هدف واحد: نصرة الفقراء والبؤساء والمعذبين في الأرض، وبعد أن ناضلت بجسدي في سبيل هذا الهدف، وبدأت الكتابة في الأربعين من عمري، شرّعت قلمي لأجل الهدف ذاته، ولما أزل.
لا عتب ولا عتاب، ولست ذاكرهما، هنا، إلا للضرورة، فقد اعتمدت عمري كله، لا على الحظ، بل على الساعد، فيدي وحدها، وبمفردها، صفقت، وإني لأشكر هذه اليد، ففي الشكر تدوم النعم.
أعتذر للجميع، أقرباء، أصدقاء، رفاق، قراء، إذا طلبت منهم أن يدعوا نعشي، محمولاً من بيتي إلى عربة الموت، على أكتاف أربعة أشخاص مأجورين من دائرة دفن الموتى، وبعد إهالة التراب علي، في أي قبر متاح، ينفض الجميع أيديهم، ويعودون إلى بيوتهم، فقد انتهى الحفل، وأغلقت الدائرة.
لا حزن، لا بكاء، لا لباس أسود، لا للتعزيات، بأي شكل، ومن أي نوع، في البيت أو خارجه، ثم، وهذا هو الأهم، وأشدد: لا حفلة تأبين، فالذي سيقال بعد موتي، سمعته في حياتي، وهذه التآبين، وكما جرت العادات، منكرة، منفّرة، مسيئة إلي، استغيث بكم جميعاً، أن تريحوا عظامي منها.
كل ما أملك، في دمشق واللاذقية، يتصرف به من يدّعون أنهم أهلي، ولهم الحرية في توزيع بعضه، على الفقراء، الأحباء الذين كنت منهم، وكانوا مني، وكنا على نسب هو الأغلى، الأثمن، الأكرم عندي.
زوجتي العزيزة مريم دميان سمعان، وصيتي عند من يصلّون لراحة نفسي، لها الحق، لو كانت لديها إمكانية دعي هذا الحق، أن تتصرف بكل إرثي، أما بيتي في اللاذقية، وكل ما فيه، فهو لها ومطوّب باسمها، فلا يباع إلا بعد عودتها إلى العدم الذي خرجت هي، وخرجت أنا، منه، ثم عدنا إليه.
حنا مينة
تعليـقاً علـى وصيـة حنـا مينـه: أهـي تراجيديـا جديـدة تكتبهـا؟
انور محمد
نشرت الصحف السورية أمس الأول وصية الأديب السوري حنا مينا، التي حملت، إضافة إلى ما حملته من قرارات شخصية، انطباع حزن ويأس، ولهجة وداع مرة. هنا انطباعات الزميل أنور محمد عن الحدث:
حنا مينا كأنَّك عشت زيادة عن المتفق عليه؟ كأنَّك؛ كأنَّها انتهت صلاحية الحياة عندك؟ هل أفسدت الضباع عليك سهرتك؟ أفسد عليك الروائيون الجدد؟ الضباع الجددُ المتزنِّرون بالأحزمة الناسفة روايتك التي من حياة؟ الحقُّ معك؛ أنت تحملُ المعرفة وهم يحملون السكاكين والمسدسات. لماذا ترتجف منهم يا أبا بحر؟ كأنَّك تفضِّل الاستسلام على الحقيقة يا أيُّها الثوري الكبير، يا الإبن الشرعي للحياة. أصرت تخاف هؤلاء الضباع المولودين على حوافها مثل مخلوقاتٍ بائسةٍ يكتبون في كل الأجناس، ولا يكتبون إلا فزعهم وجُبنهم وهشاشتهم.
حنا مينا.. أهو الموت لتتطهَّر؟ كيف تحطِّم مشاعرنا/ تباغتنا بهذه الوصية، وأنت رواياتك، وأنت شمسك تدخل من نافذة. يا للشمسِ التي تخترق القلبَ/ العقلَ كاللهب الثاقب، وبتلك العظمة من العنفوان الصوفي المتمسِّك بالحياة يا ابن الحياة. يا لرواياتكَ تجري فينا كما الفرات يجري مندفعاً في سورياك. أم أنَّه الموت الذي يتحوَّل في حسابات العباقرة أمثالك إلى حياة؟ حنا مينا كيف تُشيد الحياة في رواياتك وتدفعنا إلى أن نعشقها ونتمسَّك بها رغم ما تحشرُ فيها من مآسٍ حنّاوية مع شيءٍ من مآسٍ يونانية وأخرى شكسبيرية، ثمَّ تعلن انسحابك وتطلبه على عجل؟
أهي تراجيديا جديدة تكتبها أيُّها العاري الذي قشَّرَ جلد الحياة عنها ففرجانا إيَّاها عارية، ونعيشها على إأَّها حقيقة وليست كذبة؛ مثل المثقفين الكذبة، والروائيين الكذبة، والنقاد الكذبة الذين ما يفتأون يصدِّرون الرواية الكذبة والقصيدة الكذبة، ليستعملوها نياشين يعلِّقونها على هياكلهم العظمية، يسترون عريهم، يسترون ما نزعتَ عنهم من قشر الرياء والادِّعاء. حنا مينا.. هل تحطَّمت أجنحتكَ، وأنت الذي لا تحيا إلا محلِّقاً؟ هل أرهقك، أرهقَ أعصابك الثوريون الكذبة. أبهذه السرعة تذهب من الوجد إلى اليأس، من الفرح إلى الكآبة. أين عقلك الروائي يا أبا بحر، ألا تعرف أنَّه حيُّ وسيبقى حيَّاً في حياتك وفي انسحابك، وأنَّ ناره المتوحشة، ناره الطفولية لن تخمد؟
حنا مينا أيُّها السبَّاح حتى في المياه العكرة، كيف تنسحبُ من السباق وأنت العقلك من حممٍ فكرية، وأنت المبصر فينا رغم عماء حواسنا؟ حنا مينا ماذا نفعل بفيض البطولة التي في أبطالك أيُّها المكافح/ الحلاق/ القندرجي/ السبَّاح/ الروائي الذي تُسكرنا عاصفته وشراعها وثلجها وما بقي من صورها فلا نعيش في قبر فكري؟ أهي الشيخوخة يا شيخ الشباب، أم المفسدون يقوون على إفساد نبلك أيُّها الفتى النبيل. أهكذا فجأةً تُعذِّبنا، وتلقي بنا لنعيش مع العميان، أين تأمُّلاتك التي تدفع بنا من أغوار السفلي إلى سماوات العلوي فتزغرد الحياة فينا فلا نُحسبُ على الفانين يا لساننا؛ لسان الناس.
حنا مينا.. يا الفتى الفكرهُ الروائي من ذرواتٍ عظيمةٍ؛ من عظَمةٍ كما في الشراع والعاصفة، والشمس في يوم غائم، و… لماذا تريدُ أن تصير/ تتحوَّل إلى خشبة؟ لماذا تعذِّبُ نفسك؟ طالع منشاركَ فننشر هذه الأخشاب/ الروايات الخشبية، يا الروائي الذي من دمٍ وحلمٍ وأحاسيس مشتعلة، يا أبا الجبين المشرق، يا الجريح فينا ولا أحد يأخذ بثأرك، يا النسر. الغربان تريد تحلُّ محلَّه، غربان تقتحم عليك حجرتك وخلوتك، ثمَّ تختم عليك بالشمع الأحمر، تطلب السعادة لها، والموت لك، يا لبؤس الحياة الإنسانية.
أي دكتاتور يقبع في أعماقهم فيعذِّبك أيُّها البحَّار الذي صار يشكِّل خطراً على حياته. حنا مينا.. أبعدَ هذا العمر، بعد أربعةٍ وثمانين عاماً اكتشفتَ أنّك كنت تُضحِّي من أجل أشخاص؟ لا، لا. أعرف أنَّك كنت تُضحِّي من أجل الحياة، من أجل إنقاذها من بين أنياب الكلاب الضارية.
السفير