صفحات سورية

الصورة العربية في استقالة الجنرال

null
د. خالد الدخيل
ربما لم يكن للمشهد السياسي أن يكون أكثر تعبيراً مما كان عليه في الأسبوعين أو الثلاثة أسابيع الماضية، خاصة في إطار العالم الإسلامي. فيوم الاثنين الماضي كان الرئيس الباكستاني، الجنرال برويز مشرف، على شاشات التلفزيون يعلن استقالته من منصبه تحت تهديد التآلف الحكومي المعارض. سأل أحدهم: هل يمكن أن يكون هذا بداية تراجع المؤسسة العسكرية في العالم الإسلامي أمام المؤسسة السياسية المدنية، وآلية الضغط الديموقراطي؟ غاب عن بال السائل مثال معاكس لاستقالة الجنرال في إسلام آباد، كما فاته أيضاً أمر مهم تختلف به باكستان عن العالم العربي، أو قلب العالم الإسلامي حالياً. المثال المعاكس لمشهد إسلام آباد جاء من العاصمة الموريتانية، نواكشوط، قبل حوالي أسبوعين. هناك قرر قائد الجيش- المنصب السابق لمشرف- الجنرال محمد ولد عبد العزيز، إزاحة الرئيس المنتخب عن الحكم، وإنشاء مجلس أعلى للدولة. بعبارة أخرى، جنرال يتراجع وينسحب أمام حكومة منتخبة، وآخر ينقض على حكومة منتخبة. السبب الرئيسي في استقالة الجنرال الأول هو الهروب من المحاكمة، وما قد تفضي إليه من إقالة مقرونة بعقوبات أخرى. أما السبب الرئيسي في انقضاض الجنرال الثاني على الرئيس فهو قرار الأخير بإقالة الجنرال من منصبه في قيادة الجيش.
هذا التناقض بين المشهدين يوحي لأول وهلة بأن باكستان اتخذت الخطوة الأولى نحو تراجع الجيش عن دوره الضاغط والمهيمن على الدولة، لصالح المؤسسة المدنية، واعتراف أو بداية اعتراف بشرعية وإلزامية الإرادة الشعبية، وبأن إدارة العملية السياسية، تعود في الأساس للمؤسسة المدنية. هذا ما يبدو على السطح حتى الآن. لكن يجب أن نأخذ في الاعتبار أيضاً الظروف الاستثنائية التي حدثت فيها استقالة الجنرال الباكستاني. فهناك ظروف ما يسمى الحرب على الإرهاب، وذهاب الجنرال بعيداً في تحالفه مع إدارة بوش في هذه الحرب، واغتيال بنازير بوتو، ثم التحالف بين أكبر حزبين باكستانيين على قاعدة العداء للجنرال. وإذا كانت الأمور بنتائجها، وليس فقط بمقدماتها، فعلينا أن ننتظر كيف ستسير الأمور، خاصة لناحية تماسك التحالف بين هذين الحزبين في المستقبل القريب، ومدى التزامهما بالديمقراطية التي أتت بهما إلى الحكم. من ناحيته يؤكد المشهد من نواكشوط أحد أمرين، أو ربما كليهما معاً. فالانقلاب الموريتاني إما أنه تذكير بأن “ثقافة الانقلابات العسكرية” لا تزال تحتفظ بحيويتها في العالم العربي، أو أن موريتانيا جاءت متأخرة في استلهام هذه الثقافة. فقد تراجعت الانقلابات في الدول العربية التي تخضع لحكم جاء بهذه الآلية. لكن لم يحصل هذا التراجع لصالح الديمقراطية والحكم المدني. على العكس، السبب الرئيسي في ذلك يعود بشكل أساسي إلى تطور الأجهزة الأمنية والاستخباراتية للدولة، وبالتالي قدرة الدولة على تطوير وتوسيع مجال قبضتها الأمنية. ونتيجة لذلك نجحت الطواقم الحاكمة في تحييد المتربصين للانقلاب، وبالتالي البقاء في سدة السلطة مدى الحياة. استبدلت الانقلابات بآليات جديدة: استفتاءات تقرر الحكومة نتائجها مقدماً، وعملية توريث للحكم تمر من خلال “مؤسسات برلمانية”، ويصادق عليها الاستفتاء.

ميزة موريتانيا في الإطار العربي أن تداول السلطة فيها دخل منذ فترة قصيرة حالة تأرجح بين آلية الانتخاب الديمقراطي، وآلية الانقلاب العسكري. وفي هذه الحالة يبدو أن المؤسسة العسكرية لا تملك من الإمكانيات، ومن الشرعية ما يسمح لها بأن تنتج فئة حاكمة من داخلها تملك القدرة على الاستئثار بالسلطة على شاكلة مثيلاتها العربية. من جانبها لا تملك مؤسسات المجتمع المدني من الخبرة والعمق السياسي والاجتماعي ما يمكنها من فرض خيار الديمقراطية والتداول السلمي للسلطة على المؤسسة العسكرية. هنا أيضاً علينا أن ننتظر نتائج هذا التأرجح في التجربة السياسية في موريتانيا.
ثم هناك الأمر الذي تتميز به باكستان عن العالم العربي في هذه المرحلة. فرغم أن الجيش ظل لعقود هو أقوى المؤسسات السياسية في الدولة الباكستانية، فإن المجال السياسي بقي واسعاً بما يسمح بدخول مختلف القوى السياسية إليه، والمشاركة في العملية السياسية. فهناك أحزاب تتمتع بقاعدة شعبية كبيرة، وجمعيات دينية لا تقل شعبية، ثم هناك النقابات والاتحادات المهنية والقانونية. إلى جانب ذلك يمثل الإعلام قوة سياسية لا بأس بها من حيث المهنية، وهامش الحرية، والاستقلال. يبدو أن هذا التطور وصل ذروته في أواخر حكم الجنرال مشرف. يتضح ذلك من خلال إلقاء نظرة على كيف وصلت الأمور في باكستان إلى لحظة يضطر فيها الجنرال ولأول مرة إلى الاستقالة من منصبه، منهياً بذلك تسع سنوات أمضاها رئيساً لباكستان، وفي فترة كانت ولا تزال من أصعب الفترات السياسية في هذا البلد المسلم. حتى أيام قليلة مضت كان الانطباع الشائع في إسلام آباد أن الرئيس لن يستقيل، وأنه اعتماداً على دعم المؤسسة العسكرية قد يذهب في تحدي خصومه إلى النهاية، وأنه مستعد لمواجهة محاكمته في البرلمان دفاعاً عن نفسه، وعن شرفه السياسي والعسكري.
من ناحية أخرى، كان من الواضح أن حلفاء مشرف في الداخل وفي الخارج، باتوا مقتنعين بأنه خسر المعركة أمام خصومه، وأن الواقع يفرض عليه التعاطي مع هذه الحقيقة. اصطدم مع التيار السلفي، ومع المؤسسة القضائية، ومع أقوى حزبين سياسيين (حزب الشعب، وحزب الرابطة الإسلامية)، ومع نقابة المحامين. وهذه القوى مجتمعة تمثل أغلبية سياسية وشعبية كبيرة في باكستان. وقد اتضح ذلك من الابتهاج الشعبي الذي انفجر في أنحاء باكستان بعد إعلان الاستقالة. وإذا أضفت إلى ذلك أن الجنرال ذهب بعيداً في تحالفه مع الأميركيين فيما يسمى الحرب على الإرهاب، فإنه يكون قد خسر كثيراً في الشارع الباكستاني. والحقيقة أن علامات تراجع القوة السياسية لمشرف، وبداية عزلته بدأت في الظهور بعد اجتياح المسجد الأحمر العام الماضي، ثم تأكدت بعد اضطراره للقبول بعودة خصميه اللدودين، الراحلة بنازير بوتو، ونواز شريف، ثم قبوله لانتخابات برلمانية جديدة. ويقال إن الجيش ألزم نفسه بالحياد وعدم التدخل في هذه العملية. وقد جاءت نتيجة هذه الانتخابات لتؤكد أن الرئيس أصبح في حالة عزلة سياسية خانقة. وربما بسبب ذلك اضطر إلى الاستقالة من قيادة الجيش تحت ضغط المعارضة.
عندها بات واضحاً أن التعايش بين المعارضة والرئيس لم يعد ممكناً. وحسب المصادر لعبت السعودية وبريطانيا تحديداً دوراً في التوصل إلى اتفاق يستقيل على أساسه مشرف من الرئاسة، ويحتفظ بعد ذلك بكل امتيازاته كرئيس سابق، ويلتزم خصومه بعدم ملاحقته قضائياً. هذا التدخل الخارجي يكشف بحد ذاته كيف وصلت التوازنات السياسية داخل الدولة الباكستانية. قارن مشرف وكيف انتهت به مغامرته السياسية عندما قاد الانقلاب العسكري عام 1999، مع ما كان عليه وضع الجنرال ضياء الحق في سبعينيات القرن الماضي. حتى المؤسسة العسكرية تبين أنها ليست أهم حلفاء مشرف. ظهور الجنرال على الشاشة معلناً استقالته من منصبه كرئيس لباكستان يمثل سابقة تاريخية: أول جنرال في العالم الإسلامي يخضع لضغوط قوى سياسية منتخبة ويضطر للاستقالة من منصبه.
ما حدث في باكستان الاثنين الماضي يؤكد اتساع المجال السياسي في هذا البلد. وربما أنه بسبب سعة المجال السياسي هذه بقي الحكم في باكستان، ورغم حكم الديكتاتور أحياناً، في إطار طبقة اجتماعية سياسية معينة، وليس حكراً على فرد بعينه. في العالم العربي، الأمر على العكس من ذلك. هنا الفرد لا يزال هو الحاكم بـ”أمر الله”، وهو لا يمثل، على الأقل سياسياً، طبقة اجتماعية بعينها. فالعملية السياسية، وضيق المجال السياسي لم يسمحا بنشوء طبقة حاكمة بالمعنى السياسي المتعارف عليه. الحاكم هنا هو الفرد، وبعض أقاربه وحلفائه. وليس واضحاً هل بسبب ذلك بقي تطور الدولة العربية مشوهاً، أم أن هذا التشوه هو السبب وراء حكم الفرد، وغياب حكم الطبقة الاجتماعية. من هذه الزاوية يمكن النظر إلى استقالة الجنرال الباكستاني كحدث يضيء مقابله في العالم العربي، وهي إضاءة تكشف أن التغيرات تحدث في أجزاء كثيرة من العالم، إلا هذا العالم العربي. القضايا الرئيسية التي أرغمت الجنرال على الاستقالة هي قضايا محلية، مثل استقلال القضاء، والحقوق، بما فيها المشاركة السياسية، وتداول السلطة. أما في العالم العربي فلا تزال القضايا المحلية مغيبة باسم مشاريع أميركية تستخدم للتغطية على حكم الفرد، والاستبداد بالسلطة. وهذا يعكس حجم التغير العربي خلال أجيال متعاقبة.
جريدة الاتحاد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى