صفحات الناس

بردى: مالئ الشام… وشاغل الشعراء: بعد إطلاق وعود بإعادته إلى الحياة

null
محمد منصور
نقل عن وزير الري السوري المهندس نادر البني مؤخراً… نية وزارته إعادة الحياة لنهر بردى عبر تنظيف مجرى النهر وتنظيمه داخل مدينة دمشق، وتركيب أربع بوابات كهربائية في المجرى تسمح بعد إغلاقها برفع منسوب المياه في النهر وتشكيل شلالات مائية… فضلا عن تغذية النهر بالمياه باستخدام الآبار المحفورة بمحاذاة النهر من قبل محافظة دمشق والبالغ عددها 13 بئراً، وذلك بعد إجراء الصيانة اللازمة لهذه الآبار أو حفر آبار جديدة إذا لزم الأمر.
ولو صحت هذه الأنباء… ولم تكن مجرد وعود اعتاد الوزراء إطلاقها دون أن يحاسبهم أحد على مدى تنفيذها… فإن ذلك سيعيد لدمشق الكثير من الألق المفقود، الذي ارتبط تاريخياً بجريان بردى فيها… هنا القصة الكاملة للنهر والمدينة، لعناق التاريخ والجغرافيا، وسحر الضفاف وثراء الدور الأثر. نهر الذهب سماه الرومان نهر الذهب، وله تدين أقدم مدينة مأهولة في التاريخ بوجودها، وتدفق نبع الحياة فيها. مر عليه غزاة وفاتحون… رحالة وعابرو سبيل… أدباء وشعراء ما انفكوا ينهلون صور الإلهام من جريانه ومن بوح خضرته وضفافه. من عذب مائه زيّن الدمشقيون باحات دورهم، وسقوا نباتاتهم وبساتين غوطتهم، وعلى ضفافه أقاموا نزهاتهم… فكان (السيران الدمشقي) ومازال جزءا من مسيرة هذا النهر ومن طقوس الاحتفال بالربيع المتدفق على جنباته. سماه نزار قباني (أبا النهور جميعاً) وقال عنه محمد الماغوط: (أنا شاعر ناطق، وهو شاعر صامت منذ قرون) رأى فيه أحمد شوقي ثم الأخطل الصغير صورة للجنة الموعودة… واستصرخه سعيد عقل في ذروة حنين: (ردَّ لي من صبوتي يا بــردى ذكريـاتٍ زرنَ في ليّا قـــوام) خلده الرحابنة في أغنياتهم عن الشام، وشدا صوت فيروز الملائكي بذكره: (أنا صوتي منك يا بردى مثلما نبعك من سحب) ولحن له عبد الوهاب، وغناه عبد المطلب: (بردى يا حبيبي ما بتنسى عشرتنا… أنا وأنت يا حبيبي والهوى ثالثنا) فما هو سر هذا النهر وما الذي تقوله تراتيل هذا العاشق في محراب الزمان؟! عناق الينابيع! ليس سراً أن بردى لا يقارن بالأنهار الكبيرة في العالم، وهو ليس واحداً منها بالتأكيد… وليس سراً أن نهراً ضخماً مثل نهر النيل يفوق طوله نهر بردى بما يقارب المئة مرة… ومع ذلك لم ترتبط مدينة في التاريخ، مثلما ارتبطت دمشق ببردى… ولم يسكن نهر وجدان ومشاعر الناس، مثلما سكن هذا النهر نفوس الدمشقيين وأفئدتهم، وسرى في حاضر أيامهم وذكريات حياتهم.
يبلغ طول نهر بردى حوالي (70) كليو متراً، وهو ينبع من جبال لبنان الشرقية في عمق سهل الزبداني غربي دمشق، ليسير في واد ضيق، ثم يتسلل إلى السهل حيث يتغلغل بعيداً في الصحراء فيغيب في الرمال، في قعر منخفض رحيب.. يملؤه المستنقعات.
يدين بردى بالفضل إلى نبع الفيجة الذي يمتزج بمائه الصافية في قرية الفيجة على بعد حوالي عشرين كيلو مترا من دمشق… ولولا هذا النبع الغزير والعذب، لتحول بردى بسبب علو مخرجه وانحدار واديه في مجراه الأوسط، إلى مجموعة سيول مندفعة أيام الشتاء، جافة في أكثر أيام السنة. ويسير نهر بردى في وادي يسمى باسمه (وادي بردى) ويضم العديد من القرى أشهرها (سوق وادي بردى) ويمتزج خلال مسيره نحو دمشق، بينابيع أخرى كثيرة، ألطفها وأعذبها (عين الخضراء) القريبة من قرية بسيمة… ليتابع جريانه قوياً معافى وخصوصاً في فترات تفجر الينابيع في الربيع.. والواقع أن بردى ـ كما يقول الجغرافيون ـ ما كان ليتجاوز مظهر الشريط الضيق من الخضرة، وسط تلك الصحاري الجرداء المحرقة، لولا أن عمل الإنسان على حمل مياهه بعيداً عن مجرى النهر، ليحيي تلك الأرض الظمأى فيجعلها مروية تموج بالخصب والعطاء. ولعل أعظم الأعمال التي كرست أهمية هذا النهر في دمشق وغوطتها، تفريع النهر في موضع خانق الربوة المرتفع على مشارف دمشق، إلى سبعة أفرع سمي كل منها باسم المنطقة أو الناحية أو القرية التي يرويها، كـ (الديراني) نسبة إلى قرية درايا، و(المزاوي) نسبة إلى قرية المزة التي غدت اليوم حياً راقياً من أحياء دمشق، و(العقرباوي) نسبة إلى قرية عقربا… فضلا عن (يزيد) و(تورا) و(القنوات) و(بانياس)… وقد حفرت هذه المجموعة من الأقنية – التي ينسبها البعض إلى العهدين الروماني واليوناني- على ارتفاع أكثر من (700) متر فوق سطح البحر… ومدت بشكل يتلاءم مع الوضع الطبوغرافي لخانق الربوة الذي يجري فيه نهر بردى، وعلى بعد ثماني كليومترات من مبدأ سهل دمشق.
وتجري هذه الفروع السبعة في مستويات مختلفة، على ترتيب هندسي يمكنها من أن تسقي الأرض المرتفعة والمنخفضة على السواء من دون حاجة لعمل ميكانيكي أو جهد يذكر. قصة مياه الشرب! وقد كان أكثر هذه الأنهر يدخل المدينة، وينساب في أحيائها وأنحائها وضواحيها، كالشرايين في الجسم، فتتفرع منه فروع صغيرة تجري تحت الأرض، بقساطل وأنابيب فخارية أو حديدية… وعندما تبلغ الأحياء تظهر في المقاسم الطوالع الكبيرة والصغيرة بنسبة اتساع الحي المخصصة له.. والطالع هو كتلة حجرية يخرج منها الماء… ومن هذه الطوالع تجري إلى البحرات والأحواض والبرك الموجودة في كل مكان من المدينة كالبيوت ودور العبادة والحمامات والخانات والسبل، بحيث كنت لا تجد مكاناً في المدينة خالياً من الماء الجاري ليلاً ونهاراً من دون انقطاع! يقول عبد العزيز العظمة في كتابه (مرآة الشام): (دام هذا النظام ألوفاً من السنين دون أن يعتريه أي خلل، ولم تشب المياه شائبة… إلى أن تكاثر عدد السكان وتلوثت الأنهر بمختلف الأسباب، وظهرت جراثيم الأمراض في تراكيبها، فاضطرت الحكومة أيام الوالي ناظم باشا رحمه الله أن تجر قسطلا حديدياً من مياه عين الفيجة إلى المدينة مباشرة، وأسالت منه الماء دون أن يمتزج بغيره من مياه الأنهر، وجعلت له خزناً عاماً في الصالحية حيث يقسم منه على أحياء المدينة تحت ضغط الهواء للاستسقاء فقط، ولبثت الحجرات القديمة على حالها لسقي الدواب والغسيل والرش والتنظيف والبناء وقضاء سائر الحاجات).
أطلق الدمشقيون اسم (ناظم باشا) على إحدى شوارع منطقة المهاجرين بدمشق عرفاناً بجميله في إرواء المدينة بالماء العذب النظيف… لكن مرة أخرى، ازداد عدد سكان دمشق، ولم تعد المياه التي جرها ناظم باشا كافية لإرواء السكان… فاجتمع عدد من تجار وأعيان دمشق، وأسسوا عام 1922 لجنة مياه عين الفيجة، التي أخذت على عاتقها جلب مياه أوفر من نبع الفيجة إلى دمشق، وقد قاومت هذه اللجنة سلطات الانتداب الفرنسي التي حاولت الاستثمار من المشروع ووارداته، واستطاعت انتزاعه عبر تأمين رأسمال المشروع، من خلال بيع أمتار من الماء للمشتركين يدفعون قيمتها ثم يدفعون رسماً سنوياً لقاء نفقات الترميم والإصلاح! بدأ هذا المشروع الفريد في 15 حزيران (يونيو) عام 1925، وانتهى في عام 1932، وبلغ طول القناة 18 كيلومتراً مؤلفة من أربعين نفقاً وثلاث قنوات مبنية بالإسمنت المسلح وأربعة جسور يبلغ طولها بين (15) و(50) متراً… بنيت من الإسمنت المسلح، وبني خزان كبير في وادي دمر بطول 400 متراً من الإسمنت المسلح، وعلى عمق (40) متراً تحت سطح النفق… وقد بنت هذه اللجنة مقراً لها مازال قائماً إلى اليوم في شارع النصر في قلب دمشق، اعتبر آية من آيات الفن المعماري الشرقي، الذي زينته لمسات الفنان محمد علي الخياط الشهير بأبي سليمان… وقد ظل هذا البناء تعبيراً رمزياً عن الصورة المشرقة لهذا المشروع الحيوي. إذا شرب الدمشقيون من نبع الفيجة… الداعم الأساس لنهر بردى في جريانه الدائم نحو تقبيل ثغر دمشق، وظل بردى حتى بعد أن فقد بعض نقائه، تعبيراً حياً وحميمياً عن نسغ الحياة فيها… ولم يستسلم الدمشقيون بسهولة لفكرة تلوث مياه النهر، فقد كانوا في عهود ماضية، يؤلفون لجاناً أهلية في الأحياء لتنظيف فروع النهر، في بداية كل فصل الربيع، وكان النهر الذي يخترق الدور والأحياء ويزود البيوت الدمشقية بنوافير الماء وظلال الخضرة وأريج النباتات العطرية التي تفوح ما إن تلامس عذوبة النهر… يشكل قضية بيئية شخصية لدى الدمشقيين، وكثيراً ما كان الأطفال يواجهون عقاباً قاسياً، حين يضبطون وهم يلوثون النهر، أو يرمون فيه الأوساخ! توليد الكهرباء وتشغيل الطواحين! كذلك ارتبط بردى بتاريخ دخول الكهرباء إلى دمشق، ويذكر ماجد اللحام في كتابه (دمشق في نصف قرن) أن مصدر توليد الكهرباء في شبكة الإنارة التي وضعتها الشركة المساهمة البلجيكية للجر والتنوير بدمشق عام 1905، كان من المولد المائي الذي تعمل فيه خمس عنفات عند مسقط مياه نهر بردى في حوض التكية.
كما قام بردة بدور هام في تأمين طاقة لإدارة طواحين دمشق، حيث يذكر عبد العزيز العظمة في كتابه (مرآة الشام) أن طواحين دمشق تدار بالماء، وتستعين بالبخار عند قلة الماء… ويعدد حسب إحصاءات عام 1920 أسماء وأمكنة أكثر من سبعة عشر طاحونة شهيرة كلها تعمل على نهر بردى وفروعه المنتشرة في دمشق وغوطتها، وأكبرها وأشهرها طاحونة الشافية وكيوان والزيتون والشقرا والمرجة وطاحونة السجن على نهر بانياس، والزاوية والدرويشية وباب توما على العقرباوي وسعيد باشا والشركة والقلعة والحلوانية والجوزة والصلا والإحدى عشرية على نهر بردى، وطاحون الشأن على نهر تورا! النهر الذي شرب منه الدمشقيون، وولدوا منه الكهرباء الذي دخلت مدينتهم لأول مرة، وأداروا على فروعه طواحينهم… أقاموا على ضفافه نزهاتهم أيضا. وحين بدأ بردى يغادر بعض البيوت، وينحسر عن بعض الأحياء، ويشح على ضفاف التكية السليمانية… خف الدمشقيون إلى ملاقاته في غوطة دمشق، وفي مداخل دمشق الغربية حيث يجري في بلدتي دمر والهامة قبل أن يصل الربوة ويتفرع إلى فروعه السبعة، هرعوا إليه على شكل نزهات شكلت الصورة التاريخية لتقاليد السيران الدمشقي على مر عصور طويلة، فالجلوس على ضفاف النهر، أو (كتف النهر) حسب التعبير الدمشقي الدارج… امتياز لا يعدله أي امتياز آخر… وخصوصاً في فصل الصيف، حيث تبدو رؤية الماء وحدها كفيلة بإشاعة إحساس منعش… سرعان ما ينقلب إلى شوق جارف إلى الغوص في الماء لدى بعض الشبان، أو إطلاق القوارب الورقية الصغيرة لدى بعض الأطفال، أو تبريد ثمرة (البطيخ) بماء النهر… حتى لو جرفها النهر بعيداً ولحق بها الشبان، أو أخفقوا في استعادتها فذهبت إلى من يستطيع التقاطها في مكان آخر ومن الصور الأثيرة التي ارتبطت بذاكرة السيران الدمشقي على ضفاف بردى، اصطياد السمك في ربوة دمشق الشهيرة فحتى ثلث قرن مضى، كان بعض الدمشقيين يتحدثون عن اصطياد السمك من النهر في الربوة التي تعج اليوم بالمقاهي والمنتزهات الشعبية… والتي يسير فيها بردى شاحباً هزيلاً، ليضمحل ويغيب أكثر شهور السنة ويعود إلى الحياة كزائر عابر في مطلع كل ربيع، حين تذوب الثلوج على جبال لبنان، وتتفجر الينابيع التي تغذي النهر، وتبث فيه الحيوية من جديد! خمسون عاماً على ضفاف بردى! وفي عام 1954، حين افتتح معرض دمشق الدولي في المدخل الغربي من مدينة دمشق، وعلى مساحة شاسعة من مرجها الأخضر، لم يجد المنظمون لهذه التظاهرة التجارية والثقافية والفنية الأولى من نوعها في الوطن العربي حينذاك… أفضل من ضفاف بردى كي يقيموا عليها المعرض الشهير. بردى النوافير الملونة بالأضواء… صورة أثيرة من صور زهو هذا النهر، حين يشرع المعرض أبوابه سنوياً في كرنفال حافل كانت تبتهج له المدينة… وسرعان ما صنع حضور الرحابنة وفيروز في مهرجانات هذا المعرض الفنية، طقساً خاصاً، حين انطلقت حنجرة فيروز تغني أعذب الأشعار والألحان لبردى: مر بي يا واعداً وعدا مثلما النسمة من بردى تحمل العمر تبدده… أه ما أجمله بددا! وحتى سنوات السبعينيات كانت القوارب الصغيرة، تجوب في مجرى النهر أيام معرض دمشق الدولي… أما في تلك البحيرة الواسعة التي كانت تفتح ذراعيها الواسعتين لتحضن نبع النهر في عمق سهل الزبداني، فقد ظل وجود القوارب جزءاً من الاحتفاء الأثير بالنهر الذي أعطى لدمشق الربيع الدائم، والحياة التي تزهو بالخضرة والنضارة والشباب.
لكن معرض دمشق الدولي أزيل من على ضفاف النهر بعد أن استمر يعانق بردى على مر خمسين عاماً متواصلة… ومرت سنوات على بحيرة النبع، جفت فيها تماماً، وارتطمت الزوارق التي كانت تطفو على ماء البحيرة بقعرها الجاف المتشقق… ثم عادت بين عام وآخر تطفو على علو منخفض… لتحمل بقايا ذكريات الأمس الجميل.. سيرة أدبية بأقلام العمالقة! لقد احتل بردى مكانة أثيرة لدى أبرز شعراء سورية والوطن العربي، فقد سحر هذا النهر أمير الشعراء أحمد شوقي حين التقاه لأول مرة، فاستعار صورة جنة الخلد كي يعبر عن سحر هذا اللقاء: جرى وصفق يلقانا بها بردى كما تلقاك دون الخلد رضوان والغريب أن هذه الصورة انتقلت إلى أمير شعراء العربية الثاني، الشاعر اللبناني بشارة الخوري الشهير بـ (الأخطل الصغير) الذي تساءل: بردى هل الخلد الذي وعودوا به إلاك بين شوادن وشوادي؟ قالوا تحب الشام؟ فقلت جوانحي مقصوصة فيها وقلت فؤادي وقد عبر الشاعر نزار قباني عن المكانة الرمزية الأثيرة لهذا النهر حين خلع عليه صفة الإمارة وكتب في قصيدة شهيرة يقول: بردى يا أبا النهور جميعاً يا حصاناً يسابق الأياما كن بتاريخنا الحزين نبياً يتلقى من ربه الإلهامـا الملايين بايعتك أميرا عربياً فصل فيها إمامــا أما الشاعر محمد الماغوط، الذي أحب دمشق وعاش فيها جل حياته، فقد اتخذ من مقهى (أبو شفيق) في الربوة على ضفة بردى، مكاناً يومياً أثيراً لديه… وقد كان يردد دائماً: (بردى هو الذي يشدني أكثر من أي شيء إلى هذا المقهى القديم، فهو صديقي الذي عرفته منذ قدمت إلى دمشق… وقرأت قربه وكتبت وسمعت الموسيقى، ورأيت الناس وسمعت ضجيجهم… منذ ثلاثين سنة تقريباً، وأنا أجيء كل يوم إلى هذا المقهى. بالنسبة لي الأمكنة والأشخاص لا أنساهم أكثر أعمالي كتبتها في مقهى أبي شفيق القديم، وبردى صديقي العجوز، وهو من أكثر الأشياء التي تشدني إلى هذا المقهى وأنا اعتبر نفسي مثله أنا شاعر ناطق، وهو شاعر صامت منذ قرون).
ذكريات الفيضان وسنوات الشح! كثيرة هي السنوات التي فاض فيها نهر بردى، وحول فيها شوارع دمشق إلى بحيرات عائمة… كما حدث على سبيل المثال لا الحصر في شتاء عام 1969، حين كتب مراسل (الأسبوع العربي) تحقيقا مصوراً بعنوان: (دمشق البحيرة… يوم أخليت البيوت والمحلات وتوقف الدوام) فيضان بردى رغم كل أضراره وإرباكاته، كان يشكل في نظر الدمشقيين خيراً مطلقاً… وتحتفظ عدسات عشاق دمشق بكثير من الصور التي توثق لحظات فيضان النهر… وخروجه عن مساراته في غير فرع من فروعه! صورة تبدو على النقيض تماماً، من حاله اليوم، حيث لا يكاد الماء صيفاً، يغطي قعر الكثير من فروعه وخصوصاً وسط المدينة التي كانت مسرح فيضاناته الغزيرة في سنوات خلت… ومن هنا فربما كان أكثر سؤال يؤلم أي دمشقي اليوم، (أين بردى الذي تتحدثون عنه) ذلك السؤال الذي كثيراً ما يطرحه بعض الزوار العرب، وما من أحد منهم إلا وقد سمع أو قرأ عن شهرة النهر التاريخية، وعن تغزل الشعراء والأدباء به على مر العصور! إلا أن الجرائم البيئية التي تعرضت لها دمشق على مر السنوات الثلاثين الماضية، والتخاذل الحكومي والأهلي الذي لقيه هذا النهر في زمن تراجع فيها إحساس المواطنة، واضمحل هاجس الحفاظ على فرادة دمشق وسحر طبيعتها، لم تبقِ من بردى سوى شهرته التاريخية القديمة.
وربما كانت الوعود التي أطلقها وزير الري بإعادة نهر بردى إلى سابق عهده… أو حملات تنظيف النهر التطوعية التي تنشط حينا لتخفت حيناً آخر، كفيلة ببث شيء من الأمل والبهجة في نفوس الدمشقيين، الذين يتجدد رجاؤهم مطلع كل شتاء بأن يأتي موسم الأمطار أكثر جوداً وكرماً في إمداد هذا النهر بأسباب الحياة والاستمرار، كي يبقى صورة عن دمشق التي زهت بنهرها، ورسمت على ضفافه ربيعها الدائم!
كاتب من سورية
القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى