من واشنطن إلى دمشق: نشدّ على أياديكم!
بسام القاضي
لم يكن بإمكاني أن أضحك، حتى لو أردتُ ذلك، حين نظر “زلمي” بعيني المتعبتين من الضوء الذي كنت قد افتقدته، وقال لي: “ولكن هذه خيانة موضوعية! ألا يخدم ما تفعله “عدونا”؟”.
ولكنني أضحك اليوم ضحكَ عنزة في المسلخ، ولم تخرج منه بعد، ولا نية لديها للخروج، ولا إرادة عند غيرها لإخراجها أو السماح لها بالخروج، وأنا أرى أن “خيانتي الموضوعية” قد صارت فعلاً تاريخيا بامتياز!
إلا أنها أمريكا هذه المرة، هي “الخائنة”! (لمن؟ يا لَهذه “للخيانة” كم يمكن لها أن تأخذ أشكالاً وألوانا لم تحلم بها حرباء على مرّ التاريخ!). فها هي تخون ادعاءاتها الجوفاء بالحرص على “حقوق الإنسان”، ونضالها المزيف من أجل “حرية الإنسان”! وتلتقي، “موضوعيا”، مع أولئك الذين تحدثنا عنهم في المرة الماضية، تلك الأشباح التي ما زالت تعتقد أن بإمكانها إيقاف التاريخ، رغم أن كل ما تستطيع فعله هو أن تؤخره قليلاً قبل أن يذهب بها إلى حيث يجب أن تكون!
“على جميع الشركات الأمريكية التي تقوم بحجز أسماء المواقع على الانترنت، أن تلغي هذه المواقع إذا كانت مسجلة على أنه تم حجزها من سورية”! هذا هو فحوى الإضافة الجديدة على قوانين المقاطعة الأمريكية لسورية. هذه المقاطعة التي يقولون أنها تستهدف إركاع النظام السوري (عليكم أن تضحكوا هنا، فهذا مشهد كوميدي!)، الذي لا يركع طبعاً (وهذا مشهد كوميدي آخر، لكن إياكم والضحك!).
والواقع أن “إركاع” هو مصطلح أطلقته جوقة عميان البصيرة الذين نذروا حياتنا (تاركين حياتهم العظيمة لما هو أرفع شأنا! أي المكاتب الفاخرة والسيارات الفارهة والنساء الجميلات!) لأجل إكمال زينتهم الصباحية بالحديث عن “القضية” مع فنجان القهوة. بينما المسألة لا تتعدى، وفق تصريحات لم تتوقف منذ سبيعنيات القرن الماضي، لمن له ذاكرة، لا تتعدى “تغيير سلوك النظام”!
وكما نعرف وفق آخر معطيات علمي النفس والاجتماعي، ولا بأس بأخذ آخر معطيات علمي السياسة والتكنولوجيا العسكرية، فإن “تغيير السلوك” هو هدف سام لدى البشرية فرادى وزرافات. لأن السلوك المتغير هو، أصلا، ما سمح للحيوانات الرخوية التافهة أن تزيد من تفاهتها بتحولها إلى كائن يمشي على اثنتين، ويدمر كل ما حوله، وخاصة أبناء وبنات جنسه!
أي أن تغير السلوك أمر لا يعيب الذي يتغير، كما لا يعيب الذي يغير (والعيب أيضا مصطلح تاريخي متغير بتغير مقدار تفاهة “الإنسان”!)، اللهم إلا إذا قرر أحدهما (وتاريخياً أيضا: نعرف أن من يغير هو من يقرر) أن تغير الآخر لا يلائم تصوراته (وتعرفون أيضا أن التصورات تبنى على المصالح! والمصالح تبنى على الأشخاص! والأشخاص يبنون، عادة، على بقايا أشخاص آخرين!).
وهذا يعني، ببساطة لا نحسد عليها، أن ما يجري الآن ليس إلا واحدة من اللحظات التاريخية التي باتت كثيرة مؤخراً، والتي تلتقي فيها مصالح سبق أن اعتبرت طويلا مصالح متناقضة!
هكذا إذا:
الحكومة الأمريكية تقرر أن كل سوري يحجز موقعا باسمه، وباسم بلده، سوف يعاقب بحذف موقعه!
والحكومة السورية (أو بساطير –جمع بسطار- في الحكومة السورية) تقرر أن كل نفر يحمل الجنسية السورية، أو لا يحملها ولكنه يعيش في الحظيرة، يفعل موقعا الكترونيا، ولا ينخ ويزخ ويرخ ويبخ، سوف يرى ما يرى قبل أن يضطر إلى “تغيير سلوكه”، وإقفاله مبتسماً، بل والتصريح علنا أنه لم يتعرض لأي ضغط من أي جهة، ولم يعتقل أو يهدد أو يسأل! ولعله، أقول فقط لعله، قد تبرأ حتى من… اسمه! (وهذا سلوك نموذجي آخر يثبت العبقرية الفذة لرجل تافه صادف أن كان اسمه: جورج أورويل، وصادف أنه استكشف ظلاماً دامسا في رؤياه المسماة: 1984!)
وإذا كان ضحايا التحية الخاصة التي ترسلها واشنطن بهذه “المبادرة الحكيمة” ما زالوا غير معروفين، فإن ضحايا البسطار الانترنتيتي باتوا معروفين لأنهم مسجلين في قائمة ما تزال تنمو وتكبر حتى أكلت، في آخر ما أكلت، ثلاثة مواقع: ألف لحرية الكشف في الكتابة والإنسان (يا للسخرية يا سحبان.. لعلك كنت تتحدث عن إنسان القرن السابع والعشرين.. قبل الحضارة!)، وإنفورمر سورية (له له له يا خولة.. ألم أقل لك أن القهوة وسط أطيب من القهوة مرة؟)، وموقع الديمقرطي (أهلين ديمقراطية والله!).. لتزيد القائمة عن 200 موقع رئيسي تم حجبها، تتضمن أكثر من عشرة ملايين موقع فرعي، وعشرات ملايين المقالات والأفكار! وتتربع على رأس هذه القائمة السوداء الحجب الذي سيسجل التاريخ أن سورية هي الدولة الوحيدة في العالم التي قامت به (بعد كوريا الشمالية الديمقراطية الشعبية التاريخية الإنسانية العظمى)، وهو حجب أوسع موسوعة للمعرفة على الانترنت: الويكيبيديا! حتى إن سورية قد حصدت المركز الرابع (بعد كوريا الشمالية والصين وإيران) في قائمة “دول الشر الانترنتيتي” التي تسجل أكثر الصفحات سوادا في التعامل مع الانترنت (وفق تقرير لمراسلين بلا حدود راقب وضع الانترنت في 40 بلدا).
إذا، يا سيد، يا صاحب الابتسامة اللئيمة، هل يمكنك أن تفسر لي هذه التحية المتبادلة بين دمشق (دمشقك السوداء المظلمة، وليس دمشقنا ارض الحرية والحضارة والمعرفة)، وواشنطن (واشنطن السوداء المظلمة، وليست واشنطن أرض الحرية والحضارة والمعرفة) وفق نظريتك المثيرة للشفقة حول “الخيانة الموضوعية”؟!
بسام القاضي: ( كلنا شركاء ) 29/8/2008