صفحات ثقافية

حنا مينة.. تمهّل

null
احمد بزون
لماذا أراد الأديب السوري الكبير حنا مينة أن يوصي بكل هذا الصمت لرحيله، ويمنع كل وسائل الإعلام من إعلان وفاته أو تغطية الحدث؟
الأمر فاجأ الجميع، لكنه لم يؤخذ على شكل طرفة أو نادرة، ولا على شكل فقاعة غريبة ومدهشة كما فعل أدباء وفنانون سورياليون، أو رجالات أرادوا التفرد بموتهم، وممارسة سلطتهم على زمن سوف تنقطع علاقتهم به.
قد يكون في الأمر إرادة قوية، فحواها التحكم بالأعصاب وإقناع الناس أن الموت ليس حدثاً مرعباً، وأنه يمكن أن يمر كأنه لم يحدث أبداً. وقد يتجسد الخوف من الموت خوفاً من خبره، ومن احتفالات التكريم والتأبين، ومما يمكن أن يقال من كذب يسيَّل في المناسبة، أو يختلط مع عبارات القداسة والتبجيل.
يقال إن أحد الأدباء الفرنسيين أوصى بمئة فرنك لمن ينظم أفضل أبيات تنقش على قبره. وقد كسبها شاعر اسمه »مينار« كتب ما يلي: هنا يرقد رجل عظيم/ من أسرة معروفة/ كانت له فضائل كثيرة/ وكان حكيماً/ لكنني لا أزيد على ذلك/ لئلا أكون كاذباً/ بأكثر من مئة فرنك«.
أراد الأديب العربي حنا مينة أن يهرب من كل هذا الكذب، ولو أطاح ذلك كل ما يمكن أن يقال بصدق في أدبه وسيرته وخصاله.
برنار شو كان أكثر حرصاً في وصيته مما أودع أديبنا في وصيته التي أطلقها من حوالى عشرة أيام، عندما كتب بنفسه خبر نعيه، حتى لا يتزلّف له أحد في المناسبة. عدا أنه رفض أن تكون له جنازة، وألا يستغلها أحد لأهداف سياسية.
نعم وصلت سخرية الكاتب الإيرلندي إلى مداعبة الموت، والتعامل معه بالأسلوب الساخر إياه، لكن من يقرأ وصية حنا مينة يشعر في خلفيتها بألم وأسى، فلا يستشف بسمة برنار شو المتهكمة أبداً، ولا حكمة سواه من الفلاسفة الذين أفردوا الكثير من الكلام حول نظرتهم إلى الموت.
إنها السوداوية، أو ربما العزلة، أو التعبير عن مشاعر ثقيلة، أو الانكسار تحت وطأة المرض وتقدم العمر.
يعرف حنا مينة أن مثل هذه الوصية لا ينفذها أحد، اللهمّ إلا ما يتعلق بالميراث، فلا أحد يستطيع مثلاً أن يمنع وسائل الإعلام من إذاعة الخبر، ولا أن تتصدر صوره الصفحات الأولى من الصحف، ولا يستطيع مينة نفسه أن يتخيل أن أصدقاءه أنفسهم سوف يلتزمون الوصية، فلا يتحدثون عنه أو يكتبون أو يتذكرون أو يصرحون.
ليتخيل حنا مينة صور رحيله كما يشاء، أما نحن فنسمح لأنفسنا بالاحتفال بكل يوم يمد الله به عمره، وسوف نحتفل دائماً بأدبه، ونتذكر بسمته التي نسيها، ويحق لنا اعتبار أن الوصية تلك التي أطلقها، بما أثارته من ضجيج ونقاش، ليست إلا برهانا على أن الرجل يستطيع أن يجدد حياته، ويثير العواصف تلك التي كانت تصنعها كل رواية جديدة.
حنا مينة.. لا تخف! لن ننفذ وصيتك!
السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى