حتي علي شاشة الجزيرة: المواطن السوري الخائف في الاستطلاعات التلفزيونية
محمد منصور
خصص برنامج قناة الجزيرة الصباحي (هذا الصباح) حيزا كبيرا من إحدي حلقاته مؤخراً، لشكوي الشارع العربي، بعنوان: (الشكوي لمن) إنطلاقا من تقرير خاص، يروي سيرة رجل مصري بسيط اسمه (محمد عبد ربه عزي) تخصص في كتابة الشكاوي المأجورة للمواطنين منذ عهد الرئيس جمال عبد الناصر، ومازال مواظبا علي كتابتها حتي اليوم رغم ما أسماه (بلادة حس المسؤولين) وعدم تأثرهم بشكاوي المواطنين قياسا لما كان يحدث في عهد عبد الناصر حين كانت الشكاوي (بتخرب الدنيا) علي حد تعبيره.
وقد استضاف البرنامج السيناريست والصحافي المصري بلال فضل، للتعليق علي الموضوع، انطلاقا من الشخصية الدرامية الملفتة لهذا الرجل المثير للتعاطف والذي اعتراه اليأس فصار بحاجة لمن يبثه همه بدل أن ينقل هموم الآخرين… كما أجري البرنامج استطلاعا في الشارع السوري حول شكاوي المواطنين، وتمحور حول الجهة التي يلجأون إليها في حال أرادوا إيصال شكواهم!
وقد لاحظ الزميل بلال فضل، أن المواطنين السوريين الذين تحدثوا في الاستطلاع كانوا علي قدر كبير من التحفظ في إجاباتهم، وبرر ذلك بالفارق النسبي لهامش الحرية بين الشارع المصري والشارع السوري… وهو تبرير صائب ثمة الكثير ممن يوافق عليه… بل هو يقودنا لتأمل صورة المواطن السوري في مرآة استطلاعات الشوارع التلفزيونية، سواء كان ذلك علي شاشة التلفزيون السوري بقنواته المختلفة، أو علي شاشة قناة متحررة بالفعل من القيود مثل (الجزيرة).
وها هنا نعثر علي إحدي أكبر مآسي الإعلام الشمولي كما تنعكس في مرآة الشارع السوري… حيث يمكن لنا أن نرسم في ذلك الشارع، صورة اعتبارية مثالية للمواطن العربي الخائف من المايكروفون والكاميرا، ومن أن يقول لا أيا كان نوع السؤال، أو طبيعة الموضوع، أو توجه المذيع أو المحرر الذي يسأل، أو خلفية وانتماء القناة التي تطلب رأيه!
لقد تربي السوريون خلال العقود الثلاثة الماضية، علي محطة تلفزيون واحدة، هي التلفزيون السوري قبل أن يفتح لهم الفضاء التلفزيوني صندوق العجائب… وخلال تلك العقود الثلاثة الماضية، كانوا يتعاملون مع التلفزيون، شأنهم شأن التعامل مع فرع الأمن… فكثيرا ما استخدمهم التلفزيون السوري ككومبارس في خلفية مشهد هتاف، وكثيرا ما طلب منهم في استطلاعات الشوارع أن يعيدوا من أول السطر… وأن يتحدثوا عن الجوانب المضيئة فقط، وأن يخفوا مشاعرهم الحقيقية تجاه أي شيء… وحتي تجاه مسلسل تلفزيوني لمخرج مدعوم أو مرضي عنه من قبل إدارة التلفزيون وليس بالضرورة من قبل الدولة!
ولأن حكمة الخائفين تقول (الحيطان لها آذان) فإن كاميرا ومايكروفون التلفزيون هي العيون والآذان معاً… ومن اللياقة الأمنية أن نتعامل معها باعتبارها مخبرا وواشياً، وليس وسيلة إعلام لإيصال الوجع… إلا إذا كان هذا الوجع ضد جهات داخلية هي (التجار) أو أعداء خارجيين هم (أمريكا والصهيونية وقوي الرجعية) حسب أدبيات حزب البعث… ومن يتجرأ علي الكلام، دون أن يأخذ بالاعتبار خلفيات الانتماء الأمني والبعثي لكثير من العاملين في التلفزيون السوري، أو التوجه العام لتلفزيون الحكومة والدولة المبرمج… سيتكفل مقص الرقيب في غرفة المونتاج بحذف رأيه، وإيصال الرسالة التي تفيد، بأنه اختار الزمان والمكان الخطأ للحديث النقدي الخطأ!
وهكذا تعمد التلفزيون السوري علي مر سنوات طويلة، تصدير الخوف إلي رجل الشارع المتحدث أمام كاميرته في الاستطلاعات الجماهيرية التي تصور في الشارع في مختلف البرامج السياسية والخدمية وحتي الترفيهية والمنوعة… وقد تعمد بحسن أو سوء نية، بمهنية أو بقلة حرفة، أن يقول للمواطن السوري: ابتسم عشان تطلع الصورة حلوة… وقل ما يريح رأسك ورأسنا!
وأحيانا كان بعض المواطنين السوريين يقولون للمحرر أو المذيع التلفزيوني، عندما يهم بسؤالهم في موضوع إشكالي ما، وقبل أن تدور الكاميرا (أنا أريد أن أقول كذا وكذا وكذا… هل تستطيع أن تذيع كلامي إذا صورت معك؟!) وغالبا ما كان المحرر أو المذيع يبتسم ابتسامة قلة حيلة… متواطئا مع خوفه الدفين، تجاه قيود يعرفها هو، قبل المشاهد المسكين الذي يريد أن (يبق البحصة) كما يقول المثل الشعبي!
طبعا هذه الصورة تغيرت في كواليس التلفزيون السوري اليوم، وبعد عصر الفضائيات صار بالإمكان أن نسمع بين الحين والآخر مواطن سوري يتحدث بجرأة أمام كاميرا التلفزيون في بعض البرامج التي يقال إنها صارت مهتمة بنقل نبض الشارع… لكن الصورة العامة للمواطن السوري في استطلاعات الشوارع بقيت… هي صورة المواطن الخائف، المتحفظ في الحديث، الذي يقول نعم… ويبتعد عن شر (لا) وإن كان يغني لها في سره!
وأعتقد أنه في أي موضوع سياسي حار، يمكن أن يرصد عبر استطلاعات جماهيرية مصورة في الشوارع العربية؛ فإن المواطن السوري اليوم هو الأكثر نمطية وتحفظا في إجاباته إلا إذا تعلق الأمر بأمريكا وإسرائيل.. حيث الضوء الأخضر التقليدي مفتوح للنقد كيفما يشاء وللتعبير عن إرادته الشعبية الحقيقية كيفما اتفق!
ورغم أن 99 بالمئة من السوريين تجرؤوا وقالوا في استفتاء جريدة شبه رسمية هي (الثورة) مؤخراً: أن الفساد يعم مؤسسات الدولة، واعتبروا أن الجهاز القضائي هو الأكثر فسادا يليه البلديات ثم الشرطة… (وهي آراء خطيرة توهن نفسية الأمة إن شئنا الدقة… فماذا بقي بعد فساد القضاء والبلديات والشرطة يا جماعة) فإن نفس الاستطلاع، لو تحول إلي استطلاع تلفزيوني جماهيري مصور، ستظهر فيه سورية بلد لا يتجاوز فيه الفساد حدود الظواهر الشخصية المحدودة لبعض ضعاف النفوس، الذين يقف لهم القضاء السوري النزيه بالمرصاد!!!
إذا مطلوب اليوم تحرير المواطن السوري من خوفه القديم من الاستطلاعات التلفزيونية… مطلوب أن يتعالج من العاهة المستديمة التي سببها له التلفزيون السوري عبر ممارسته للاستطلاع الجماهيري بأسلوب أمني، في عز سطوة منطق الإعلام التعبوي الشمولي الذي لا يمل من ترديد الصوت الواحد وسماعه… وهو منطق ـ حتي وإن تراجع كما أسلفنا- يبدو أن بعض العاملين في التلفزيون السوري لا زالوا يؤمنون بضرورته، وبالحاجة إليه بين الحين والاخر، كي لا يطيروا من مناصبهم لا سمح الله… وكي لا يصنع التغيير الحاجة لسواهم!
كاتب من سورية