ريبورتاج استباقي عن آذار سوريا
عمر قدّور
لم أكن قد ولدت حينها، لكن مَنْ هم أكبر مني سناً يتحدثون عن أن الربيع كان يأتي إلى سوريا في شهر آذار، أسوة ببلدان النصف الشمالي من الكرة الأرضية. كان هذا قبل انقلاب الثامن من آذار عام 1963، حين استطاع حزب البعث تحويل آذار من شهر للاعتدال إلى شهر انقلاب،
وبدلاً من أن يكون السوريون على موعد مع الهواء الطلق اعتادوا كتم الأنفاس وكمّ الأفواه، إذ أعلنت حالة الطوارئ مع الانقلاب، ولم يتم رفعها طوال أربعة عقود ونصف من حكم البعث. وعلى الرغم من المدة الزمنية الطويلة إلا أن مناسبة الثامن من آذار بقيت عزيزة على الحكم السوري، طالما أنه مدين لها بالوجود. ويستطيع الزائر، أو المقيم، أن يرى المظاهر الاحتفالية التي ترافق هذه الذكرى كل عام، وأن يسمع الخطب الرنانة عن فرحة الشعب السوري التي لا يبيعها بثمن!. أما الإنجازات التي تتغنى بها وسائل الإعلام في هذه المناسبة فتشمل تعداد كل شيء، من المدارس إلى الإنارة، وقد تصل حتى تأمين الحليب المجفف للأطفال. وكأن هذه الأشياء لا تتوفر سوى هنا، ولا تحصل عليها الشعوب الأخرى لأنها يوماً ما فوتت على نفسها فرصة مرور آذار في أراضيها من دون حدوث انقلاب. يتغنى الإعلام الرسمي بفرحته المزيفة ليقنعك أنك غارق في النعيم ولا تدري، فيلزمك بعض من حسن الطوية لتصاب بالوجد الوطني وتصيح: أنا لا أستحق هذا، أنتم أكثر وطنية مني، فخذوا ما بقي لي من فتات.
لكن الأمور ليست على هذه الدرجة من الهناءة، ولم تستطع السلطة احتكار هذا الشهر بالمطلق، إذ واظب الأكراد السوريون على تعكير عروبة هذا الشهر الحكومي، وكمثل كل الأكراد دأبوا على الاحتفال بعيد النيروز الذي يصادف في أول أيام الربيع، ولم تنفع محاولات ثنيهم عن إشعال النيران ليلة العيد في تقليد خاص بهذه المناسبة. لهذا اضطرت قوات الأمن السورية عبر سنوات طويلة إلى الاستنفار في هذه المناسبة، واستخدمت القوة في كثير من الأحيان دون أن تجني سوى ازدياد المظاهر الاحتفالية. فإذا كان بالإمكان منع الفتية من إشعال النيران في الشوارع والجبال فليس من السهل منع الأسر من تزيين شرفات بيوتها بالشموع والإضاءة الملونة على غرار ما يحدث في أعياد الميلاد، وليس من السهل منع هذه الأسر من الخروج إلى الطبيعة ونصب حلقات الدبكة وترديد أهازيجهم الخاصة. استبق الأكراد قرارات السلطة فكانوا يمتنعون عن الذهاب إلى مدارسهم ووظائفهم يوم الحادي والعشرين من آذار، على الرغم من التهديد بالعقوبة أو الفصل، وأمام هذه الإحراج لم تجد السلطة مخرجاً سوى إعلان هذا التاريخ كيوم عطلة رسمية، ولكن بمناسبة عيد الأم. منذ ذلك الحين دأبت وسائل الإعلام الرسمية على الحفاوة بعيد الأم، وعلى المبالغة في إبراز أهميته، بما يعطي الانطباع بأن عيد الأم، وربما الأمومة نفسها، إنجاز سوري خالص!.
من الجانب التوأم لحزب البعث أضاف صدام حسين مناسبة أخرى، عندما قامت طائراته بقصف الأكراد في مدينة حلبجة بالأسلحة الكيماوية، في السادس عشر من آذار، وليست هذه مناسبة لاستعراض مآثر الطاغية الراحل، إذ يكفيه أنه الوحيد الذي استخدم أسلحة الدمار الشامل ضد شعبه. تعاطف أكراد سوريا مع أشقائهم في العراق، وأضيفت ذكرى حلبجة الدامية على أجندة الأمن السوري الذي يسعى كل عام إلى منع الأكراد من التجمع والوقوف دقائق صمت حداداً على ضحايا المجزرة، ومرة أخرى لا تحقق سياسة القمع غايتها ، فتزداد أعداد التجمعات، ولا يخلو بعضها من الاشتباك بالأيدي أو الحجارة مع رجال الأمن. وبدلاً من أن تكون مناسبة للحزن على الضحايا هناك تصبح مناسبة للغضب بسبب ما يحدث هنا، ولربما مناسبة لوقوع ضحايا جدد بالإضافة إلى الاعتقالات العشوائية والضرب. وهكذا يفلح العقل الأمني السوري في تحويل ذكرى حلبجة إلى مناسبة محلية، أما نحن فتفوت علينا الحكمة المضمرة في منع الحزن، وفي الانقضاض على الحد الرمزي من التضامن الإنساني.
بعد واحد وأربعين عاماً من حكم البعث دعت منظمة حقوقية سورية إلى الاعتصام أمام مجلس الشعب، بتاريخ الثامن من آذار 2004، للاحتجاج على حالة الطوارئ. وعلى الرغم من أن تلبية الدعوة اقتصرت على حوالى مائتي شخص تلقوا الإهانات والضرب، واعتقل قسم منهم لساعات، فقد أسست هذه الدعوة تقليداً جديداً، إذ تجمع في عام 2005 للسبب ذاته حوالى 500 شخص، تلقوا بدورهم الاتهامات والشتائم والضرب. وبدءاً من العام 2005 لم تقتصر القوى الضاربة على رجال الأمن، وإنما أضيف إليها بعض الطلبة البعثيون، الذين زوّدوا بالهراوات، وانقضوا على المعتصمين بمساندة وحماية من رجال الأمن، أما الشتائم فتمحورت في غالبيتها حول الاتهام بالخيانة الوطنية، وبالعمالة للقوى الخارجية وعلى رأسها الولايات المتحدة. وقد روت إحدى المشاركات كيف أن أحد الطلاب فوجئ بوجودها، هي وابنتها “زميلته في الجامعة”، بين العملاء وأعداء الوطن، بما يشبه فيلماً من بطولة أحمد زكي، فقام بحمايتهما من الضرب. أما الاتهامات فهي قابلة للانزياح بحسب العداوات المستجدة للسلطة. فعلى سبيل المثال أضيف إليها في إحدى السنوات اتهام غريب ومضحك، فبعض عناصر القوة الضاربة اتهموا المعتصمين بالعمالة لوليد جنبلاط ولعبد الحليم خدام، ولربما تحمل هذه السنة اتهاماً بالعمالة لعمرو موسى!.
في الثاني عشر من آذار 2004 أطلقت قوات الأمن السورية الرصاص الحي على الأكراد في مدينة القامشلي، بعدما خرج الأهالي للاحتجاج على استخدام الرصاص ضد أبنائهم أثناء مباراة استضافها ملعب المدينة. لم يكن الاحتجاج وليد اللحظة، بقدر ما كان يعبر عن احتقان استمر لعقود بسبب من السياسات التمييزية المتبعة بحق أكراد الجزيرة السورية خصوصاً، وبحق أكراد سوريا عموماً، واستمرار هذه السياسات تحت ادعاء العروبة. انتشرت شرارة الغضب في كافة مناطق تواجد الاكراد، من القامشلي والحسكة إلى حلب وريفها، حتى وصلت إلى الأحياء الكردية في العاصمة دمشق، وسجل أكراد سوريا ولأول مرة دخولهم في تاريخ الانتفاضات الكردية في المنطقة، ودخل الثاني عشر من آذار سجل المناسبات السورية من خلال ما يشير إليه الأكراد بذكرى الانتفاضة ، حيث يتم إحياء هذه الذكرى بزيارة قبور الشهداء وإقامة المهرجانات والاعتصامات. ومرة أخرى يقاوم هؤلاء الإهانات والهراوات ويتحملونها كأنها قدر سوري، وأكثر من هذا فقد نما شعور جديد بالاعتزاز بالنفس، إذ أثبت الأكراد السوريون لأنفسهم أنهم لا يقلون شأناً عن أشقائهم في العراق وتركيا، وأن باستطاعتهم متى استلزم الأمر أن يدفعوا ثمن تطلعهم إلى العدالة والحرية، وأخيراً أثبتوا قدرتهم على استنفار الآلاف من رجال الأمن كلما قرروا النزول إلى الشارع.
على الرغم من أنها حدث لبناني فريد، لكن آثار التظاهرة الأكبر في تاريخ بيروت لم تقتصر على الساحة اللبنانية، وكما نذكر فإن هذه التظاهرة كانت موجهة ضد النظام الأمني السوري اللبناني، ما يجعل منها مناسبة سورية أيضاً ، مع فارق واضح وهو عدم قدرة النظام الأمني على قمع هؤلاء المتظاهرين، بل إن هذه التظاهرة شكلت رمزاً لهزيمة هذا النظام، ولم يعد ممكناً بعدها الاستقواء على سوريا بلبنان، أو الاستقواء على لبنان بسوريا، بالطريقة المباشرة السابقة. ولعل هذه التظاهرة هي الضربة الأقسى، بما ترمز إليه من فقدان منطقة النفوذ الأغلى، وأثر ذلك على قوة النظام ككل. لقد كانت هزيمة النظام الأمني كاملة في لبنان، ولم تنعكس بشكل مباشر وملحوظ في سوريا، بل انعكست أحياناً بشكل انفعالي تجلى في تشديد القبضة لإفهام السوريين أن شيئاً لم يتغير، ومع هذا لا يمكن إنكار الأثر البعيد المدى لما حصل في الرابع عشر من آذار، ولا يمكن التهرب من المستحقات الإقليمية الناتجة عن عقود الهيمنة. وبغض النظر عن هذه النتائج فإن خروج أكثر من مليون لبناني للتظاهر يعد بحد ذاته حدثاً بارزاً في تاريخ المنطقة. إنه حدث يتعدى لبنانيته ليسجل ريادة إقليمية،ولهذا فهو لا يكتمل إلا بمحيطه. في سياق متصل لا ندري إن كانت المصادفة، أم وحدة المسارين، قد جعلت من طرف لبناني يتكنى بفريق الثامن من آذار، ولم يأخذ العبرة من أشقائه.
أيضاً الحرب الأمريكية على نظام صدام ابتدأت في التاسع عشر من آذار 2003، وقد مثّل سقوط النظام البعثي في العراق فألاً سيئاً وضغطاً مباشراً على الحكم في سوريا، فأصبح محاطاً بآذارين مغايرين له، واحد لبناني والآخر عراقي. ربما هي سخرية القدر التي جعلت آذار سوريا مثقلاً هكذا، فبدلاً من أن نحسّ بأننا على موعد مع الربيع نشعر، مع قدوم آذار، بأننا على موعد استثنائي مع السياسة، ومع الأداء الأمني المرافق لها. يمكننا أن نستبق الأحداث قياساً على السنوات المنصرمة، فهناك الآلاف من عناصر الأجهزة الأمنية يستنفرون في هذا الشهر، ولا نستطيع التكهن بدقة بما سيفعلون. هناك حفلات الضرب التي تتعرض لها التجمعات المعارضة، وهناك الاعتقالات العشوائية في مثل هذه المناسبات، وكلما اشتدت الضغوط الخارجية على الحكم فهذا ينذر بتشديد القبضة في الداخل. هي قصة أربعة عقود ونصف دفع فيها السوريون ثمن مجافاتهم الطبيعة، حين حدث الانقلاب في شهر الاعتدال.
خاص – صفحات سورية –