علي هدي مجنون ليلي
أمجد ناصر
قابلت، ذات يوم، شاعرا مكسيكيا في السبعينات من عمره يدعي هوغو غوتيرس فيغا أدهشني تعلقه بالشعر العربي القديم رغم انه لا يعرف من العربية، تلك اللغة العريقة علي حد وصفه، إلا كلمات المجاملة المعتادة، اما معرفته بالمتنبي فعن طريق الترجمات الاكاديمية.
كان آخر ما يخطر علي بالي أن التقي في مهرجان شعري تقيمه مدينة كندية ناطقة بالفرنسية شاعرا مكسيكيا مغرما بالشعر العربي القديم، وبالمتنبي، تحديدا، الذي قال إنه شاعره المفضل. الرجل رصين. ليست رصانته في عمره المديد فقط، وإنما في هندامه الكلاسيكي، في لحيته المشذبة كفارس من عصور النبلاء، وفي نطقه الواثق المتمهل. حسبت، بادئ الأمر، أن الرجل يجامل عربيا غريب الوجه واللسان بين جمهرة من الناطقين بثلاث لغات أوروبية علي الأقل، لكن حديثنا الذي تجاوز الكلام العادي عن الشعر العربي القديم، ونطقه اسم المتنبي صحيحا بلا لحن، بدد شكوكي تماما وجعلني، أشعر، للحظة، اني اتحدر من ارومة لا تدعو الي الخجل والتواري كما هم عليه عرب اليوم.
دار أول حديث بيننا عن الشعر العربي، وشعر المتنبي خصوصا، علي مائدة افطار صباحية كان يتحلق حولها عدد من الشعراء المشاركين في المهرجان الذين كانوا مندهشين، مثلي، من تعلق شاعر ينتمي الي واحدة من الشعريات الأوروبية المهمة بشعر يبدو، الآن، بعيداً جداً عن اللحظة العالمية للشعر وعن صدارة مشهده المكرسة، تماما، للشعر الاوروبي والشعريات المنتمية الي تقاليده مثل شعرية أمريكا اللاتينية.
ومصدر دهشتي الشخصية، لا دهشة الشعراء الأجانب، حيال اهتمام هذا الشاعر المكسيكي (الأبيض) بالشعر العربي نابع من قناعتنا، نحن الذين ننتمي الي الشعر العربي الجديد، بعدم قدرة شعرنا القديم علي طرح اسئلة راهنة او تغذية شعريتنا الجديدة بأي نسغ كان، ناهيك، بالطبع، عن قدرة هذا الشعر المتحفي علي التأثير في شعراء اوروبيين! لكن دهشتي تضاعفت عندما أخبرني فيغا ان اثر الشعر العربي القديم، الاندلسي خصوصا، في الشعرية الاسبانية كبير الي حد انه اسهم في بلورة صوت واحد من أكبر شعراء الاسبانية في القرن العشرين هو الغرناطي فيديريكو غارسيا لوركا.
كان اسم المتنبي مجهولا من قبل الشعراء الذين يجلسون معنا إلي نفس الطاولة ويتابعون حديثنا، فأثار الاسم، وصاحبه، فضولهم خصوصا وان زميلهم المكسيكي يعتبره شاعره المفضل.
قلت للاستاذ فيغا، علي سبيل المجاملة، مصدقا علي كلامه عن المتنبي: بالتأكيد ان المتنبي أحد أكبر شعراء العرب ان لم يكن اكبرهم طراً.
فقال الرجل الرصين بنبرة حاسمة: كلا.. المتنبي واحد من أكبر شعراء العالم! ففي عصره لم يكن هناك، في أي مكان آخر في العالم، شاعر من وزنه. فشعره، والكلام ما يزال للشاعر المكسيكي، يجمع، بإحكام، بين العاطفة القوية والحكمة، التصوير الدقيق للطبيعة، والهشاشة الانسانية. فهمت قوله عن الحكمة والتصوير الدقيق للطبيعة في شعر المتنبي، فهذا كلام مدرسي قرأناه علي مقاعد الدرس، لكني ابديت له استغرابي من وصفه شعر المتنبي بـ الهشاشة الانسانية ، فقلت له: ولكن المتنبي بأناه المتضخمة يوصف، عادة، بعكس ما قلت؟
أجابني هوغو غوتيرس فيغا قائلا: ذلك، بالضبط، مصدر هشاشته، فتلك القوة، والأنا المتضخمة تعبير عن هشاشة داخلية، هي، في الوقت نفسه، هشاشة انسانية بامتياز!
كانت حماسة الشاعر المكسيكي (الذي علمت انه عمل سفيرا لبلاده في بيروت أواخر ثمانينيات القرن الماضي) للمتنبي غامرة إلي حد انه كتب، تحت غمر هذا الافتتان، كتاباً شعرياً كاملاً سماه قصائد الي ديوان المتنبي ، تُرجم الي العربية، كما اخبرني، وصدر عن أحد المعاهد المهتمة بالشأن العربي في مدريد.
ليس فيغا، عاشق المتنبي، وحيداً في اهتمامه بالشعر العربي، او بالثقافة العربية عموماً، بين الناطقين بالإسبانية، بل أظن أن هناك عدداً (متزايدا) من الشعراء والكتاب الإسبان، أو المنتمين الي اللغة والتقاليد الثقافية الإسبانية، ممن يهوون هواه ويميلون ميله.
وهذا أمر نادر في الثقافات الأوروبية الأخري التي لم تحدث بينها وبين الثقافة العربية تقاطعات، او تنعقد أواصر مشتركة مثل الثقافة الفرنسية أو الانكليزية، أو الالمانية إلخ.. فللعرب، والعربية، حكاية أخري مع الإسبان واللغة الإسبانية.
حكاية حرب وحب، صراع وتعايش، اخذ وعطاء، تأثر وتأثير، أنساب ودماء اختلطت وطمس الدليل اليها، لكنها ظلت موجودة تذر بقرنها وتفعل فعلها رغم الطمس والإقصاء المتعمدين من قبل النخبة الاسبانية الحاكمة علي مرّ العصور اللاحقة لحروب الاستعادة . حكايتنا مع الاسبان تخفي جرحاً مشتركاً ثاوياً في اللاوعي الجمعي لدي الجانبين وفي تلافيف الثقافتين.. آن الأوان لكي يخرج الي الشمس ليبرأ ويندمل.
انها حكاية قال عنها المستعرب الاسباني بدورو منوتالبث في احد اللقاءات العربية ـ الاسبانية التي شهدتها في غرناطة، انه يعاد الاعتبار اليها اسبانياً بوصفها حكاية اسبانية، بعد أن كان ينظر اليها كحكاية غرباء وجدوا بينهم في لحظة ضعف .. لا تمت لإسبانيا بصلة.. اللهم الا صلة العداء.
غيري من العارفين بالثقافة الاسبانية أقدر مني علي الحديث، بدقة وإفاضة، عن هذا الجرح السريّ، او إعادة تأمل اللحظة الأندلسية بوصفها لحظة اسبانية، لكن هذا لا يمنعني من ذكر من صاروا مشهورين عندنا في هذا المجال.. ومن هم اقل شهرة.
فكلنا يعرف الدور الذي لعبه الكاتب الاسباني خوان غويتسولو في إعادة طرح السؤال العربي علي الثقافة الاسبانية، كذلك اهتمام كاتب من اكثر كتاب اسبانيا مبيعاً هو انطونيو غالا بالإرث الأندلسي وتوظيفه في أعمال روائية له لاقت رواجاً كبيراً، بصرف النظر عن قيمتها الفنية، نذكر منها المخطوط القرمزي المكرس لأبي عبد الله الصغير آخر ملوك العرب في اسبانيا.
ولكن هناك آخرين ليسوا بشهرة هذين الاسمين عندنا يهتمون بالثقافة العربية التي تدخل في صلب تكوينهم الثقافي والوجداني، من هؤلاء الشاعرة الإسبانية كلارا خانيس التي ترجم لها الشاعر والمترجم المصري طلعت شاهين كتاباً شعرياً بعنوان ديوان حجر النار وصدر قبل سنين عن المجمع الثقافي في أبو ظبي، وهو قائم، بأكمله، علي قصة مجنون ليلي.
وكما هو حال فيغا مع المتنبي نلحظ في ديوان كلارا خانيس افتتانا بالشعر العذري من خلال قصة مجنون ليلي، لا كما هي مسطرة في المراجع والكتب العربية وإنما كما انعكست علي وجدان الشاعرة، وكما تداخلت في صورتها، فانتجت الشاعرة الاسبانية ديواناً يتضافر مع ديوان المجنون مرة وينفصل عنه مرة أخري، تتصادي فيه تباريح قلبه حينا، وأشواقه الممضة الي محبوبته حيناً آخر، بحيث يمكن لنا أن نسمع خفق قلب ليـــلي في نجواه ونشم رائحتها المدوخة في صراخات جنونه.
لكن قبل ذلك بسنين طويلة. قبل أن يحاول بعض الاسبان تضميد الجرح المفتوح أو نفض الغبار عن ارث مضيء مشترك، كان هناك لويس أراغون، وكان عملاه مجنون إلسا و عينا إلسا اللذان يمتحان مادتهما من الشعر العربي، الحكايات، الاساطير، والمواقع العربية والاندلسية. ليس صعبا أن نري التراسل بين مجنون ليلي ، الحكاية العربية والشعر المحيط بها، وبين مجنون إلسا . إنه تقمص لشخوص الحكاية العربية وشعرها ومضاربها التي عصفت بها الرياح.. ولكن علي مسرح جغرافي مختلف هو غرناطة الآيلة للسقوط. وبهذا المعني يكون أراغون، المفتون بالإرث الاندلسي، هو أول شاعر أوروبي حديث يوظف شعرا وحكايات من التراث العربي علي هذا النحو المباشر والصريح، بعد أن تم امتصاص الإرث الاندلسي العربي، علي نحو غير مباشر، وربما مخاتل، من قبل بعض شعراء العشرينيات في اسبانيا.. وفي طليعتهم لوركا.
القدس العربي
28/02/2008