دمشق عاصمة للثقافة العربية!! الثقافة في ظل الديكتاتورية
هيئة تحرير نشرة الآن
على الدوام تمثلت الدولة في مخيلة البشر بفكرة السلطة والإجبار، بغض النظر عن طبيعة نظام الحكم في الدولة، دكتاتورياً كان أم ديمقراطياً، وعلى الدوام تمثلت الثقافة في مخيلتهم بفكرة المعرفة والاختيار، وما دام الأمر على هذا النحو، فلنا أن نتخيل فكرة الناس عن ثقافة تنتجها أو تقدمها أو تحتفي بها سلطةُ قمعٍ واستبداد، تعيش وهم انجازات بناء الدولة، في حين أنها لم تغامر حتى بدخول الدورة التأسيسية من دورات التطور الديمقراطي، وظلت على الرغم من سنوات حكمها التي شارفت على الخمسين مجرد (دولة تسلطية)!!
هذه المقدمة أردناها مدخلاً سريعاً قبل أن نمر بشيء من الاختصار على حالة الموت التي تعتري المشهد الثقافي في سوريا، في الوقت الذي يُحتفل فيه بدمشق عاصمة للثقافة العربية، فما هو المعنى والفائدة من ثقافة لا تنطوي على الرفض والتحريض والتمرد على ظواهر التخلف والسلبية والفساد وإهانة وقمع حق الإنسان في الحرية والتعبير عنها؟؟
الإجابة عن هذا السؤال تتمثل بدون أدنى شك في عدم أهمية الفعل الثقافي الراهن بالنسبة للمواطن السوري، وللأسف فإن أفضل وصف يمكن إطلاقه على المشهد الثقافي هو وصف (الميت) وكلنا يعرف أن إكرام الميت دفنه، ولعل النظام في سوريا يقوم من حيث لا يريد بعملية الدفن هذه، ولكن عبر مراسم احتفالية رسمية، لا تترك لنا إلا مشاهدتها بحزن عميق!!
وبتعريف يتخذ طابع الشمولية تُعرّف الثقافة بأنها: ظاهرة تاريخية يتحدد تطورها في مجتمع ما بتتطور النظم الاقتصادية، الاجتماعية، والسياسية، وهذه الظاهرة تتجسد في القيم المادية والروحية ووسائل إنتاجها واستخدامها وتداولها التي يخلقها المجتمع عبر التاريخ.
وإذا كانت الثقافة والفنون حرية، والعمل الثقافي الفني برهاناً إبداعياً على حريتنا، فإن التأخر الثقافي العربي عموماً، والسوري خصوصاً له ما يبرره موضوعياً، في ظل انعدام الحرية في مجتمعاتنا، على خلفية تعدد السلطات القمعية في كافة الميادين، السياسية والاجتماعية والروحية والتربوية، هذه السلطات القامعة تدافع ما استطاعت عن (المقدس) السياسي منه والديني والاجتماعي، مهما كان هذا المقدس مهترئاً وماضوياً ورجعياً ومفرطاً بكرامة الإنسان وقيمة عقله، ولا تنفك تبتكر سلسلة لا تنتهي من مقررات الحتميات والممنوعات على العقل العربي، وترتاب في أدنى حراك فني إبداعي، لعلم هذه السلطات الأكيد أن للمبدعين قيماً خالصة لا رادّ لها عن وعي الناس إلا قمع حرية الإبداع والمبدعين أنفسهم، وممانعة كل ما يمكن ممانعته من تعبيراتهم ووسائل تعبيراتهم عن حريتهم، وتطلعهم إلى تعيينها وتحقيقها، وهذا بالضبط ما يقود إلى سيادة (الثقافة الاستبدادية الإقصائية) وهو منظومة يشكلها أفراد على هيئة شلل تقصي وتخون وتستعدي الآخر المختلف، وتشوه نتاجه وأفكاره، وهنا يحل الإقصاء والخلاف بديلاً عن المشاركة والاختلاف، وتغيب بالتالي الأرضية اللازمة لتنوع الفعل الثقافي، هذا التنوع الذي بدونه لا يمكن مناقشة قضية ـ أية قضية ـ بجدية وعمق.
هذا من ناحية، ومن ناحية ثانية فإن ثقافة السلطة الإقصائية لم تعمل خلال العقود الماضية على قمع ومصادرة الأفكار المخالفة فحسب، بل تجاوزت ذلك إلى مصادرة وقمع وتهميش المظاهر الثقافية الخاصة بمجتمعات لها خصوصية ثقافية أو عرقية من نوع ما، وهذا الفعل القمعي يعتبر من أخطر أشكال القمع الثقافي، نظراً لكون هذه المظاهر الثقافية الخاصة حصيلة وعي مجتمعي محل تقدير واحترام، بل وتقديس من قبل المجتمعات المنتجة لها، وقمعها أو محاصرتها يدفع مجتمعاتها للذهاب بعيداً في منطق رد الفعل، حيث يظهر التخلي عن الثقافة الوطنية الموحدة والمشتركة، وتبني سلوكات هدامة وخطرة على البنية الاجتماعية الوطنية، والتمترس وراء قناعات متعصبة، قومية أو طائفية…، وقمع التعبير عن الثقافة الكردية في سوريا وغيرها من ثقافات الأقليات وما نتج عنه صورة واضحة لفعل القمع الثقافي الإقصائي الذي أشرنا إليه.
وبالحديث عن واقع الثقافة في سوريا فإننا لا نستطيع البتة القفز على حقيقة أن المنتج الثقافي بات آخر ما يسعى المواطن السوري للوصول إليه، وما ذلك إلا نتيجة واقعية لحاجته الدائمة والملحة لمنتجات أخرى ذات طابع مادي يرتبط وجودها بوجوده الحياتي ذاته، ومن هنا تبدأ رحلة تجفيف المنبع، حيث يغدو الحصول على الحد الأدنى من متطلبات المعيشة عملية تستهلك المواطن السوري بجسده وروحه، ويصبح الفن والإبداع ترفاً يمارسه إما المترفون، أو قلةٌ قليلة من المخلصين للثقافة، ممن يرتبطون بالفن والإبداع ارتباط وجود، ويدفعون ثمن ذلك العشق أثماناً تبدأ بالمادي وقد تنتهي بحياتهم!!
وفي ظل واقعٍ طارد لكل ما هو إبداعي، وجهه السياسي يفتقر كلياً للحرية، ويُمارس القمع فيه بلا هوادة على كل صاحب رأي حر، ووجهه الاقتصادي يطحن وما من طحين، أما الاجتماعي فقد هشمته السلطة المستبدة حتى ارتد إلى مكوناته اللاوطنية، تعيش الثقافة في سوريا حالة مرعبة من التدني والانحدار، وتبدو سمات التراجع والتقليدية والانحطاط على الثقافة منطقية ومبررة، فالمنتج الثقافي عموماً غير مؤثر ولا محرض ولا فاعل ولا ممتع، لا يقرأ من الظواهر إلا قشورها، وحين يعالج القضايا يختزلها، وحين ينوي الإشارة إلى الأسباب يلتف عليها، وهو على الدوام يعاني بدل أن يعاين، يعاني حالات قبح وفساد وقمع ممنهج بأشكال متعددة، وكمنعكس شرطي لواقعه فإنه يمارس إفساداً وتضليلاً، بدل أن يكشف ويكاشف، ويصرح ويمتع، مما جعله منتجاً غير موثوق به لدى المواطن السوري، مادام لا يقدم له أي دليل جاد على وجوده وأهميته، بحكم ابتعاده أو إبعاده عن التعبير عن حاجاته وحقيقة مرارة واقعه، ودأبه في تبني أو محاباة أو تجاهل خطاب السلطة غير الديمقراطي الذي يكرس سلطة الحاكم الفرد ويروج لها بأشكال مختلفة، لا يظهر منها إلا التفريط بالعقلانية والتعددية.
واستناداً إلى تعريف الثقافة الذي أوردناه أولاً، وإلى واقع الحال الثقافي السوري ثانياً، تغدو الصورة واضحة عن التطور/ التقهقر الاقتصادي والاجتماعي والسياسي في سوريا!! وهو واقع حال يترك أكثر من إشارة استفهام حول الدور الذي لعبه مثقفونا والمسؤولية التي يتحملوها إزاء واقع مخيب ومخجل؟؟
فعلى الرغم من كون الحرية الفكرية ـ المغتصبة للأسف كما غيرها من الحريات ـ عاملاً هاماً بل حاسماً في نمو وتطور وجودة وجدية المنتج الثقافي، فإن صمت وتخاذل الكثير الكثير من المثقفين السوريين لا نجد ما يبرره وهم يشاهدون بأم أعينهم التردي الخطير والانحراف الأخطر الذي تتعرض له مسيرة الفعل الثقافي، في ظل هيمنة المنتج الثقافي فاقد القيمة والاتجاه والهدف، وليس لنا إلا أن نذكّر هؤلاء أن أصواتهم التي تخدم الاستبداد وتدافع عن ممارساته ـ بالصمت عنها على الأقل ـ ليست إلا شريكاً، بل فاعلاً في جريمة تضليل المجتمع وقمعه ووأد حريته وحقه بالمعرفة والوعي، وأن التاريخ لا يرحم إلا من رحم شعبه قبل نفسه!! وما يثير الاستغراب والسخط حقاً أن يستمر المنتج الثقافي في سوريا أسير سلطة ثلاثة أنواع من المثقفين:
1ـ مثقف سلطة يتبنى خطابها الدوغمائي القمعي ويدافع عنه بشراسة تماثل وربما تفوق شراستها، وخطاب هذا المثقف إلغائي مُتهِم، إخفائي للانحرافات، ومتقلب تقلب خطاب السلطة ذاتها.
2ـ مثقف متخاذل مهادن، لا يعرف أحدٌ لمنتجه الثقافي خطاً ولا رؤية فكرية إبداعية جادة، يرى في ابتعاده عن نقد السلطة وتكريس جهده في حقل الإبداع الثقافي مبرراً مُرضياً لضعفه وخضوعه لآليات وأطر الإنتاج الثقافي السلطوي، بما تنطوي عليه من خطوط حمراء، تتبدل بتبدل الرقيب وتقلب مزاجه، وبالتالي فهي خطوط مرئية ولا مرئية بآن معاً، لا تُعرف ولا يُستدل عليها إلا بأحد أمرين: الخوف أو التنجيم!!
3ـ مثقف يقع فريسة خوفه من ضعف إرادة المواجهة عنده، فيؤثر الصمت على حقائق تكاد من فرط وضوحها أن تنطق، وينسحب ساخطاً من واقعه ووعيه، مدعياً خسارة معركة لم يجرب خوضها أصلاً، ويعيش عزلة عن واقعه الاجتماعي، ويقع في مأزق المبالغة في تقدير الذات ونضالها الذي يتوهمه.
ومما لا شك فيه أن هذه الأنواع الثلاثة من المثقفين الموجودين بكثرة في المشهد الثقافي السوري هي دعائم فعلية يعتمد عليها البنيان الثقافي الرسمي للسلطة، وتساهم من حيث تدري ولا تدري بإطالة عمر النظام، فهي تقدم له خدمة تضليل المجتمع والإمعان في إبعاده عن مصادر المعرفة، وسوقه إلى مناقشة قضايا هامشية، وتبني مقولات تجرد ما لا تعنيه حقاً، واتخاذ مواقف من مقدمات خاطئة، وبالتالي تكريس وعي زائف وأجوف لدى المواطن السوري، مما يحمل المتلقي على الاعتقاد أنه: ليس بالإمكان أفضل مما كان، وهذا ما يقوده إلى الشعور بالعجز أمام منتج الآخر الثقافي، والشعور بدونية غير واقعية، وواقع حال المثقفين هؤلاء يذكرنا بمقولة أبو حيان التوحيدي: “ما تطاول أحدٌ على من دونه إلا بمقدار ما تصاغر أمام من فوقه“.
وهنا لا يفوتنا الإشارة إلى المثقف الجاد الذي تجبره ظروف المطاردة والقمع والتنكيل على ابتلاع مرارة الغربة عن الوطن، أو الغربة والإبعاد فيه، ثمناً ليحفظ شيئاً من حريته، وكرامة وعيه، فأما من رفع الصوت عالياً في وجه الدولة المتسلطة، ولو من الخارج، فهو الأمين على أمانة العقل التي يحملها، أما من غرق في نسيان شعبه وعذاباته، فإن من واجبنا وحقنا عليه أن نذكره بأن الأوطان تسمو بعقول وإبداعات أبنائها ودفاع مثقفيها عن قيمهم وقيمها، لعلها تنفع الذكرى!!!
“إذا كان المغيظون لا يتركوننا ننمو طبيعياً، لأنهم أوغاد يسرقون طفولتنا، شبابنا وكل حياتنا، فعزاؤنا هو أن نقهر بإبداعنا الزمن الرديء المتردي الذي يخلقونه لنا في كل طور وعصر“.
هكذا أراد الروائي المبدع الراحل (محمد شكري) أن يعبر عن إرادة رفض سطوة السلطة على الإبداع، وإرادة الرفض هذه مطلوبة حيث يوجد القمع، فهل يستسلم مثقفونا ومبدعونا لهذا الواقع؟؟ أم أن لهم كلمتهم التي ستأتي دون تأخير؟؟ المبدعون لا ينتظرون، لأن المبدعين يفعلون حين يكون الفعل ضرورياً ولازماً.
الآن، وأكثر من أي وقت مضى، كم يحتاج الوطن لمثقفٍ يؤمن بهذه المقولة: “إن نطقتَّ مُتّ، وإن سكتَّ متّ… فقُلها ومُتّ“!!
حزب العمل الشيوعي في سورية
خاص – صفحات سورية –