إعلان دمشق.. وأزمة الدولة السوري
د. إلهام مانع – برن
تمثلت التهمة الرسمية التي واجهها 12 قيادي وقيادية من زعماء إعلان دمشق للتغيير الوطني الديمقراطي أمام محكمة الجنايات الأولى في القصر العدلي بدمشق يوم 30 يوليو الماضي، في “النيل من هيبة الدولة وإيقاظ النعرات العنصرية والمذهبية، وإنشاء جمعية بقصد تغيير كِـيان الدولة وترويج الأنباء الكاذبة”..
أما واقع الأمر، فيشير إلى أن السبب الكامن وراء بطش السلطات السورية بمنظمة مدنية وسِـلمية وعلنية، يمكن تلخيصه في كلمتين: أزمة دولة! حيث يفيد الإستقراء التاريخي والسياسي أنه من المنطقي أن تتحرك الكيانات التي تتغذّى عادة من تعميق الانقسامات المُـجتمعية، طائفية كانت أو دينية، لإنهاء وجود “إعلان دمشق للديمقراطية والعمل الوطني”.
والكيان المقصود هنا، ليس إعلان دمشق، بل كيان الدولة السورية ذاتها. وإذا كانت الدولة السورية تمُـر بأزمة فعلية، فإن طبيعة هذه الأزمة ليست فريدة في العالم العربي، إذ تكاد تُـصبح واقعَ العديدِ من الدُول العربية، مع اختلاف الدّرجات بالطبع.
فالعبارة السابقة تحمِـل في طيّـاتها معناها، لكن تفصيلها يظل ضرورياً. دعونا نختار نُـقطة بداية للنقاش، ولِـتكن ما اصَطلح على تسميته المُـراقبون والفاعلون في المجتمع المدني السوري بـ “ربيع دمشق”.
ربيع دمشق: براعِـم المجتمع المدني السوري
ربيع دمشق تعبِـير يُـستخدم لوصف فترة لا تتعدّى فعلياً عاماً واحدا،ً سمحت فيه السلطات السورية لأول مرّة منذ عقود طويلة، بهامش من الحرية للناشطين والفاعلين بالعمل دون قيود على حركتهم أو مقدرتهم في التعبير.
نسائم الربيع هبّـت بعد وصول الرئيس بشار الأسد إلى السلطة عام 2000 خلفاً لوالده، وتحديداً بعد خطاب القَـسَـم الذي ألقاه بتاريخ 17 يوليو 2000 وحضّ فيه على احترام الرأي الآخر، مما وفّـر مناخاً مكّـن من ظهور براعِـم للمجتمع المدني السوري.
تلك البراعم كانت تنتظِـر الظهور، لأنها في الواقع كانت تختمِـر بهدوء، حتى قبل تولِّـي الرئيس بشار الأسد السلطة.
يشير الدكتور رضوان زيادة في بحثه “المثقف ضدّ السلطة: حوارات المجتمع المدني في سوريا”، إلى اجتماعات دورية قام بها عددٌ من المثقفين قبل وفاة الرئيس الراحل حافظ الأسد، في مايو 2000 بمنزل المخرج نبيل المالح وبحضور عدد من المثقفين ذوي الاتجاه اليساري، من أمثال ميشيل كيلو ومحمد قارصلي وعارف دليلة، ومشاركة النائب والصناعي -الليبرالي التوجّـه – رياض سيف في الجلسات الأخيرة. تمثّـل محور النقاش، في ضرورة استعادة المجتمع لدوره بعد استبعاده من قِـبل السلطة على مدى سنوات طويلة.
أما محصِّـلتها، فكانت “جمعية أصدقاء المجتمع المدني”، التي اعتبر بيانها التأسيسي الثاني، أن “المجتمع المدني كما نراه، هو مجموع التنظيمات المجتمعية غير الحكومية من جمعيات ونقابات وهيئات وأحزاب ومنظمات ووسائل إعلام، حرّة متعددة ومتنوعة، ونواد ومؤسسات، جوهره الخيار الديمقراطي، ولا يمكن للديمقراطية أن تتجسّـد إلا عبر نهوض المجتمع المدني بأنظمته ومؤسساته وخلق حال حوار نقدي بين المجتمع والدولة من أجل مصلحة الوطن”.
مهّـد ذلك البيان إلى ما سينبثق فعلا ضِـمن إطار المجتمع المدني من منظمات وجمعيات، تسارعت وتيرة إنشائها، كـ “الفطر” كما أشار أحد الصحفيين السوريين، وتنوّعت أطرها وغاياتها، لكنها التقت جميعها على خاصيتين: الأولى، أن معظم الكوادر العاملة في منظمات المجتمع المدني الجديدة، كان من النّـخب “المسيسة”، أي تلك التي انخرطت في العمل السياسي منذ السبعينات والثمانينات، إن لم يكن من الستينات، والتي تعرّض كثير منها إلى سنوات من الاعتقال بسبب ذلك. تلك الخلفية السياسية المعارضة، أثارت قلق السلطات الأمنية السورية، التي ظلّـت حذِرة ومتخوّفة، تخشى في الواقع من أن تتحول نسائم الربيع إلى رياح عاتية تقتلعها من جذورها.
والخاصية الثانية، والتي تقِـف على طرف نقيض من تخوف السلطات الأمنية السورية، أن العاملين والعاملات في تلك المنظمات انخرطوا في العمل المدني وهم على اقتناع بأهمية الحوار مع السلطة، والعمل معها من أجل الخروج من حالة الجمود السياسية والمجتمعية القائمة. لم تكن المُـجابهة والرغبة في إزالة النظام القائم، هي الدافع إلى دخولهم معترك العمل المدني، أرادوا التغيير، سلميا وتدريجياً، لكن طالبوا به بصوت عالٍ وجادّ.
وشجّـع هذا التوجه “الإشارات” الإيجابية، التي تلقاها المثقفون من الرئيس بشار الأسد في العام الأول من رئاسته. على سبيل المثال، بيان المثقفين السوريين الأول، المعروف باسم بيان الـ 99 مثقفا، الذي صدر في 27 سبتمبر 2000، ووقع عليه العديد من الشخصيات المعروفة والمؤثرة، كأنطون مقدسي وبرهان غليون وصادق جلال العظم، والذي دعا إلى “إلغاء حالة الطوارئ والأحكام العُـرفية المطبّـقة في سوريا من عام 1963، وإصدار عفو عام عن كافة المعتقلين السياسيين والسماح بعودة المنفِـيين وإرساء دولة القانون وإطلاق الحريات العامة والاعتراف بالتعدّدية السياسية والفِـكرية وحرية الاجتماع والصحافة والتعبير عن الرأي”، هذا البيان لم يواجه موقِّـعوه أية ضغوط أمنية، كما كان من المتوقع، بل استجاب الرئيس بشار الأسد بالإفراج عن نحو 600 معتقل سياسي في أكتوبر 2000 وأعلنت الخبر الصّحف السورية الرسمية نفسها.
الدكتور عارف دليلة في صورة التقطت له ببيته في دمشق إثر الإفراج عنه يوم 7 أغسطس 2008 بعد 7 أعوام من الإعتقال المضيق في زنزانة انفرادية
الدكتور عارف دليلة في صورة التقطت له ببيته في دمشق إثر الإفراج عنه يوم 7 أغسطس 2008 بعد 7 أعوام من الإعتقال المضيق في زنزانة انفرادية
انقلب الربيع شتاءً.. ولكن!
حسب تقديرات المراقبين، لم يستمر ربيع دمشق سوى عام واحد، بعدها هبّـت رياح الشتاء قارصة، لتقلب مسار التحولات المدنية في سوريا. بدأت في ديسمبر 2001، عندما أُعلِـن عن شروط لتقييد نشاط المنتديات، التي أصبحت مُحاضراتها تتناول مواضيع تجاوزت، ما اعتبرته السلطات الأمنية “خطاً احمراً”، فأصبح من اللاّزم على منظمي المنتديات، تقديم اسم المحاضر ونصّ المحاضرة وأسماء الحضور قبل 15 يوماً من موعد عقد المحاضرة، والانتظار حتى الحصول على الموافقة “الأمنية”.
تلا ذلك، تعميمٌ من القيادة القـطرية لحزب البعث تتّهم فيه المثقفين السوريين بأنهم “عملاء” و”مرتبطون” بالخارج، وقام عدد من أعضاء القيادة القطرية بجولة على المحافظات السورية للتّحذير من هذه الأطروحات، التي تدعو إلى “المجتمع المدني”، ثم توالت إجراءات اعتقال النشطين في العمل المدني، أعقبتها حملات أئمة المساجد، الموجّهة ضدّ عدد من العاملات في مجال العمل النسوي، تتّهمهن بالخيانة والكُـفر، وهي الحملات التي أشار الكثير من المراقبين إلى أنها ما كانت لِـتتم لولا الضوء الأخضر من السلطات الأمنية.
قلبت السلطات السورية وجهها إذن لبراعم المجتمع المدني السورية؛ ورغم ذلك، فإن الباب الذي فتحته على استحياء، وهي تظن أنها ستتمكن من التحكم في مفاتيحه، انفلت من يدها، ليتحرك بقوة خارجة عن سيطرتها.
فالمُـلفت للانتباه أن عدداً من منظمات العمل المدني استمرّ في العمل، رغم الضغوط والتضييقات، ساعياً بين الفترة والأخرى إلى الحصول على تراخيص عمل من وزارة الشؤون الاجتماعية، رغم تِـكرار رفض الأخيرة.
إعلان دمشق والرِّهان على الوحدة، لا الانقسام
ربما لذلك، تتمثل أهمية إعلان دمشق للتغيير الوطني الديمقراطي وخطورته. فهو يمثل “خلاصات الحراك الثقافي والسياسي إزاء ما أفرزته تلك المرحلة من مطالبات المثقفين في سوريا”، على حدّ تعبير صحيفة السفير اللبنانية في عددها الصادر بتاريخ 20 يناير 2006.
تأسّس إعلان دمشق للتغيير الوطني الديمقراطي في أكتوبر 2005، وشكّـل بَـوتقة جمعت أطيافا متنوعة من المعارضة السورية والمنظمات الحقوقية المدنية وشخصيات مستقلة. وقّـع عليه التجمع الوطني الديمقراطي في سوريا والتحالف الديمقراطي الكردي في سوريا ولجان إحياء المجتمع المدني والجبهة الديمقراطية الكردية في سوريا وحزب المستقبل واللجنة السورية لحقوق الإنسان وشخصيات مستقلة، منها رياض سيف وجَـودت سعيد وفداء الحوارني وهيثم المالح ونايف قيسية.
وسارعت إلى تأييده، قوى معارضة سورية ووطنية وهيئات مدنية في الداخل والخارج، منها حزب العمل الشيوعي ومنتدى جمال الأتاسي للحوار الديمقراطي وتحالف الوطنيين الأحرار، إضافة إلى جماعة الإخوان المسلمين في سوريا.
أما الهدف المشترك لتلك القِـوى فكان، على حد تعبير بيان حديث للإعلان، “الانتقال بالبلاد من الاستبداد إلى الحرية والديمقراطية، الأمر الذي يتطلب تحويله أكثر فأكثر إلى حركة مجتمعية، تتوجّه نحو الشعب وتنفتح على تياراته المختلفة”.
إذن، شكّـل إعلان دمشق، المحصِّـلة لملامح العمل السياسي والمدني المعارض في المرحلة الرّاهنة من تاريخ سوريا. فهو أول إعلان للمعارضة السورية يصدُر من داخل البلاد، لا من خارجها. وقد تأسس بعد انتهاء فترة شهر العسل بين الحكومة والفاعلين في المجتمع المدني، وأصر رغم ذلك على عقد اجتماعاته بشكل علني، تعبيرا عن رغبته في العمل السلمي بعيداً عن دهاليز السرية التي تسعى السلطات الأمنية إلى دفعه إليها.
والأهم، وهنا مربَـط الفرس، أنه تمكّـن من تجاوز الانقسامات الطائفية والدينية والأيديولوجية، التي شكّـلت نقطة ضُـعف مزمنة لدى المعارضة السورية. فقد سعى إلى إيجاد صيغة توافقية، جمعت بين العلماني والليبرالي والقومي والشيوعي والإسلامي والعربي والكردي والمسيحي والمسلم والسُني والعلوي.. الخ.
واعتبر لذلك أن الإسلام يمثل مكوِّنا ثقافياً لسوريا، مشدّداً في الوقت ذاته على ضمان حرية الأفراد والجماعات والأقليات القومية في التعبير عن نفسها، والمحافظة على دورها وحقوقها الثقافية واللغوية، داعياً إلى إيجاد حلٍّ ديمقراطي عادل للقضية الكردية في سوريا، بما يضمن المساواة التامّة للمواطنين الأكراد السوريين مع بقية المواطنين؛ واعتماد الديمقراطية كنظام حديث عالمي، القِـيم والأسس، يقوم على مبادئ الحرية وسيادة الشعب ودولة المؤسسات وتداول السلطة، من خلال انتخابات حرة ودورية، تُـمكن الشعب من محاسبة السلطة وتغييرها.
دولة لمواطنيها؟
لعلّ تلك الصيغة التوافقية ومقدرة الإعلان على جمع ممثلين عن جميع أطياف المجتمع السوري المتعددة، هي ما أثارت حفيظة السلطات السورية، والتي كانت، على حدّ تعبير بعض النشطين، “تراهن على انقسامه”، وكاد ذلك الانقسام يحدُث فعلا مع ما رافق اجتماع المجلس الوطني للإعلان في الفاتح من ديسمبر 2007 من خلافات وانسحاب بعض التيارات.
ورغم أن ذلك الانقسام يعبِّـر عن حداثة تجربة العمل السياسي المعارض العلني في سوريا، فإنه لم ينجح في كسر شوكة الإعلان، بل استمدّ قوة من انتخابه لمكتب وأمانة عامة جديدة، تشكّـلت في إطارها هيئة رئاسية خماسية، أصبحت بمثابة هيئة تنفيذية للإعلان، تسعى لتحقيق أهدافه ومتابعه برامجه.
ولم تكُـن صدفة لذلك أن تتوالى حملة اعتقالات شرسة بعد انعقاد المجلس الوطني العام، لتأتي على معظم قيادات الأمانة العامة والمجلس الوطني وأمناء سر الإعلان؛ أو أن تتّـخذ السلطات من الإجراءات، ما يمكِّـنها عمليا من دفع معظم النشطين ضمن إطار الإعلان، إلى الهروب والاختفاء داخل سوريا.
لم تكُن هذه الإجراءات وأساليب التعاطي مع “الإعلان وأصحابه” صدفة، لأن الدولة السورية لم تنجح إلى يوم الناس هذا في أن تتحوّل إلى دولة “مواطنين”.
وسوريا، مع اختلاف الظروف والمعطيات، ليست الدولة العربية الوحيدة التي فشِـلت في أن تتحول إلى دولة مواطنين. فالنموذج القائم للدولة العربية، لأنه يفتقد إلى شرعية دستورية، يؤسّـس لشرعيته من البنية التقليدية التي تنتمي إليها نُـخبته الحاكمة، ولذا، لم ينجح إلا في تمثيل مصالح طائفة مذهبية أو قبلية أو نخبة “مناطقية” أو نخبة “عسكرية” ريفية.
وفي الحالة السورية، فإن النظام الحاكم كان دوما يراهن على الانقسامات الطائفية والدّينية، داخل سوريا، وتغذيتها، ليكتسب شرعية وجوده. يضرب الحركات الإسلامية المجتمعية بالعِـلمانيين والأقلية المسيحية؛ ويقنع الأقلية العلوية، التي يسيطر أبناؤها على مفاتيح الدولة الأمنية والمخابراتية والدفاعية، يقنعها أنه لو ترك السلطة، فإن أنهاراً من الدم ستجري، ويذكِّـرها بالتاريخ والمذابح التي تعرضت لها. يفعل ذلك، كي يكون هو الضامن الوحيد لأمن الأقليات وأطياف المجتمع الفسيفسائية، لتلجأ إليه ثم تجد مناصاً من دعمه.
تلك تفاصيل الأحجية، لم يكن مستغربا أن تحاكم قيادات إعلان دمشق، بل كان من البديهي أن تضرب السلطات السورية الأمنية بيد من حديد على إعلان دمشق للتغيير الوطني الديمقراطي. تريد محقه، ذلك أن الإعلان، إذا كان قد نجح في شيء ما، فقد نجح في أن يثبت بما لا يترك مجالا للشك وجود “مواطن” سوري لا يعبأ بالاختلافات الدينية أو الطائفية أو الأيدلوجية، ويجمعه بغيره من المواطنين والمواطنات هَـمّ واحد، اسمه سورية الوطن.
سويس انفو