صبحي حديديصفحات ثقافية

أن تكون محمود درويش

null
صبحي حديدي
في حدود ما تناهى إليّ، أو تيسّرت لي قراءته باللغتين الإنكليزية والفرنسية، إذْ لا أتقن العبرية، لم أعثر على مادّة إسرائيلية لافتة في رثاء محمود درويش. توفرت، مع ذلك، بعض الإستثناءات التي لا تمسّ إلا السطح أو المعطى البسيط في نظرة إسرائيل، مجتمعاً وحكومة، إلى شخصية درويش: المواطن الفلسطيني، والشاعر، وشاعر فلسطين الوطني الأوّل، والشاعر العربي والعالمي الكبير. وثمة إشكالية حقّة هنا، لا تخصّ هذه الأبعاد وحدها، وتشمل سلسلة مواجهات ثقافية وأخلاقية قبل تلك السياسية، ولا تقتصر على سجال المجتمع الإسرائيلي بصدد تدريس أو رفض تدريس قصائد درويش في المناهج الدراسية الإسرائيلية (قرار يوسي ساريد وزير التربية والتعليم الأسبق بهذا الصدد، والنقاش العاصف الذي اندلع سنة 2000 وانتهى إلى تحكيم رئيس الوزراء آنذاك، إيهود باراك، بأنّ الإسرائيليين ليسوا مستعدين بعد لهذا الإجراء)؛ أو مفارقة أن يبدي أرييل شارون، دون سواه، إعجابه الشديد بقصائد الراحل. بين هذه الإستثناءات ما كتبه الروائي الإسرائيلي أفراهام ب. يهوشواع في صحيفة ‘معاريف’، ونقلت بعضه آمال شحادة من الناصرة، من أنّ درويش كان ‘الصديق والخصم’ الذي استفزّ الإسرائيليين بشعره وثقافته وعمقه: ‘أولاً وقبل كلّ شي كان محمود درويش شاعراً كبيراً، وامتلك عظمة شعرية حقيقية، حتى أنّ إنساناً مثلي قرأه عبر ترجمات أشعاره لا باللغة الأصلية، كان في إمكانه أن يعجب بمخزون الصور والأفكار الغنية لديه، وبالحرية الشعرية التي سمح لنفسه بانتهاجها’.
إسحق لاؤور، الشاعر والكاتب التقدّمي، نشر في ‘هآرتس’ مقالة توقفت عند قصيدة درويش الأخيرة ‘سيناريو جاهز’، معتبراً أنّ ‘التاريخ ألقى على عاتق درويش مهمة أنّ يؤدّي دور الشاعر الوطني’. وحثّ لاؤور دولة إسرائيل على منح الإذن بدفن درويش في قريته مسقط رأسه، البروة: ‘إنهم يتحدثون كثيراً في العالم عن الإعتذار’ من ضحايا الإحتلال والإقتلاع والتهجير، ‘في أمريكا وأستراليا وجنوب أفريقيا. وهنا لم يتحدثوا عن ذلك بعد. وقد يكون تشييع جثمان درويش إلى قريته بداية رحلة طويلة من التكفير عن الذنوب’.
تسفي بارئيل، محرّر الشؤون العربية في الصحيفة ذاتها، رأى أنّ عظمة درويش الأساسية هي ‘البلورة الشاعرية الثاقبة للذاكرة التاريخية الفلسطينية، وخصوصاً في ما يتعلق بقضية اللاجئين. وفي قصيدته الشهيرة ‘لماذا تركت الحصان وحيداً’ أحيا العلاقة بين التهجير والآثار الحية التي أبقاها اللاجئون خلفهم وعنفوان حق العودة بواسطة رمزه، الحصان الذي بقي في الخلف، والبئر المتروكة ومفتاح البيت المهجور الموجود في جيب كل لاجىء’.
أجدني، إستطراداً، راغباً في العودة إلى مقال إسرائيلي لامع عن درويش، كتبته الشاعرة والناشطة الحقوقية الراحلة داليا رافيكوفتش قبل أكثر من 12 سنة، نُشر في مجلة ‘غلوبس’ الإسرائيلية وترجمته فصلية ‘مشارف’ في عددها السادس، كانون الثاني (يناير) 1996. المقال حمل عنوان ‘محمود درويش: أن تكون شاعراً ليس بالشيء الكبير’، وفيه توجّه رافيكوفتش نقداً شديداً لاذعاً إلى السلطات الإسرائيلية بسبب إصرارها، آنذاك، على منع درويش من زيارة أهله في فلسطين الـ 48. وتسرد رافيكوفيتش المناسبات السابقة التي طالب فيها عدد من المثقفين الإسرائيليين بمنح درويش الحقّ في الدخول (كما في مناسبة تشييع جثمان والده، على سبيل المثال)، وكيف كانت القصيدة ـ أية قصيدة، وليس ‘عابرون في كلام عابر’ بالذات ـ هي المتراس الأخير الذي تستخدمه المخابرات في تعليل الرفض. كيف لا، وهذه الأجهزة تتصرّف في الطغيان البليد مثل ‘مخلوق أحادي الخلية’، ولكنها تزعم أنها ضليعة وتملك باعاً طويلاً في ‘الأدب المقارن وإدراك مقاصد الشاعر’، على حدّ تعبير رافيكوفيتش.
ولهذا فإنّ محمود درويش الشاعر، شاعر فلسطين الوطني الأوّل، والشاعر القادر على تحويل القصيدة إلى صدمة ثقافية وأخلاقية في الوجدان الإسرائيلي، أو إلى لطمة في وجه الإحتلال العسكري، هو الذي ظلّ رجيماً محاصَراً محروماً حتى من تأشيرة سائح: ‘لو كان الحديث يدور عن مليونير سعودي يرغب في زيارة البلاد، فإنّ إيتان هابر (مدير مكتب إسحق رابين آنذاك)، بجلاله وقدره، سوف يجهد لتنظيم جولة للضيف الكريم، صحبة دليل خاصّ، في ديزنغوف (أحد الشوارع الرئيسية في تل أبيب)’، كما كتبت رافيكوفتش.
وبالفعل، تلك مسائل فيها نظر كما يُقال، بيد أنّ تعليل وجودها واستمرارها (كما يتجلى في القرار الإسرائيلي برفض دفن درويش في أيّ شبر من فلسطين الـ 48)، ليس عسير التأويل، أو هو بالأحرى واضح في الصيغة المعكوسة تماماً لعنوان مقالة رافيكوفيتش: أنْ تكون شاعراً هو شيء كبير من حيث المبدأ، وأن تكون شاعراً من طراز محمود درويش هو شيء كبير… كبير. أما أن تكتب الشعر بالعيار الأخلاقي والإنساني والحضاري والتاريخي الذي اعتمده الراحل طيلة أربعة عقود ونيّف، فذاك ليس بـ ‘الشيء الكبير’ فحسب، بل هو أمر جلل وقضية خطيرة. وهو، في أيّ حال، ليس حكاية أجهزة عسكرية ـ أمنية تمارس الأدب المقارن، وإلا فإنّ تفسير ضآلة، وضحالة، ما كُتب عن محمود درويش في إسرائيل، سوف يبدو بسيطاً ومالوفاً. الحال نقيض هذا تماماً، وثمة هنا أكمة سياسية وثقافية وتاريخية وميتافيزيقية، وراءها ما وراءها من مخاطر وحساسيات وحسابات.
خاص – صفحات سورية –

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى