صفحات الناس

عندما لا يزورك الرقيب في نهارك …. يأتيك في المنام

null
الطاهر إبراهيم
ما نكتبه حول المعاناة التي يجدها أحدنا في علاقته المقلقة مع عناصر أجهزة الأمن، يظنها بعض القراء محض خيال، ونوعا من السياسة نستحضرها في مقالاتنا لنزيد القارئ إثارة وتشويقا. ولو اطلع القارئ على ما يعانيه الواحد منا في غربته، وما يجده من أحلام مفزعة لعذرنا. قد ننسى تلك المعاناة في زحمة الحياة، فإذا ما تذكرنا ازددنا سوداوية مع تَذكّر رقيب الأمن وملاحقته لنا ، حتى ونحن  في الاغتراب نكابد مشاق الهجرة مع الأهل والأولاد.
الذي نفد بجلده من كرباج الرقيب وزنازين المعتقلات وهرب خارج وطنه، يعتبر ذلك رضى من الله عليه، وأنه وُلِدَ من جديد. كيف لا وقد أعتقه الله من بلاء لا يعرفه كثير من خلق الله في البلاد التي تخف فيها سطوة أجهزة الأمن أو تكاد تنعدم. لم يعد أحدنا في المهجر يستيقظ يوما ما قبل صلاة الفجر على صوت قرع عنيف على أُكْرَةِ باب داره الحديد، وما أن يفتح باب داره العربية، حتى يمتلئ صحن الدار بعشراتٍ مدججين بالسلاح، وكأن داره قلعة من قلاع القرون الوسطى دخلها الفاتحون من ثغرة في سورها الحصين.
في معظم بلاد الله المترامية الأطراف، لا يكاد الإنسان يجد كثيرَ أهمية لهذا الدفتر الصغير الذي غُلِّفتْ أوراقه بجلد ملون أحمر أو أخضر أو كحلي ويسمى جواز سفر. أما إنسان الدول القمعية، فإن أقدامه تحفى وجلد بشرته لوحته الشمس من كثرة الوقوف ساعات طوالا أمام إدارة الهجرة ينتظر ساعة الفرج أمام كوة توزيع الجوازات. أماإذا كنت ممن “صوفتهم حمراء”  –يكون الصوف أحمر فاتحا أو قانيا تبعا لتصنيفك الحزبي، ويكون داكنا إذا كنت إسلاميا- فلا تتعب نفسك، وارض بعملك المتواضع في بلدك، فليس لك جواز سفر.
في بلاد الغربة رجوعك من قنصلية بلادك فارغَ اليدين، لم تحصل على جواز سفر، لن يحل المشكلة، إذ لا بد من جواز السفر، إلا إذا نويت العيش في دارك رهين المحبسين، خائفا ومن دون عمل، وهو أمر أشق مما يعانيه الذين فشلوا داخل أوطانهم في الحصول على جواز سفر. فأولئك لا يسألهم أحد عن جواز سفر في بلادهم. أما في بلاد الغربة فإنك ستدخل بيتك وقد اربدّ وجهك وتغيرت ملامحك، فتسودّ معيشة أهل بيتك، لأن جواز السفر كالخبز اليومي لا يستغنى عنه.
ولا تنتهي معاناتك مع حصولك على جواز السفر بعد معرفة كلمة السر التي تفتح لك الطريق إلى مكتب المسئول الأمني في القنصلية “أبي هاني” أو “أبي مهند” أو… غير أن الانعكاسات النفسية عن ذكرياتُ الماضي القريب أو البعيد الذي عشته هنا أو في وطنك ستراها بمنفاك أضغاثَ أحلام يختلط فيها حاضرك بماضيك وبأمور شتى.
بعد يومك الطويل الذي قضيته في القنصلية تلهث وراء جواز سفر لك أو لأولادك، تعود إلى بيتك لتجد أن أخاك قد هاتَفَكَ وقال إن الأمن العسكري رفض الموافقة على جواز سفر ابنك الذي بلغ الثامنة عشرة، مع أنك دفعت 5000 دولار بدلا نقديا من خدمة العلم ودخلت الخزينة . أو أن الأمن السياسي لم يصادق على الوكالة التي أرسلتها له ليبيع دارك ويرسل لك ثمنها لتنفقه على أولادك الذين يتابعون دراستهم الجامعية بعيدا عنك في بلدٍ آخر غير بلد الاغتراب. وفي ظل حالات الإخفاق هذه لا تجد أمامك إلا فراشك تأوي إليه متعبا مهموما هاربا من واقع مثقل بالهموم، ثم لا تلبث أن تدخل في عالم آخر.
ولأنك مشتاق لوالدتك التي أقعدها المرض، سترى نفسك قرب فراشها تقبل يديها فتأخذك بين ذراعيها. أو تزور قبر والدك تقرأ له الفاتحة، وكان قد توفي يوم كنت معتقلا. أو تزور صديق شبابك وقد أبعدك عنه غيابك خارج القطر. أوتتفقد شجرات الكرز وقد تفتحت أزاهيرها وعطّر الجوَّ أريجُها المنعش. وربما تذكرت فجأة -وأنت مستغرق في منامك الوردي- أنك لا بد وأن تمر على مخفر الأمن العام على الحدود أثناء عودتك من زيارتك هذه، إذ لا بد من ذلك، إلا إذا كنت تعتمر “طاقية الإخفاء” وأنى لك ذلك؟ فيعتصر الخوف فؤادك.
وربما يكون الرقيب –غير العتيد- قد سمِع بوجودك في البلد، فتحيط بالبيت الذي تزوره مجموعة اقتحام كالتي جاءت لتعتقلك في ذلك اليوم البعيد القريب. في هذا الحلم المشحون بعواطف شتى يأخذ القلق والخوف من نفسك كل مأخذ، فتتسوّر جدارَ الدار لتلقي بنفسك من علٍ خارج السور من الطرف الآخر للبيت. الغريب أنك لا تحس بآلام السقوط فوق بلاط الشارع، ربما لأن ألم الخوف أشد من ألم السقوط، وربما لأنك في عالم الأحلام حيث لا تجري عليه مقاييس الواقع.
ولسوء الحظ وربما لحُسْنه، فإنك تتغير في المنام من حال إلى حال، فلا قيد يحكمك في المنام.   وربما انتقل بك المشهد إلى زنزانة في معتقل، يتعلق قلبك ببابها كأنك تتوقع أن يأتي خفير ليقول لك جاء الفرج، هيا أخرج عنا ولا تعد إلينا. فإذا صدّقت الخفير ووصلت باب المعتقل صاح بك خفير آخر إلى أين؟ فتحس كأن قلبك قد انخلع من صدرك من الخوف والرهبة.
عند هذا الحد تتحرك بك غريزة حب النجاة فتجد نفسك، بسرعة الخيال، على الحدود تبحث عمن يدلك على طريق تعبر منه إلى البلد المجاور، من دون أن تمر على مخفر الأمن، وإذ بك وجها لوجه مع الرقيب فتحس وكأن جبلا قد أطبق على صدرك من اليأس، فتصرخ بأعلى صوتك: يا رب استر … فتفتح عينيك على يد زوجتك تربت على وجهك بحنان وهي تقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم، وترقيك بالمعوذتين. فتتعوذ أنت بدورك بالله الرحمن الرحيم من الشيطان الرجيم ومن شر سوط الرقيب، وأنت تتمتم موجها كلامك الهامس لخياله الذي يرفض أن يخلي سبيلك حتى في منامك في بلاد الغربة، وأنت تقول: ورائي… ورائي .. حتى في بلاد الغربة؟!
كاتب سوري

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى