صفحات ثقافية

«وردة الشمال» للسوري حسن صقر … نزهة العسكري من الهزيمة إلى السلطة

null
نبيل سليمان
في العام 1966 يخطب مدير ثانوية المجدل (الجولان) في الطلاب، مقدماً لهم مدرس الرياضيات علي حسن، فيجلجل المدير: «كل رياضيات لا تسهم في معركة الأمة وانتصارها، لا نريدها مهما علا شأنها»، وتزلزل العبارات الثورية زلزالها. الثورة أولاً، ومن ثم الرياضيات. ولأن طالباًً يتهم الطالبة سهام بركات بالتعاطف مع الإقطاع، يتم طردها، فتبلغ المسرحية ذروتها، ويختلط التراجيدي بالكوميدي على ذمة السارد في رواية «وردة الشمال» لحسن صقر.
وبينما تتواصل الزلزلة الثورية في سورية عشية هزيمة 1967، تنسج «وردة الشمال» العشق بين الأستاذ والطالبة، ويقوم الصراع بين الأستاذ والطالب العاشق لسهام، ثم بين الأستاذ والضابط أحمد مسعود ابن خالة سهام وخطيبها. وعبر ذلك ترمي الرواية بإشاراتها إلى الهزيمة المقبلة، كما في مشهد انتصار بنات آوى على الكلاب التي «أُطعمت ودللت كي تكون درعاً حصيناً في وجه الأعداء المغيرين»، لكن الكلاب قدمت عرضاً دراماتيكياً موفقاً يصلح كسلاح إعلامي لخوض أي حرب محتملة، ثم عادت على أعقابها قبل وصولها إلى أرض المعركة. وهكذا، وكما راج بعد هزيمة 1967، جلجل الشعار: «لقد خسرنا المعركة ولم نخسر الحرب».
في 29/ 4/ 1967 يُستدعى المدرس علي حسن للخدمة كملازم احتياط في «جيشنا العقائدي المتشوق للمعركة». ويظهر المقدم نورس الذي يحكم بأن السياسيين عندنا ليسوا على مستوى المسؤولية. وتظلل السخرية مقدمات الحرب التي ترسمها الرواية كمسرحية تنتهي بوقوع على حسن في الأسر وهرب الرائد أحمد مسعود ولجوئه إلى خالته والدة سهام. وبالتوازي بين التحقيق الإسرائيلي مع الأسير السوري، وبين صعود نجم أحمد مسعود، تمضي الرواية حتى الإفراج عن الأسير، ليقع بين فكي أحمد مسعود الذي تزوج سهام، وصار المسؤول عن إعادة تأهيل الأسرى، والعقيد الذي يرعى الثقافة والمثقفين، ويجلجل بقطع يد السياسيين الذين لولا تخاذلهم ما تلطخ  شرف الجيش، لكأنه حسني الزعيم يهدر في أعقاب هزيمة 1948، ثم يدشن عهد الانقلابات العسكرية السورية.
غير أن الرواية تؤول بالعقيد أحمد مسعود إلى أسوأ مآل، ليس فقط كمريض نفسي، بل كتائه على الحدود التائهة بين السجن الغارق في الظلام، وبين المدينة، ما عنى للعسكري المهزوم المتسلط أن دمشق تحولت إلى سجن كبير، بل الدنيا كلها باتت معتقلاً، وهو نزيله الذي يفكر في القوة التي بلغت نهايتها، ولم يبق لها إلا أن تزول مع زوال الظلام. ولعل الإشارة هنا واجبة إلى إلحاح الرواية على الظلام قبل هذه الخاتمة، ولحسن صقر من قبل رواية (البحث عن الظلام).
وبانعطاف رواية «وردة الشمال» مع هزيمة 1967، بدت تتطوح عما كان قد استقام لها من قبل بالبناء الكلاسيكي الأثير لحسن صقر، وكذلك بما جرى في شطرها ذاك من تطعيم الكلاسيكي بالحداثي. وهنا، قد يكون للمرء أن يشير إلى أن ذكر الكلاسيكية الروائية بالخير، قد بات نادراً في الغمرة الروائية الحداثية خلال العقود الثلاثة الماضية. بل إن الكلاسيكية باتت معرة وسبّة لدى كثرة من الأصوات الجديدة، كما باتت كثرة من السابقين تتبرأ من كلاسيكيتها، وتجهد كي ينسب نصيبها الروائي إلى الحداثة. أما المدار الحداثي في ذلك كله، فقد تحدد غالباً بالشكل، وندر أن تعلق بفلسفة أو رؤية. وإزاء ذلك تبدو روايات حسن صقر من القلة التي ظلت تلوح بكلاسيكيتها، شأنها شأن روايات عبد السلام العجيلي وصدقي إسماعيل وفواز حداد، من سورية. ولبيان ذلك في رواية «وردة الشمال»، تعجّل الإشارة إلى السارد الذي لا يفتأ يحشر نفسه بين النص والقارئ، ليقول: «هذا ما فكرت فيه سهام»، أو «قبل أن يكتمل هذا الحوار الذاتي»، أو «ولكي نعرف شيئاً عن حقيقة الأزمة التي عصفت في هذا البيت الذي تسكنه النساء، لا بد من إلقاء نظرة ولو سريعة على سكان العمارة».. ومثل هذه الغلظة هو الانعطاف بالرواية لتكون رواية (عمارة) حين تصور حياة سهام وأمها عبلة زيدان في دمشق، فإذاً لكل شقة ملخص حكاية أو قصة (تاجر في الخليج – إقطاعي مع زوجتيه – محام…) ولا يقل إثقالاً على الرواية ما تلا من قرية برج السنديان والتقمص والخلاف حول موقع النور من مصدره، مما يتصل بالمذهب العلوي وبالطائفة العلوية وإن لم يسمّها. ومثل ذلك أيضاً هي الاستطالة التي تأتي بقصة الشاعر العراقي وابنته في منتهى الرواية.
لكن تلقيح الكلاسيكي بالحداثي في الرواية حاصر مواطن الغلظة والاستطالة والإثقال على الرواية. كما دلّل هذا التلقيح على براعة الكاتب باللعب، ابتداءً بالضمائر، كأن تخاطب سهام نفسها، ثم تنتقل إلى ضمير المتكلم، ليعقبها السارد بضمير الغائب، فسارد آخر غير سهام يتقدم بضمير المتكلم. وإذا كان هذا اللعب يجعل النص شبيهاً  بخشبة مسرح، فإن مضارعة المسرح تحضر من حين إلى حين، عبر مشاهد محكمة ومؤثرة، كمشهد اللقاء الرومانسي بين أحمد بركات وعبلة زيدان، أو مشهد تقدم أحمد إلى موته. ولعل المشهدية تبلغ ذروتها عندما ينشبح الكاتب محمود بين الشرطي ونورا وعشيقها، وكذلك عندما يسمع محمود هذا هتافات فيظنها للتضامن مع معتقلي الرأي الذين طال اعتقالهم «ولم يعد لبقائهم معنى إلا إذا كان لدخولهم معنى»، وإذا بالمظاهرة ضد الحرية. وهنا يأتي موطن متميز من مواطن السخرية في الرواية حين يعلق الكاتب محمود على محاولة اغتيال رئيس الوزراء بقوله: «هذا هو شعبنا، عاطفي ومحب. ولا بد بعد أن نقيم تمثالاً مزدوجاً للقاتل والمقتول، ودليلاً على وحدة الشعب والحاكم، وأن ننظم استفتاءً حول قمصان رئيس الوزراء».
وقد يبدو أمر ملاعبة الضمائر أو المشهدية أو السخرية، هيناً، بالقياس إلى ما جاء في الفصل الرابع من حضور الكاتب باسم محمود، ليشرك القارئ في أزمة إفلات خيوط الرواية من يديه، حيث يتمرد عليه» الأشخاص الذين جرى التعاقد معهم كي يقوم كل منهم بدور محدد في العمل. وهذا يعود إما إلى نقص في القدرة الإبداعية، وإما لأن الروائي خلق أشخاصاً أكبر منه، فشقوا عليه عصا الطاعة، بل ناصبوه العداء». ويضيف الكاتب محمود – لماذا لا يقال: حسن صقر؟ – أن هنالك كتاباً يأتون بشخصية أنثوية شديدة الإضاءة والجاذبية ليجعلوا منها رمزاً لأمة أو لمرحلة زمنية لها خطورتها». ولعل حسن صقر قام بذلك حين جاء بشخصية نورا. وهنا ينبغي أن نتذكر أن صدقي اسماعيل هو الذي سبق إلى لعبة الحضور الكاتب الصريح في الرواية، وذلك في روايته «العصاة» (1964) ومن بعد في روايته «الحادثة». ولئن كان صدى ذلك يترجّع في رواية «وردة الشمال»، فثمة صدى آخر في مشهد الصراع بين الكلاب وبنات آوى، ينادي فيلم «بنات آوى» للمخرج السوري عبد اللطيف عبد الحميد. كما أن صدى ثالثاً يترجّع في لغة هذه الرواية، ويشبكها باللغة الروائية لدى صدقي اسماعيل ممن سبقوا حسن صقر، ولدى فواز حداد ممن تلوه، حيث تطول الجملة وتتفرع، وحيث تهيمن الرصانة غالباً، ويحدث أن تخفف منها ما تقتضيه السخرية، أو ما تجود به العامية من مفردة أو عبارة أو مثل أو أغنية. ويضاف إلى ذلك ما حاولته «وردة الشمال» من مجاراة اللعبة اللغوية الروائية التي تزدهي بها روايات إدوار الخراط وهاني الراهب وصنع الله ابراهيم، حيث يأتي المقطع أو الفقرة كسبيكة لغوية لا تعبأ بضمير ولا بعلامة ترقيم. على أن كل هذا الذي يقال في لغة «وردة الشمال»، ومن قبل في بنائها، ليس بالجواب الذي ينتظره السؤال عن لقاح الكلاسيكي بالحداثي، كما إن ما حلّ بالرواية، بعدما انعطفت بها هزيمة 1967، ليس بالجواب الذي ينتظره السؤال عن نزهة العسكري السوري وغير السوري، من الهزيمة إلى السلطة.
الحياة     – 04/09/08

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى