صفحات ثقافية

القراءة…”هواية” عربية غائبة

null
خالد غزال
نشرت بعض الصحف العربية تقريرا تناول موضوع القراءة في العالم العربي، فأعطت أرقاما مذهلة في دلالاتها ونتائجها. يقول التقرير:”انّ الجفاء لا يزال في أوجه ما بين المواطن العربي والكتاب، فالدراسات الدولية الأخيرة حول معدلّات القراءة في العالم أوضحت انّ معدّل قراءة المواطن العربيّ سنويا هو ربع صفحة، في الوقت الذي تبين فيه انّ معدّل قراءة الأميركيّ 11 كتابا، والبريطانية سبعة كتب في العام”. يأتي هذا التقرير في أعقاب تقارير صدرت في السنوات الماضية عن منظمات تابعة للامم المتحدة أشارت إلى أنّ نسبة الأمّية في العالم العربيّ تتراوح بين سبعين مليونا ومائة مليون من المواطنين، أي ما يوازي تقريبا ثلث سكان العالم العربيّ، وهي من أعلى النسب في العالم بما يضع العالم العربيّ في مستويات عليا من الجهل. اذا كانت هذه الارقام تصفع كلّ مواطن عربيّ، فلأنّ لها نتائج خطيرة على مستويات تتجاوز مسألة معرفة القراءة او الكتابة او مدى الرغبة في تغيير هذا الواقع.
أولى النتائج المترتبة على سيادة الامية والجهل والانكفاء عن القراءة او التعلم، هي تعزيز النظريات التي تزداد ازدهارا في تفسير التخلف انطلاقا من الثقافة، وهي نظريات تولي العالم العربي اهتماما خاصا. تذهب هذه النظريات الى أنّ التخلّف العربيّ الذي يسبّب الاضطرابات داخل المجتمعات العربية وفي العالم الخارجي ّ ايضا تعود اسبابه الرئيسة الى الجهل المستفحل في هذه المجتمعات، واستعصائها بالتالي على ركوب مركب الحضارة والتقدم والافادة مما تقدمه الثورة التكنولوجية على صعيد تسهيل انتشار المعرفة وايصالها الى اوسع عدد من السكان في العالم. تذهب هذه النظريات في تفسير عنصريّ وعرقيّ يصل بها الى اعتبارالشعوب العربية بأصلها وبالفطرة وبالتكوين البيولوجي تحمل من النقص والعجز ما يضعها في المكان الذي تقف فيه الآن على هامش التاريخ وفي صفّ الشعوب الاكثر تخلفا. تحمل هذه النظريات احقادا موروثة ونزعة في السيطرة الاستعمارية لم تشف منها المجتمعات الغربية في نظرتها الى الشرق. واكبر الادلة على تهافت هذا التفسير الثقافيّ للتخلف ان ّالمواطن العربي الذي يتاح له التعلم في معاهد عالية سواء في بلده او في الخارج قد اظهر ولايزال مقدرة في الانتاج والاكتشافات لا تقل اهمية وعلمية عن زميله الغربيّ، واكبر دليل على ذلك ما تعج ّبه مراكز الابحاث الاجنبية وسائر المراكز العلمية في الطب والهندسة والذرة والالكترونيات وعلوم الجينات وغيرها، من علماء عرب.
ثانية النتائج المترتبة على الجهل والامية تنبع من الخلل في السياسة التعليمية السائدة في العالم العربي. تتشعب العوامل هنا لتطال حجم الانفاق المرصود سنويا للتعليم ولتجاوز الامية.  رغم انّ العالم العربيّ يتمتع بأوفر فوائض مالية ناجمة عن طبيعة الموارد ومنها النفط، الا انّ هذه الموارد تذهب  غالبا  إلى ميادين  لا علاقة لها بتنمية العلم والتعليم. تفتقد غالبية المؤسسات التعليمية الى التقنيات الحديثة في تسهيل امور التعلم، مما يجعل الوسائل البدائية ذات سيادة في هذا المجال. يضاف اليها ما تتضمنه انظمة التربية والتعليم من تأخر عن الحد الادنى مما وصل اليه تStrikethroughطوير البرامج في اعداد المعلمين والاساتذة، وهي من المعضلات الكبرى حيث ما تزال دول عربية كثيرة تعتمد وسائل تعود الى قرون سابقة تجاوزها الزمن. اما البرامج فلا تزال في غالبيتها تغلب العلوم النظرية على العلوم التطبيقية، وهو أمر يتسبب في تخرج اجيال تعجز سوق العمل عن ايجاد وظائف لها. كما ان برامج التعليم باتت اليوم موضع هجوم من المؤسسات الدينية التي باتت تفرض برامجها بشكل ملزم كسائر المواد التعليمية الاخرى، وهو امر يزيد من حجم الجهل والتجهيل لأنّ هذه البرامج تعتمد موادّ  يغلب فيها الغيبيات والاساطير ناهيك بما تحمله من تحريض طائفي ومذهبي ضد المجموعات السائدة، ولا تستثنى في هذا المجال اي طائفة من هذا التوجه.
ثالث المظاهر السلبية في مجال القراءة يمكن رصده في انتاج المعرفة ونشرها وفي حجم العاملين في الثقافة ومدى اهتمامهم بالقراءة. تفيد استقصاءات عن حجم الكتب المطبوعة سنويا عن ضآلة العدد قياسا بسكان العالم العربي. فيما تسجل ارقام الطباعة في البلدان المتقدمة مئات الالاف لكل كتاب يصدر، لا تتجاوز النسبة بضعة آلاف، بما فيها لكتاب معروفين أمضوا أعمارهم في الانتاج الثقافي. تتبدى هذه الظاهرة في معارض الكتب المقامة في كل البلدان العربية التي تشهد حضورا ولكن تعرف مبيعا اقل مما يتوقعه الناشر بكثير. في المقابل، زال نوع من المنافسة الحسنة التي كانت تدور بين المثقفين حول عدد الكتب التي قرأها كل واحد خلال شهر ونوعيتها واللغة المكتوبة فيها، بل المخجل ان عاملين في هذا المجال يعترفون ان اشهرا مضت لم يفتح الواحد منهم كتابا، فاقتصرت “معارفه” على البرامج التلفزيونية من افلام ومسلسلات. وهي مؤشرات ذات دلالة على حجم الامية المتفشية في اوساط يفترض فيها ان تكون رائدة في محاربة الجهل والامية في آن.
رابعة النتائج المترتبة على “ازدهار” الامية تتصل بدورها في اعاقة التنمية البشرية وتحسين المستوى الاجتماعي للفرد العربي. ليس خافيا انّ حجم التخلف الاقتصادي والاجتماعي في العالم العربي يصل الى مستويات عليا تضعه في قاع المجتمعات المتأخرة. ليس ادل على حجم هذا التخلف من معرفة حجم العاطلين عن  العمل الذي يتجاوز 25 مليونا، ومن حجم الفقر السائد الذي يضع اكثر من 70% من السكان العرب تحت خط الفقربحيث يعيش الغالبية من السكان بدخل يومي لا يتجاوز الدولارين. لم تخل المنطقة العربية من مشاريع تنموية قامت بها السلطات الحاكمة وذلك منذ الخمسينات، وساهمت منظمات الامم المتحدة في تنفيذ اقسام واسعة منها. لم تتناسب النتائج الاقتصادية والاجتماعية لهذه المشاريع مع النفقات التي دفعت لتحقيقها، ووفشلت اكثريتها في الاستجابة للمتطلبات والحاجات اللازمة. يعزو خبراء في التنمية حيزا اساسيا من فشل هذه البرامج  الى الجهل السائد والامية المتراكمة بما يمنع اقساما واسعة من السكان من تفهم مغزى المشاريع المنفذة والمساعدة في التجاوب مع ما يتطلبه المشروع. هذا الافتقاد الى الحد الادنى من الوعي المدنيّ خلق حالة من الانفصام بين الجمهور والسلطة الموكلة بالتنفيذ، وادى احيانا الى تخريب واعاقة عدد من هذه المشاريع.
وينعكس الوضع الاقتصادي السيّء ايضا على مقدرة المواطن في اقتناء الكتاب بعد ان وصلت الاسعار مستوى مرتفعا، وبعد ان بات على المواطن العربي ّان يؤمّن لنفسه ولعائلته رغيف الخبز اولا، مما وضع شراء الكتاب في خانة “الكماليات” وبدرجة متأخرة جدا قياسا لسائر الحاجات. خامسة النتائج السلبية تتصل بالثقافة السائدة والناجمة عن غياب المعرفة والتعلم وانعدام القراءة. تتسبب الاميّة بين أبناء المجتمع في سيادة ثقافة تتسم “بالوثوقية” والتسليم بما يتلى عليها. تلعب في هذا المجال وسائل الاعلام المرئية بفضائياتها المنتشرة دور “المثقف” الذي ينشر تعاليمه، والمقصود هنا تحديدا تلك الفضائيات التي تتبع لمؤسسات دينية وللسلطة القائمة، فتنشر ثقافة ملؤها اعادة الانسان العربيّ ليقيم في الماضي، وتكون ثقافته قائمة على التسليم بالفكر الغيبيّ والخرافيّ وعلى الاساطير الموروثة، ونبذ كل فكر لا يتوافق مع طروحات هذه المؤسسات. انّ ثقافة عمادها التسليم الديني والغيبي تتوافق بالتأكيد مع المستوى العلميّ او التعليميّ المتدنيّ الذي يقبع فيه المواطن العربي اليوم. لذا ليس غريبا ما نراه اليوم وفي كل مكان من العالم العربي من انتشار غير محدود للافكار الاصولية ولثقافتها باعتبارها ثقافة خلاص البشر ومدخلهم الى الجنة والنعيم. تتواطأ السلطتان الدينية والسياسية في تكريس سيادة هذ الثقافة ونشرها في المؤسسات الرسمية والخاصة واغداق الاموال لزيادة فعاليتها. لا يعني في المقابل انّ وسائل الاعلام الاخرى تعكس ثقافة مغايرة او مناقضة لثقافة رجال الدين، بل انّ هذه المؤسسات تبثّ ثقافة موازية في تجهيل الجمهور وابقائه مشدودا الى برامج استهلاكية بعيدة عن الاشارات السياسية او النقدية لما هو سائد. بل انها في بعض الاقطار العربية تواكب المؤسسات الدينية في نشر ثقافة التحريض وكره الاخر والدعوة الى اقصائه او استئصاله.
سادسة النتائج الخطيرة تتناول ما يقدمه الجهل والامية من ارض خصبة تنبت فيها وتترعرع الحركات الاصولية المتطرفة وذات الطابع الارهابيّ. تقدم هذه الحركات برنامجها بوصفه سبيل الخلاص لهذه الكتلة الواسعة من الاميين العاطلين عن العمل وللفقراء العاجزين عن العيش بالحد الادنى من الكرامة. تستخدم هذه الحركات ايديولوجيا جذابة في الوعد بالحياة الاخرة والنعيم فيها، وهي امور تستحق التضحية بالذات والتكتل لقلب الاوضاع الراهنة وسيادة الدين سلطة سياسية وحكما “عادلا” وفق تخيلات منظري هذه الحركات. في ظل حالات من الاحباط واليأس وانعدام فرص التقدم والعيش الكريم، وهي امور تسأل عنها السياسات الرسمية، لا يعود غريبا انشداد هذه الفئات الهامشية الواسعة الى حركات “خلاصية” كما تقدم نفسها بفكرها وبرنامجها واموالها الطائلة ايضا.

سابعة النتائج تتصل بالعلاقة مع النظام السياسي السائد. ليس هناك افضل من مجتمع تسوده الامية والجهل والفقر سندا لقيام انظمة الاستبداد والديكتاتورية. خلافا لنظريات سادت في بلدان العالم الثالث عن الثورة المنطلقة من البلدان المتخلفة المنظور اليها على انها مركز الثورة، اثبتت وقائع التاريخ ان المجتمعات التي تهيمن عليها مكونات التخلف المشار اليها ليست مؤهلة لتحولات سياسية واجتماعية كما جرى الاعتقاد. منذ نصف قرن، اي منذ قيام انظمة الاستقلال شكل الجمهور عامة اداة استقرار الانظمة القائمة، ولم تستطع معارك الديمقراطية التي خاضتها اقليات ونخب الانتصار على منطق الجمهور الامي والفقير حتى لا يشكل وقودا لسياسات الاستبداد، من خلال اثارتها الغرائزية وتخويفها من اي تحولات اجتماعية ووضعها في مواجهة كل معارضة ترمي الى تغيير الاوضاع القائمة. لا يزال خطاب الاستبداد قادرا على تجييش هذا الجمهور بشعارات ديماغوجية ولعب على الاوتار الطائفية والمذهبية وعبر الاستعانة برجال الدين وتوظيفهم بما يخدم خطاب السلطة. وهي مسائل تطرح اكثر من علامة استفهام حول سياسة الانظمة وما اذا كانت جاهدة حقا في القضاء على الامية في مجتمعاتها وتطوير التعليم بمؤسساته ومناهجه، خصوصا انها قد ترى في هذه السياسة ما يهدد سلطتها في المستقبل، لان الوعي الشعبي يشكل الخصم الاكبر لهذه السلطة ولمنظومتها الثقافية.
نتيجة اخرى وليست اخيرة حول النتائج السلبة للامية تتناول هذه المرة موضوع المرأة. تشير الارقام الى ان نسبة 80% من النساء يقبعن في الامية، مع العلم ان المرأة تشكل اكثر من نصف سكان العالم العربي. مما يعني ان اجيالا تتربى وتنشأ على أيدي امهات يفتقدن التعليم والمعرفة. تتواطأ السياسات الرسمية والخاصة والمؤسسات الدينية والعادات والتقاليد في ابقاء المرأة العربية اسيرة الجهل والامية، ومنع انتقالها الى المشاركة في الحياة العامة، ورفض الاعتراف بحقوقها ومساواتها بالرجل في جميع المجالات. يؤشر وضع المرأة خصوصا في مجال التعليم الى درجة تطور المجتمع او تخلفه في كل مكان من العالم، وهو مقياس اذا ما اخذنا به في العالم العربي فسيشكل فضيحة بكل معنى الكلمة، بالنظر الى الوضع البائس الذي تقيم فيه.  دون انكار حجم التقدم النسبيّ الذي اصاب وضع المرأة في بعض المجتمعات العربية، الا ان سياسة التجهيل والاضطهاد والتمييز ما تزال السياسات المهيمنة، مما يضع على المرأة ومعها النخب الساعية الى تغيير الاوضاع القائمة مهمة عسيرة في تجاوز حجم الموروثات المتخلفة والتقاليد البالية التي ترمي بثقلها لمنع التغيير في الوضع الدوني للمرأة العربية.
“العربي يقرأ ربع صفحة سنويا” ليست مجرد جملة في تقرير اقتصاديّ او اجتماعيّ، انها “رأس جبل الجليد” لعالم عربيّ يزخر بكلّ “مآثر التخلف” الذي لم يوفر مجالا وميدانا من الميادين، في التعليم والثقافة والاقتصاد والعلم والاجتماع.. انها جملة تعبر عن حجم الاعطاب البنيوية للمجتمعات العربية والصعوبات التي تواجهها قوى التغيير التي تدب اليوم دبيبا، وحجم الموروثات التي تعيق مسار التقدم وتمنع العالم العربي من مقاربة الحداثة والتحديث وتجاوز  الاستعصاءات المنتصبة اليوم في كل مجال والمتصدية لاي محاولة تمس مصادر وامكانات هذه المعوقات.
موقع الآوان

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى