صفحات ثقافية

الجائزة الأدبية لغة ومعني ونظاما

null


أمجد ناصر

سأل زاهي وهبي أدونيس في برنامجه التلفزيوني مؤخرا عن الجوائز الأدبية الخاصة في العالم العربي فقال إنها بلا قيمة مستثنيا جائزة سلطان العويس من بين جوائز عربية صارت تتناسل كالنبت الشيطاني من جيوب منتفخة بمالٍ لم يأت من تراكم في التنمية والعمران.

وأظن أن ما قاله أدونيس في خصوص الجوائز التي يطبع مانحوها الأفراد اسماءهم عليها لا يخلو من وجاهة واعتبار. ولكن، قبل الحديث عن الجوائز العربية، دعونا نعود الي أصل الجائزة في اللغة.

جاء في لسان العرب عن الجائزة لغة ومعني أنها:

العطية، وأَصله أَن أَميراً واقَفَ عدوًّا وبينهما نهر فقال: من جازَ هذا النهر فله كذا، فكلَّما جاز منهم واحدٌ أَخذ جائِزَةً. وفي قولهم أَجازَ السلطان فلاناً بجائِزَةٍ: أَصل الجائزَة أَن يعطي الرجلُ الرجلَ ماءً ويُجِيزه ليذهب لوجهه، فيقول الرجل: أَجِزْني ماءً، أَي أَعطني ماءً حتي أَذهب لوجهي وأَجُوز عنك، ثم كثر هذا حتي سَمَّوا العطية جائِزَةً. يقول الأَزهري: الجِيزَة من الماء مقدار ما يجوز به المسافر من مَنْهَلٍ إِلي مَنْهَلٍ، يقال: اسْقِني جِيزة وجائزة وجَوْزة.

وهي في الحديث تعني: الضِّيافَةُ ثلاثة أَيام وجائِزَتُه يوم وليلة وما زاد فهو صدقة، أَي يُضافُ ثلاثَةَ أَيام فَيَتَكَلَّفُ له في اليوم الأَوّل مما اتَّسَعَ له من بِرٍّ وإِلْطاف، ويقدّم له في اليوم الثاني والثالث ما حَضَره ولا يزيد علي عادته، ثم يعطيه ما يَجُوزُ به مسافَةَ يومٍ وليلة، ويسمي الجِيزَةَ، وهي قدر ما يَجُوز به المسافر من مَنْهَل إِلي منهل، فما كان بعد ذلك فهو صدقة ومعروف، إِن شاء فعل، وإِن شاء ترك.

ويقال: أَصل الجَوائِز أَنَّ قَطَنَ بن عبد عَوْف من بني هلال بن عامر بن صَعْصَعَةَ ولَّي فارس لعبد الله بن عامر، فمر به الأَحنف في جيشه غازياً إِلي خُراسان، فوقف لهم علي قَنْطرة فقال: أَجيزُوهم، فجعل يَنْسِبُ الرجل فيعطيه علي قدر حَسَبه!

ہ ہ ہ

هكذا نري أن الجائزة عند العرب، ، لغة ومعني، لم تكن مكافأة مخصوصة بالشعر والأدب والعلم، بقدر ما كانت عملا اجتماعيا يقع، في بعض معناه، في اطار مكارم الأخلاق .

أجمل معني لها، كما ورد في اللسان ، هو: التزود بشربة ماء تعين علي السفر ومواصلة الطريق. إنه أمر يتعلق بالحث علي الرحلة والسعي الي الهدف، وهذا أقرب شيء الي معني الجائزة اليوم التي، إلي كونها مكافأة عن استحقاق أدبي أو علمي، هي، أيضا، تشجيع علي مواصلة هذا الدرب والامعان فيه.

الجائزة الأدبية، عند غيرنا من الأمم، تعني الاعتراف بـ منجز ، ومكافأة هذا المنجز معنويا وماديا من خلال لجان تحكيم ومعايير وأنظمة مرعية. لكن الجائزة – العطية بالمعني الذي أشار اليه اقتباسنا من لسان العرب هي التي تخطر، علي ما يبدو، في بال نفر من الأثرياء العرب الذين التفتوا إليها بعد توافرهم علي مال سريع جاء من إرث عائلي، أو من بورصة واتجار لا يثمران تنمية مستدامة تفيد الناس فرغبوا بـ الصيت والجاه بعد أن انتفخت جيوبهم بالمال. هذا النوع من الجوائز يشبه العطية ولا يقترب مما هو عليه الحال عند أمم أخري أخذنا منها شكل الجائزة وسنَّتها المعاصرتين فيما لم يغادر جوهرها عندنا، للأسف، معني القول العربي القديم: أعطه يا غلام ألف درهم!

الجائزة الأدبية اليوم هي مؤسسة وليست عملا فرديا. ليست مالا من العبِّ أو الجيب. أراد ألفرد نوبل، مخترع الديناميت، أن يكفّر عن خطايا اختراعه بتخصيص جزء من أرباح ديناميته المدمر لأعمال انسانية رفيعة فنشأت جائزته التي نسي الناس أصل أموالها الدموية. صارت الجائزة هي الأعمال التي كافأتها وتراجع ظل مخترع مادة الدمار الأعمي. صارت تعني كل اولئك الأدباء الكبار الذين جعلوا للحياة في هذا العالم الذي يبني لكي يهدم معني وقيمة. لم يكن جيمس مان، الوسيط المالي البريطاني يفكر، قبل مئتي عام بأن مؤسسته ستستمّر كل هذا الوقت وستتبني واحدة من أهم الجوائز الأدبية الغربية الخاصة بالرواية مان بوكر . ورثته هم الذين قدموا هذه الجائزة قبل اربعين عاما. وعندما اقول ورثته اقصد المؤسسة الضخمة التي صارتها اليوم مان غروب . هناك جوائز تعطيها جامعات ودور نشر ومصانع حذت حذو نوبل و ورثة جيمس مان. القاسم المشترك بينها هو تحولها الي مؤسسات لا تتحكم فيها أمزجة ولا اعتبارات شخصية.

ہ ہ ہ

الجوائز الأدبية والعلمية في العالم لا تكاد تحصي، لكن هناك علامات فارقة بينها. فكَّرت مجلة ليتر الالمانية المرموقة بتخصيص جائزة للريبورتاج الأدبي فكانت جائزة يوليسس التي جعلت هذه المادة الصحافية التي يكتبها الصحافيون، أحيانا، بدمهم ومغامرتهم في حقول الموت، ذات خصوصية لم تكن عليها من قبل. بالطبع هناك جائزة بوليتزر الأمريكية التي تغطي حقولا ثقافية متعددة من بينها الريبورتاج الأدبي، لكن اهمية جائزة يوليسس انها مخصوصة بهذا الفن الكتابي الذي لا يقبل المساومة.

من حسن حظي أنني كنت عضوا في لجنة تحكيم جائزة يوليسس للعام 2004 من بين اثني عشر محكما من كل اللغات الحية في العالم: الانكليزية، الاسبانية، الصينية، اليابانية، العربية، الالمانية، الفرنسية، البرتغالية، والروسية. كان علي كل محكم أن يختار ثلاثة كتب للجائزة (لم يترك الأمر للناشرين) وأن يبرر اختياره لها ويبين أهميتها. لكن وصول هذه الكتب للقائمة القصيرة يعتمد، في النهاية، علي التصويت. وهذا نظام معتمد في معظم الجوائز العالمية الكبري. عربيا ما تزال الكولسة هي الطريقة الغالبة لاختيار الفائزين بالجوائز. يكون هناك اسم جاهز لدي مانح الجائزة أو الشخص القائم عليها فيقدمه للجنة التحكيم، أو يتفق أعضاء لجنة التحكيم في ما بينهم علي اسم أو اسمين وينالا الجائزة.

كان لدي رئيس لجنة تحكيم جائزة يوليسس ، في الدورة التي شاركت فيها، كتاب لصحافي فرنسي عن مجزرة راوندا. كان واضحا لنا انه يفضل ذلك الكتاب. دافع، مثلنا، حتي النهاية عن خياره، لكن التصويت، بالنقاط، جعل صحافيين صينيين كتبا كتابا عن اشكالات بيروقراطية تواجه فلاحي مقاطعة صينية يفوزان بالجائزة. قبل رئيس لجنة التحكيم بالخيار الديموقراطي واحتفل، مثلنا، بالفائزين اللذين كادا أن يمنعا من مغادرة الصين لتسلم جائزة رأسمالية !

هناك اليوم جائزة مستحدثة للرواية العربية تحظي بقدر كبير من الجدل الذي بلغ حد السباب والاتهامات هي: بوكر العربية . لن أدخل في ذلك النقاش لأنه، في معظمه، عقيم، وقائم علي اعتبارات غير مقنعة. لن أدخل كذلك في نقاش وهم العالمية الذي يأخذ بتلابيب معظم كتاب الرواية العرب. أن تقرن جائزة الرواية العربية المستحدثة هذه بجائزة عالمية مثل مان بوكر البريطانية، أمر جيد ولكنه لن يجعل الرواية الفائزة بالجائزة رواية عالمية . الرواية العربية تتقدم شكلا ومحتوي ولكنها لم تبلغ، في رأيي، النضج الذي بلغته الرواية الغربية أو اليابانية أو الأمريكية اللاتينية، أو الافريقية المكتوبة بالانكليزية أو الفرنسية. هناك روائيون عرب جيدون، بل ممتازون، لكن الروية العربية، ككل، لم تصل حد تقديم اقتراحات فنية واسلوبية علي المدونة الروائية العالمية. فالاستثناء لا يلغي القاعدة. هذا رأي شخصي. رأي رجل عمل في الحقل الثقافي العربي أكثر من ثلاثين عاما، وقبل ذلك رأي مدمن روايات.

بعيدا إذن عن الجدل العقيم الذي أثارته هذه الجائزة الوليدة، وبعيدا كذلك عن وهم العالمية، يمكن لنا ملاحظة التالي: إنها ليست جائزة فرد، أي ليست هبة أو أعطية، وهي قائمة علي مجلس اداري ولجان تحكيم دورية ذات مشارب وأذواق مختلفة، وأخيرا انها محاولة لاختراق سوق الرواية في الغرب من خلال الترجمة.

لا ينبغي، والحال، أن تُنسف هذه الاعتبارات من خلال الصراع الذي تسرب الي الصحافة والصالونات الأدبية بين بعض أعضاء لجنة التحكيم، خصوصا، لجهة المعيار الذي علي أساسه ستفوز الرواية العتيدة. هناك نظام عالمي معروف وهو التصويت بالنقاط لكل رواية. قد لا يكون هذا الخيار ذا دلالة أدبية بحتة ولكنه خيار ديموقراطي. لم يكن كتاب الصحافيين الصينيين اللذين فازا بجائزة يوليسس هو كتابي المفضل. فقد أحببت كتاب صحافي أمريكي عن برجي مبني التجارة العالمي في نيويورك. كتاب لا سياسة، تقريبا، فيه، لا مطالعة أخلاقية قدمها إلينا الصحافي الأمريكي عن الفعلة الارهابية، ولا إدانة رغم أن الادانة واجبة، كان كتابا يتقصي مصائر أناس اختفوا في الردم العظيم، أشياء حميمية وشخصية تبعثرت، حديداً مكوماً، كتلاً اسمنتية عملاقة اخفت تحتها اناساً ونباتات ورسائل وصوراً وروائح وذكريات. كان ذلك كتابي المفضل ولكنه لم يفز بعملية التصويت الديموقراطية.

القدس العربي

08/03/2008

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى