أرزّ بــــالــلـــبــن لـشـــــخـــصــــيـن” لـرحـــــاب بـســـــام
كـــــتــــابـــة إفــــتــــراضـــــيــة حــســـــاســــة تـــنـــتــــقـــل الـى الـــورق!
قبل نحو ثلاثة أعوام تقريبا كتبتُ في هذه الصفحة موضوعا موسعا عن ظاهرة المدوّنات
(blogs)
الأدبية على نحو خاص، وعن دورها في تغيير مفاهيم الكتابة، أو المعايير الحداثية التي يمكن أن تتضمنها. وبعد قراءة موسعة في عدد من المدوّنات، ومقابلات مع كتّاب من جيل التسعينات وعدد من المدوّنين، أجمع العديد ممن شملهم الموضوع على أن المدوّنات الأدبية لا تتخطى موضع البوح الحميم والخاطرة الأدبية، فبدت كأنها وسائط افتراضية لتجريب الكتابة، مع قراء حميمين، يمكنهم أن يوثّقوا ردود أفعالهم، بالتعقيب المباشر فور نشر المدوّن لما يكتبه.
من بين الذين شملهم الموضوع آنذاك، الكاتبة رحاب بسام التي أنشأت مدوّنة “حواديت” في عام 2004، ولاقت استحسانا ورواجا شديدين بفضل حساسية النصوص التي تكتبها. وبرغم أن الكاتبة كانت، على مدى تلك الفترة، لا ترى في ما تكتبه نصوصا تستحق أن تٌنشر في كتاب، فقد استجابت أخيرا ضغوط العديد من محبّي كتابتها، وأصدرت كتابها الأول “أرزّ باللبن لشخصين” ضمن سلسلة جديدة أنشأتها “دار الشروق” المصرية لنشر الأعمال التي كُتبت كمدوّنات، تشجيعا للكتابة الجديدة.
“أشق أطراف أصابعي شقوقا صغيرة، لعل الكلام ينسال منها ببساطة، لكن البوح يستعصي على التبسيط”، تقول رحاب بسام في واحدة من قصصها القصيرة التي تضمنها الكتاب. وهي جملة تكشف سمة من أهم السمات التي تتميز بها كتابتها، وأعني البساطة الخادعة التي تبدو للوهلة الأولى مجرد وسيلة أدبية لكتابة اليوميات. لكن القارئ سرعان ما يكتشف أنه أمام كاتبة تعي جيدا ما تفعله، وتعرف الحد الفاصل بين الفن وسواه، كما تمتلك فلسفتها الخاصة عن الحياة والأدب. لكنها تجتهد أن تضع حكاياتها في عمق النسيج السردي، كأنها تدسّ قطعة حلوى، وتغلّفها بورق سيلوفان برّاق، مخفية معاناة صنع الحلوى، وهي على يقين أن مجاهدتها مع الكتابة شأن يخصها وحدها ولا يخص القارئ.
لأجل هذه الخصيصة تحشد بسام عددا من الأساليب الفنية، ومنها نبرة طفولية، تعبّر بها عن “براءة” تميّز شخصية بطلتها، التي تبدو للوهلة الأولى كأنها شخصية الكاتبة نفسها، لكنها سرعان ما تكشف عن كونها “الشخصية الفنية” للكاتبة، التي تتلون من نص الى آخر وفق موضوع القصة.
كما أن “البراءة” المبثوثة في أرجاء النص، تكشف أيضا، كما هو شأن الطفولة، لمن يراقب الأطفال جيدا، إمكانات المراوغة والتحايل واللابراءة والشغب، وفي الأساس: اتساع الخيال والتفكير في الأمور بغير منطقها العقلاني، وهذا كله يتجلى سواء في تناول نصوص مستدعاة من جبّ الطفولة الممتلئ بالذكريات والحواديت والمشاعر والاكتشافات الشعورية والوجدانية، أو في ألعاب الكتابة التي تمارسها الكاتبة، وتضع بها قارئها على أطراف المشاعر المتناقضة، من السعادة الى الحزن، أو من الكآبة الى النشوة، أو من اليومي العادي اللامبالي إلى ذروة الخوف.
وهذه من سمات كتابة بسام التي تجيد نقل النص، والقارئ من حالة الى أخرى، بجملة متقنة وشديدة الإحكام.
تتسم النصوص أيضا، بالقدرة على السخرية العميقة، سواء على مستوى خلق حالة كوميدية سوداء، أو مجرد استعراض خفة ظل الراوية، التي يبدو ما تقوله عفويا بما يحقق حالة انفجار كوميدي في مواقف يفترض أن تكون درامية. منها مثلاً، حوار الراوية مع القط في قصة “مرسي اتهزم يا رجالة”، أو الحوار بين الراوية وصديقتيها وهنّ يؤدين واجب العزاء في قصة “طق حنك”، وفي غيرها.
صحيح أن نبرة الكتاب إجمالا تبدو أقرب الى صوت يميل الى الهمس أكثر من الصراخ، والاهتمام بالتفاصيل اليومية الصغيرة جدا أكثر بكثير من القضايا الكبرى، لكن الكاتبة تنجح في استخدام هذه النبرة في صوغ نقد سياسي لاذع، كأنها تلقي مزحة، بينما هي في الحقيقة، تسخر من الوضع السياسي والصحافة الرسمية، وتكشف المساحة الشاسعة التي تفصل بين هذه المنابر وبين المواطن العادي في قصة “عناوين الصحف”، أو الإشارة الى شيوع الانتهازية في “كيف يبايعون الرئيس في شارعي“.
تعبّر قصص هذا الكتاب في مجملها عن فئة من مجتمع الطبقة الوسطى؛ تعيش بين ثقافتين، وتنشأ في بيت يتحيز للثقافة والفنون، وتنهل ثقافتها من مصادر الثقافة الأجنبية منذ الطفولة حتى اللحظة الراهنة. كما تعبّر عن حياة هذه الفئة في إيقاع العصر السريع، اللاهث، واتخاذها مهناً عصرية، تكشف معاناتها التي تتخذ شكلا سيكولوجيا تتجلى في الاكتئاب والشعور بالعزلة أو الوحدة، وهي ربما نتائج صراع الأفراد الذين يمثّلون هذه الطبقة الاجتماعية مع أنفسهم لاكتشاف هوياتهم في عصر يمور بالتناقضات.
كما تعبّر عن جيل جديد يتحدث لغة خاصة، ويرى الأشياء بشكل مختلف، ويتأمل كل ما حوله من أشياء وألوان وأحلام، ويتفاعل معها بطريقته الخاصة جدا، وإن تكن تختلف كثيرا عن مجايلين للكاتبة لهم طرقهم الخاصة في التعبير أيضا، لكن ليس بالطريقة الرومنطيقية التي تميل إليها رحاب بسام. فأولئك هم أكثر استخداما لكلمات جريئة، ومبتذلة أحيانا، وتنتمي الى رجل الشارع أكثر مما تنتمي الى لغة المثقفين، أو تحمل دلالات تمرد كامنة.
لكنهم، بشكل أو بآخر، يعبّرون عن فئة من المثقفين الشباب يحاولون التخلص من ازدواجية الطبقى الوسطى البورجوازية على نحو ما.
تختلف النصوص التي تنتجها بسام عن كتابات أولئك المدوّنين والكتّاب؛ إذ تبدو كتابتها بالنسبة إليهم حالمة ورومنطيقية. نصوص تصل الى البيوت بلا حاجة الى رقابة من أي نوع! لكنها، أيضا كتابة مشغولة بأسئلة عن فعل الكتابة ذاته، وعن مخاوف الكاتب، بل ورعبه أحيانا من اللون الأبيض؛ لون الأوراق الشاغرة، وعن علاقة الفصحى بالعامية، وعن شكل الكلمات وعلاقتها بمعناها، وفي الأساس، عن مجاهدة الكاتب مع نصه، ومحاولة خلق علاقة جديدة بين الكلمات.
أعتقد أن خروج هذا الكتاب الى النور كان ضروريا على أكثر من مستوى، أولها انتقال النص من مكانه الافتراضي الحميم بين قرّاء مشجعين متحمسين، لديهم ذوقهم الخاص، إلى قرّاء مختلفين من المهتمين بقراءة الأدب، ومن أنصار الكتاب الورقي، ومتعة قراءته، وإلى نقّاد الأدب، بما يمكّن الكاتبة من مواجهة أسئلة مختلفة على مستوى مضمون النص وعالمه، وعلى مستوى الأطروحات الجمالية التي يمكن أن يتضمنها، وإيجاد علاقة بين هذه النصوص وتيار الأدب المعاصر.
ولا جدال أن كتابة رحاب بسام تمثل امتدادا للنصوص المعاصرة، من حيث أنها في غالبيتها نصوص ذاتية، مغلقة على الشخصي، وعلى التفاصيل، نافرة من الإيديولوجي، الخطابي، باحثة عن شخصيتها الفردية، وأسئلتها الجمالية. كما أنها تنتمي الى النصوص المعاصرة من حيث الافتقار الى الخيال اللازم لخلق عوالم كبيرة (الخيال المتضمن في السرد لدى بسام أقرب الى محاكاة الخيال الطفولي) بحكم التصاقها بالذات، كما تفتقر الى المغامرة الإبداعية التي عادةً ما تبحث عن العميق البعيد المتناول، والمختلف وغير المطروق أو المسكوت عنه، كما شأن الأدب الكبير كله على مدى تاريخه.
أخيرا، يضع هذا الكتاب ظاهرة المدوّنات في بؤرة الضوء، ويكشف عن إمكان المدوّنات في تخليق الدعاية والتسويق من خلال جمهورها الذي يتحول ليصبح جمهورا للكتاب، وهو ما حدث بالفعل، إذ أن كتاب بسام مع مدوّنتين أخريين هما غادة عبد العال وغادة محمد قد نفدت طبعة كتبهن الأولى في غضون شهرين، بفضل الدعاية المسبقة التي صنعتها كل منهن في مدوّنتها، بما يحقق حالة شبيهة باستراتيجيا ترويج الكتاب في الغرب حيث يسوّق له ناشره قبل نشره، أي أنه يبيعه قبل أن يخرج من المطبعة، وهي ظاهرة إيجابية من حيث إنعاش سوق الكتاب العربي، لكنها قد تكرّس أيضا حالة سلبية يتبناها الكثير من الناشرين الآن وهي الحكم على القيمة بمنطق “الأكثر مبيعا”، مما قد يضع أسئلة الكتابة الجادة والتجريبية كلها في مأزق إشكالي، في ظل غياب النقد المفزع الذي أخلى الساحة لكل من شاء.
كتاب رحاب بسام يكشف عن ولادة كاتبة لافتة، موهوبة، قادرة على التأثير على مشاعر قرائها، كما يكشف عن ذكائها في طرح أسئلتها حول كيفية الانتقال بنصوصها إلى آفاق خلاّقة أكثر رحابة، وأظنها قادرة على ذلك، وزيادة.
إبراهيم فرغلي