حين كتب سهيل إدريس عن زمن الأحلام الكبيرة
فيصل دراج
رأى ساطع الحصري في الفكرة القومية العربية الحديثة بطلاً نوعياً قادراً على الانتقال، في فترة زمنية سريعة، من حالة الكمون إلى حالة اليقظة? كما لو كانت «الروح القومية»، الحاضرة أبداً، لا تحتاج إلى ولادة وتكوّن، وما على «العربي الصادق» إلاّ أن يوقظها، كي تستوي فاعلة منتصرة.
أعطى الراحل د. سهيل إدريس، في روايته «الحي اللاتيني» فكرة الحصري ترجمة روائية، مجسّداً الفكرة في بطل نوعي تضمن له صفاته الذاتية النجاح والانتصار. يقول بطل الرواية في قسمها الأول: «نحن الشباب العرب، ضائعون يفتشون عن ذواتهم بأنفسهم. ولا بد أن نرتكب كثيراً من الحماقات قبل أن نجد أنفسنا. ص: 87». تؤكّد الرواية بداهتين: بداهة السلب الذي يسبق الإيجاب، وبداهة الانتصار الذي يتلوه انتصار آخر. وإذا كان الحصري قد رأى الحماقة العارضة في نزوعات قطرية يغذّيها الاستعمار، فقد عاين إدريس الحماقة في خلل أخلاقي يعتري الشباب العرب ويغادرهم سريعاً. لن تكون باريس، التي أدار الروائي فيها حديثة، إلاّ مكاناً خارجياً، يبرهن العربي فيه عن جدارته الذاتية، وعن قدرته على حوار الغرب وتجاوزه. تحوّل البداهة، في شكليها، التجربة إلى أمر نافل، لأنّ خصائص البطل النوعي تجعله منتصراً، قبل الذهاب إلى التجربة وبعدها. ولهذا يأتي انتصاره كاملاً على المستوى الأخلاقي والقيمي والمعرفي في آن.
يستهل د. إدريس روايته بالسطور التالية: «لا، ما أنت بالحالم،… أوَ مَا تشعر باهتزاز الباخرة… متجهة صوب تلك المدينة التي ما فتئت تمر في خيالك، خيالاً غامضاً كأنّه المستحيل؟». وتنتهي قائلة: «لا ، ما أنت بالحالم،… أوَ مَا تشعر باهتزاز الباخرة… متجهة صوب بلادك؟». تستهل الرواية بحلم كأنّه المستحيل، وتنتهي بحلم تحقق، يتيح للحالم، الذي حقق المستحيل، أن يترجم انتصاره بلغة غنائية مغتبطة تأخذ الرحلة، التي اتخذت من السفينة أداة لها، معنى مزدوجاً: رحلة مكانية بين بيروت وباريس تصاحب البحر وأمواجه، ورحلة في إمكانيات الذات المسافرة، التي تضع طموح اليوم في راحة الغد، وتروّض الغد وتسيطر عليه. ولعلّ الانتصار المتحقق قبل تحقّقه هو ما يساوي بين بداية الرواية ونهايتها، وهل ما يضع فيهما تلك اللغة الغنائية المطمئنة، التي تحوّل المستقبل حاضراً والحاضر مستقبلاً.
قسّم الروائي عمله إلى ثلاثة أقسام: قسم أول يصف وصول اللبناني الحالم إلى «مدينة النور»، واختلافه إلى أماكن المعرفة والثقافة واللهو، مرتكباً خطأ لحظة ومصوّباً الخطأ بعد حين. إنّه الضائع الذي يفتّش عن ذاته، الذي لا تمنع عنه نباهته حماقات محتملة. يصف القسم الثاني وصول الغريب إلى قلب الاختبار، إذ يكتمل البحث عن المعرفة بعناق الأنثى الفرنسية الشقراء الشعر الجميلة المحيّا، ويكتمل الأمرين باستيقاظ هادئ للوعي القومي، كما لو كان في المكان الباريسي ما يوقظ الهوية القومية، ويمسح عنها آثار الغبار والنعاس. أما القسم الثالث فيعلن عن استقرار الصواب في المكان الصائب، فالتلميذ النجيب أنهى دراسته وحدّد أهدافه وعرف مستقبله، واستقل الباخرة عائداً إلى بلاده. أخبرت الرحلة، في أطوارها الثلاثة، عن ذات عيّنت مرجعها الداخلي هادياً لها، وتحرّرت من العوائق الخارجية.
كشفت الرحلة، في مستوياتها المتعددة، عن أبعاد ثلاثة أساسية: أولّها تحقق الأنا معرفياً، فما تطلّع إليه الشاب الطموح أنجزه، وما كان يبدو مستحيلاً استقر في قبضة يده. وثانيها تكامل الذات القومية، خلقاً ومعرفة وثقافة ووضوح بصيرة، فقد تعرّف الشاب القومي على غيره من الشبّان العرب القوميين، وتقاسم معهم هدفين: توطيد الرابطة القومية التي تعكس، بعد تحقّقها، حقيقة الذات العربية، وتوسيع حدود الوطن، لأنّ توحّد العرب يصنع وطناً واسعاً لا يهاب شيئاً. يقول الراوي متحدّثاً عن اغتراب العربي عن جوهره: «كل ما في الأمر أنّ الخيوط بين الشبان العرب مقطّعة، إنّ الرابطة مفقودة. وإنّهم لواجدون أنفسهم، متى وجدوا هذه الرابطة. ويومذاك فقط…، لن يتجنّبهم أحد، لأنّه سيكون لرسالتهم قوّة جاذبة تكوي بنار المحبة والاحترام كل من ينظر إليهم…». يتجاوز العربي اغترابه برابطة موحّدة، وتتكشّف الحقيقة القومية في رسالة يتساكن فيها الحب والنار. ليس غموض «المحبة الكاوية» إلاّ من غموض كلمات مجاورة: «كلّ ما في الأمر أن…»، التي تربط بين قضية جليلة (الرابطة القومية) وجهد بسيط ميسور، كما لو كان الاعتراف بالشيء يعني تحققه، وكذلك حال: «لرسالتهم قوّة جاذبة»، التي توكل إلى العرب، الذين لم يحققوا بعد رابطتهم القومية، رسالة ينتظرها الآخرون. ساوى الشاب اللبناني، الذي كان مسكوناً برومانسية قومية جامحة، بين نجاحه الفردي ونجاح القضية القومية التي يؤمن بها، مترجماً بلغة عربية لا شوائب فيها، ما آمن به من ساطع الحصري واطمأن إليه.
يتجلّى البعد الثالث في علاقة الشرق بالغرب، أو في صورة الغرب لدى الفتى الشرقي، الذي اختبر ذاته في الغرب وعاد منتصراً. فقد «هرب» الفتى من عادات شرقية تمنع ولادة الذات الحرّة، وتقيم بين الذكر والأنثى جداراً سميكاً، على خلاف مجتمع فرنسي، حرّر الأفراد والعقول والأجساد. لذا يفضي الحديث، عادة، عن «الحي اللاتيني»، إلى الحديث عن «ذكورة الشرق وأنوثة الغرب»، إذ لكل عربي فتاة باريسية يتمتّع بها، وإذ سرير العربي لا يستقبل فرنسية إلاّ ليودّع أخرى. مع ذلك، فإنّ معنى الرواية يتأسّس على «الرسالة العربية الجاذبة»، التي تعيد تعريف الشرق والغرب معاً. فلا معنى للرسالة إلاّ بدورها في تخليق شرق عربي جديد، ولا معنى للرسول الشرقي إلاّ بتمايزه عن غرب لا ينتمي إليه. عبّرت الرواية عن دلالة الرسالة والرسول بشكلين: التعارض الشديد بين مساريّ الفتى الشرقي وصاحبته الفرنسية، فالأول تطوّر صعوداً متجاوزاً أزماته المختلفة، بينما تراجعت الثانية منتهية إلى الضياع والرذيلة. تمثّل الشكل الثاني بضرورة انفصال الطرفين، فالفتى له رسالة لا تعي الأنثى الفرنسية منها شيئاً، وفي الرسالة من القيم والمعايير ما يشجب وجوهاً من ثقافة المجتمع الفرنسي. وهذه الرسالة، التي ترى العروبة في فتى عربي لن يخذلها، هي التي وضعت في الرواية «ميلودراما» غير منتظرة، تأمر بانفصال الشرق عن الغرب وتبرّره، أي بانفصال الشاب العربي عن صديقته الفرنسية.
جيل القدر
مثّل الروائي الشاب، آنذاك، عروبته بمفرد نوعي منتصر، أو بـ«المخلّص الفريد»، كما تشي سطور الرواية، الذي يترجم إرادة «جيل القدر»، بلغة قال بها، ذات مرّة، مثقفون عروبيون في لحظة نشوة آسرة. ولعلّ تلك الإيمانية، البريئة والنبيلة معاً، هي التي همّشت معنى السببية الاجتماعية، على مستوى المنظور، وأملت، فنياً، «الميلودراما»، هذا الشكل الأدبي الذي يقرّر الموت والانبعاث، دون أن يعبأ بأسبابهما المادية. وواقع الأمر أنّ الشاب إدريس، الذي نظر إلى الموج وقال لنفسه «غداً تبدأ الحياة»، آمن بفكرة التعلّم والتجاوز، إذ العربي المتطلّع إلى باريس يلمّ بلباب الثقافة الفرنسية، ويعرض عن المبتذل والمنحط، مؤمناً بثقافة جديدة متوازنة، تحتضن علم الغرب ورسالة العروبة. ولهذا تبدأ الرحلة من بيروت اللبنانية، محدّثة عن شاب قلق تقوده أسرة تقليدية، وتنتهي ببيروت عربية، حيث الشاب العائد يحتضن أصدقاءه العرب، قبل أن يلتفت إلى أمّه، التي كانت تملي عليه إرادتها، ذات مرّة.
أعلنت الباخرة الأولى، في مستهل الرواية، عن بداية الحكاية، وأخبرت الباخرة الثانية، في ختام الرواية، عن حكاية سعيدة النهاية، وأنبأت الباخرة الثانية، التي تتوسّط الرحلتين، عن وجوه الاختبار، التي تحمل الفتى المتمرّد من زمن النقص واللواذ إلى زمن الكمال والمواجهة. تحوّل الحكاية السعيدة النهاية العلاقات جميعها إلى مواضيع وإشارات في آن: الجامعة الفرنسية موقع للتعلّم والظفر بالمعرفة ومكان يبرهن عن جدارة العربي ولمعانه، والأنثى الفرنسية جسد جميل وبشرة صافية ومناسبة تشهد على قوّة العربي وصلابته، فقد تعرّف على الأنثى وروّضها وأصبح سيداً عليها ثم انفصل عنها، وغرفة الفندق حيّز للسكن والقراءة والحريّة وبداية لغرفة لبنانية لاحقة، تجمع بين الاستقرار والمعرفة والحرية… تصدر دلالة الأمكنة عن صفات الشاب العربي الذي يمرّ بها، دون أن تصدر صفاته عنها، لأنّ نهاية حكايته مكتوبة في بدايتها.
الحي اللاتيني
تتوالد الأمكنة والأزمنة والشخصيات، في «الحي اللاتيني»، من وجهة نظر الحكاية المنتصرة، وتولد وجهة النظر الحكائية من وجهة نظر «الرسالة القومية» المرغوبة، التي توحّد بين القائم وما يجب قيامه. ولعلّ توحيد البداية بالنهاية، بما يلغي الزمن الفاصل بينهما، هو ما يجعل من سهيل إدريس صورة أخرى عن بطل الفلسطيني جبرا إبراهيم جبرا في «صيادون في شارع ضيّق»، حيث انتصار الفلسطيني قائم في ذاته، دون النظر إلى العدو وإمكانياته. تدور الرغبة الحكائية حول مستقبل عربي نوعي، يحاور أزمنة المجتمعات الأخرى ويقف فوقها. لذا تبدو بيروت، في مستهل الرواية، حاضراً مشدوداً إلى الماضي، وتظهر باريس مستقبلاً مشرقاً، قبل أن يحقق «البطل العروبي» ذاته، مستبدلاً بالزمن الباريسي مستقبلاً عربياً خالصاً، ضمان تحقّقه ذات عربية متوازنة، تجمع بين ثقافة الغرب وأصالة الشرق. ولعلّ هذا المستقبل، الخالص في عروبته، هو الذي يجعل الشبان العرب، في الرواية، يعاشرون الفرنسيات الجميلات، ويرفضون الاقتران بهنَّ. يتكشّف في هذا المستقبل معنى «الرسالة الجاذبة»، التي يتعانق فيها العشق والنار، بلغة معينة، أو التي تعلن أنّ «القومية العربية محبة»، بلغة زمن منقض.
لا ينفصل ضبط الأزمنة عن ذات عروبية، توائم بين النظر والممارسة، وبين متطلبات الحاضر ورسالة المستقبل. صاغ الروائي الذات المنشودة بشكلين: شكل أول محوره الشخصية الرئيسية، التي عاشت رحلة الاختبار أو اختبار الرحلة، وشخصية ثانية توطّد معنى الأولى وتزيدها وضوحاً، عنوانها : «القرين»، الذي هو «ذات البطل الثانية»، التي تنتمي إلى الأقطار العربية جميعاً، وتقاسم البطل فضائله المتعددة.
تفصح الرواية، بشكل واضح، عن قضيتين: قضية التقدّم المتصاعد، الذي لا سبيل إلى دحره أو إيقافه. فقد اصطدم التلميذ النجيب بعوائق وروّضها، مخبراً أنّ جوهره الإيجابي من جوهر عروبته، وأنّ حكايته الفردية من حكاية ذات قومية جماعية. أما القضية الثانية فماثلة في خطاب قومي نظري له شكل حكائي، ذلك أنّ الرواية تحدّثت، في زمنها الخطي المستقيم، عن السلب الموروث من الماضي، وعن صراع «الطليعة الفكرية ـ السياسية» مع العوائق الداخلية والخارجية معاً، وصولاً إلى ما ينبغي الوصول إليه من نجاح أكيد. لن يكون مسار الفتى المتمرّد، المنتقل من الحلم إلى تحقيقه، إلاّ مسار الخطاب القومي، القائل بالسبات والانبعاث. يستطيع القارئ، والحال هذه، أن يقارن بين قول رواية إدريس وأقوال المربي القومي النزيه ساطع الحصري، ذلك أنّ الطرفين يأخذان بأزمنة ثلاثة: التمرّد على القائم، العمل على توليد مستقبل جديد، التبشير اليقيني بمستقبل لامع، لا يكذّب المبشّر به، ينقل العرب والبشرية إلى طور جديد. أعطى الحصري «نظريته القومية» شكلاً حكائياً، وحوّل إدريس حكايته الباريسية إلى «نظرية قومية». توازع الطرفان منهجاً متفائلاً، واعتبر التفاؤل مرجع النظرية والرواية في آن، وتقاسما أحلام الثقافة النبيلة، التي ترى ما ترى، قبل أن يلقي الواقع في وجهها رعباً غير متوقع.
أعاد سهيل إدريس، في «الحي اللاتيني» تأسيس الرواية اللبنانية، وفتح الرواية العربية على «ثنائية الشرق والغرب»، وحاور الثقافة الأوروبية وطالب بقراءة نقدية لها. وضع كل ذلك في لغة رائقة لا شوائب فيها. لكنّه كان، قبل هذا كلّه، صورة عن سياق واعد مضى، أراد أن يكون فيه رائداً غير مكترث، كغيره من الحالمين، بمكر التاريخ وظلمه الذي لا يحتمل.
(عمان)