إشكالية البحث عن هوية
حنا عبود
تكمن إشكالية الهوية في محاولة الحصول على صفات ثابتة من شيء متغيّر. فلا توجد هوية ثابتة إلا في الجوهر، من الحجر إلى البشر. فالحجر نفسه يخضع لعوامل الجو باستمرار، ففي كل دقيقة نحن أمام حجر جديد. إلا أن الجوهر الوحيد الباقي هو صفات الحجر فقط، أما الحجم واللون والملمس.. فكلها خاضعة للتغيّر. وإذا كان الحجر على هذا النحو فما بالك بالإنسان! هنا تكمن إشكالية تحديد الهوية، إنها إشكالية تثبيت المتغيّر. وكلما ازداد التغيّر تعقدت الإشكالية، على عكس الجوهر المشترك بين النوع.
إن الهوية التي نجدها في المنطق ليست سوى أداة للفكر حتى لا ينحرف عن معالجة الموضوع الذي بين يديه. فالهوية تعني أن الشيء لا يمكن أن يكون هو ذاته، وفي الوقت نفسه يعامل بصفات أخرى لا تنطبق عليه. إنها أداة تجعل الفكر يحرص على التمييز بين الصفات الجوهرية الأساسية فقط، صفات النوع الشامل، وليس الفرد.
لو تعمقنا في الهوية لوجدنا أنها أقرب إلى الجمادات، في حين يصعب تحديدها في التجمعات البشرية، نظراً للتغير الذي يصيب هذه التجمعات. إن أرسطو نفسه عندما تحدث عن الإنسان حدد هويته بالنوع، ولم يحصر بحثه في الإنسان اليوناني. ولكن عندما تحدث في السياسة طرح المشكلة التي يعاني منها المواطن اليوناني، بمعنى أن هوية اليوناني لم تكن لتختلف، من حيث الأساس، عن هوية أي إنسان، إلا من الناحية السياسية. فعندما درس الأشكال السياسية وجد أن اليوناني ينزع إلى الحرية، بينما بقية الشعوب من البرابرة ينزعون إلى الاستكانة، ومن هنا أطلق حكمه في الاستبداد الشرقي، الحكم الذي لايزال مطروحاً للنقاش حتى يومنا هذا، والذي جعله البعض هوية لكل الشرقيين، تتحكم في تصرفاتهم وأعمالهم وتحدّ من أي نزوع نحو الحرية.
واستغل هيغل هذا الحكم في نظرته التاريخية، حتى أنه رأى أن الصين لم تتغيّر طيلة آلاف السنين، ولن تتغيّر، في حين رأى بروسيا تحقق معرفة العقل المطلق لذاته، كنموذج للدولة المثالية، دولة الحرية، التي عندها ينتهي التاريخ. ولا نظن أن أرسطو يسمح بمثل هذه القفزة الاستنتاجية، ولا نظنه يسمح بحكم أبدي على الشعوب، وإلا لما نصح تلميذه الإسكندر بغزو الشرق حاملاً معه ثقافة الغرب، حتى يضمن عدم غزو الشرق لليونان. فأرسطو كان يؤمن بقدرة البشر على التغيّر. ولذلك حدد الهوية بأنها الشيء ذاته، وليس أي شيء آخر، لتستخدم كأداة منطقية في البحث فقط.
هل التصوّر الذي نملكه عن الغرب اليوم واحد عند الجميع؟ وهل هذا التصوّر هو هوية الغرب الثابتة، أو التي كانت له منذ مئات أو آلاف السنين؟
مرّ المجتمع الغربي في كثير من التطورات والانقلابات، ففي ظل روما كانت هوية الغرب هي الإخلاص لروما أو القيصر قلباً وفكراً وعملاً. المواطن هو من يخدم روما. أما البقية فهم رعايا (أهل ذمة) لهم حقوقهم الخاصة التي لا ترقى إلى الحقوق الرومانية. وعندما ينال الفرد الجنسية الرومانية، يحصل على حقوق الروماني، كما جرى مع بولس الرسول. فهوية الروماني: الإخلاص والولاء.
الغرب والهوية
لكن هذه الهوية تغيّرت بدخول دين شرقي هو المسيحية، فلم يعد الإخلاص لروما جوهر الهوية. صار الإخلاص ليس لروما ولا لقيصرها، بل للكنيسة ولمسيحها. إنها ثورة قلبت المفاهيم القديمة، وأخذت الهوية القديمة (الوثنية) تتصارع مع الهوية الجديدة (المسيحية) التي دمرت روما العظيمة. فمنذ قسطنطين بدا الصراع واضحاً، ومرت فترة غير طويلة نسبياً انتهت بانتصار المسيح على القيصر، وصارت هوية الغرب بعيدة عن الإخلاص لروما والقيصر. فكيف نميّز الهوية الحقيقية من الهوية الزائفة؟
لو كانت هوية الغرب المسيحية حقيقية لما بذل كل هذا الجهد للخلاص منها. بذل الغرب أكثر من ألف عام في نضال ضارٍ للخلاص من هذه الهوية (المسيحية) والعودة إلى الهوية القديمة (الوثنية). فاليوم لا يوجد في أوروبا أي شيء من آثار الهوية المسيحية التي سادت طيلة العصور الوسطى والتي اشتهرت بمحاكم تفتيشها وحروبها الدينية، ومنها الحروب الصليبية، باستثناء البقايا التي تدل على هذه الحقبة التاريخية. إن أوروبا هي ابنة الثقافة الوثنية التي صاغها اليونان وسعى الرومان، دون فلاح، أن يكونوا تلامذتها النجباء. فلو نظرنا اليوم في هوية الغرب لوجدنا أنها منذ النهضة الأوروبية هي الهوية اليونانية الرومانية، على الرغم من كل تلك الأحقاب التي عاشتها أوروبا في ظل هوية مفروضة عليها. فنحن لا نستطيع أن ننحّي الصراع بين هويتين عن الصراع بين أيديولوجيتين، إذا أخذنا الأيديولوجية بمعنى المنظومة الفكرية، بعيداً عن العقائد الخاصة.
يمكن اختصار الهويتين السابقتين بالهوية الدينية والهوية المدنية، أي منظومة الفكر الديني ومنظومة الفكر المدني. ترى كم دفعت أوروبا ثمناً للخلاص من الهوية الدينية؟ ولا نقصد بالثمن فقط الأرواح التي أزهقها الفكر الديني منذ عصر القديس أوغسطين (الذي شرع “الحرب العادلة” ورأى أن قتل أي وثني هو الطريق الوحيد للخلاص) بل نقصد أيضاً الجهد المهدور طيلة تلك الفترة، التي سميت “عصر الظلام”. ترى هل الخلاص من هوية يُظن أنها زائفة يكلف دائماً مثل هذا الثمن؟ ولكن من قال إن الهوية الجديدة ملائمة لعصرنا، ولا ننقلب عليها ونجعلها هوية زائفة، ثم نسعى إلى استبدالها بهوية نزعم أنها حقيقية؟ وهل الهوية التي انقضى عهدها تموت أم تنهض من القبر مرة أخرى مثل أليعازر؟
إن الحرب في أفغانستان ضد السوفييت ليست سوى حرب بين هويتين. فالهوية القديمة عادت وانبعثت من جديد، واستخدمت من قبل الغرب للقضاء على النفوذ السوفييتي. فما كنا نظنه من نتاج العصور الوسطى عاد يعمل بقوة أعظم بكثير مما كان في العصور الوسطى. لقد ترك الغرب كل شيء، ترك عصر النهضة وعصر العقل وعصر الأنوار وعصر المنظومات الفكرية في القرن التاسع عشر، وعاد إلى عقيدة من العصور الوسطى ليقضي على خصمه الجبار، وقد أفلح. وفي أوروبا استخدم العقيدة المسيحية للخلاص من الأنظمة الحليفة للسوفييت، كما استخدم العقيدة الإسلامية للخلاص من الذراع السوفييتية الطويلة، فنجح في الجبهتين، وانهار خصمه في كل من القارتين.
بحث الغرب بعد النجاح الذي أحرزه في طرد السوفييت من أفغانستان، وقد رأى الأمور تتجه في غير ما يشتهي، فهذه الهوية الدينية ذاتها انقلبت عليه، فكان لا بد من اختراع هوية جديدة في وجه الهوية السابقة، فطرح “الديمقراطية” وصارت الدول عنده تنقسم إلى ديمقراطية وغير ديمقراطية. بلى! هذه هي الهوية الجديدة التي رأى الغرب أنها تخدمه. ولا ندري أين كانت هذه الهوية طيلة الفترة السابقة، بعد أن استولى الطالبان على أفغانستان، وفرضوا على الشعب الهوية التي كان الغرب قد استخدمها، بل سمى الرئيس الأميركي المجاهدين وقتها “ملائكة السماء”؟
هوية الشرق
يبدو أن الغرب هو المتحكم في كل شيء تقريباً، حتى تصنيع الهويات. وقد كان ماهراً عندما سعى العرب إلى طرح “القومية العربية” كهوية للعرب، ينطلقون منها في مواجهة السياسة العالمية. شجع الحركات العسكرية والانقلابات، مما أجهز على مؤسسات الدولة. صارت الدول الشرقية عبارة عن دول شعارات فقط، بعد التجويف الداخلي الذي ابتليت به، وصارت شبه مشلولة، عاجزة عن وضع سناريوهات مستقبلية ولو لخمس سنوات.
هذا التجويف الداخلي هيأ للغرب الإمساك بزمام الأمور. فهو الذي يحدد الاتجاه وهو الذي يحدد العدو، وهو الذي يحدد الهوية، وهو الذي يقدم أو لا يقدم المعونات، وهو الذي يجعل هذه الدولة صديقة أو عدوة. فبين يوم وآخر تتغيّر الظروف في باكستان، ويعود من كان منفياً مداناً، ويقتل من يقتل، وتتحول الدولة إلى دولة مريبة تحتاج إلى مراقبة واهتمام.. ومساعدة!
ومما يزيد من قدرة الغرب تلك الهيمنة التي يفرضها على المنظمة العالمية بحيث تعمل وفق توصياته، إن لم نقل وفق أوامره. فمنذ عام 2001 وحتى اليوم لم ينه الحلف الأطلسي وقوات الأمم المتحدة الحرب في أفغانستان. طيلة هذه السنين والقوات المسكينة تتألم هناك غير قادرة أن تنهي الحرب على ما تسميه “مجموعة من الإرهابيين” ألا يثير ذلك شكاً في النفوس، بأن الغرض ليس الحرب بل البقاء في حالة استنفار، للانقضاض على الدول المجاورة، أو التحكم فيها أو تسهيل التحكم فيها؟
ومنذ 2003 لم تنه أميركا ودول التحالف الحرب على “مجموعة الإرهابيين” في العراق، بعد أن صمتت نهائياً عن “أسلحة الدمار الشامل”. إن تدمير العراق كدولة، يشير إلى أن الوجود الأميركي في أفغانستان ليس من أجل إنهاء الحرب، بل من أجل البقاء المدة الكافية لضمان التحكم بكل تلك الدول، وإدارة الأمور عن كثب، والتدخل السريع لدى ظهور أي خطر مهدد. والهوية التي تستخدم اليوم هي “الديمقراطية” في كثير من الساحات، ولكنها غير مستخدمة في الشيشان، فهناك يجري تشجيع الهوية الدينية لمصالح غير خافية على أحد، فالسعي حثيث لمنع روسيا من الوصول إلى المياه الدافئة.
والمتوقع أن تستخدم الهوية الدينية في أميركا اللاتينية، بعد أن تعلمت القوى اليسارية كيف تتعامل مع الديمقراطية الغربية، وتستخدمها استخداماً متقناً. إن الديمقراطية في تلك البلدان لم تعد هوية مجدية، وليس هناك هوية أخرى تستخدمها سوى الهوية الدينية. إنها لا تستطيع استخدام الهوية العرقية فتحرض سكان البلاد الأصليين على الانقضاض على السلطة، لأنهم أقرب إلى حالة الانقراض، ولأنهم أيضاً منخرطون في التيارات اليسارية التي تقاوم الهيمنة الأميركية الشمالية.
إن الكثير من دول أميركا الجنوبية اليوم تتبع نهجاً ديمقراطياً، ولكنه معاد لأميركا كل المعاداة، ولا يرون في نهجها سوى “الطريق إلى الجحيم”. ولا نظن أن أمام أميركا الشمالية سوى طريقتين للخلاص من هذه “الديمقراطية” غير الأميركية، إما الانقلابات العسكرية، أو اللجوء إلى الهوية الدينية. سوف تستخدم الطريقة الأسرع والأقل كلفة، بحسب أوضاع كل دولة على حدة.
فأميركا الجنوبية وأفريقيا وآسيا سواء بسواء، كلهم شرق، أي ظروفهم قابلة لاستخدام الهوية التي تريدها أميركا الشمالية والغرب من أجل إحداث التغيير لضمان أكبر قدر من المصالح، لأطول مدة ممكنة.
صناعة الهوية واستخدامها الهوية إنتاج، مثل أي إنتاج، يمكن تصنيعه بالعمل المشترك بين فئات الشعب، وفق المصالح الوطنية، اعتماداً على باراديغما علماني مدروس. وبمقدار ما تسرع الدول الشرقية إلى صناعة الهوية، آخذة بكل الأساليب والوسائل الحديثة، تجد نفسها أقدر على الوقوف والسير، وإلا بقيت أسيرة الهويات المصنّعة في الخارج، مثل الصناعات الأخرى، وسوف تدفع ثمناً باهظاً من جراء ذلك.
يمكن انطلاقاً من هذا الباراديغما التخطيط لبرامج تعليمية حديثة، وخلق مجتمع مدني قوي جداً، يستطيع أن يقف في وجه كل الهزات التي تصيب البلاد. أي دولة شرقية تتعرض للغزو سوف تنهار إن لم يكن عندها مجتمع مدني متماسك، يشمل كل نواحي الحياة، وإن لم يكن لديها مؤسسات دولة لها قوانينها الناظمة (والصارمة أيضاً) ولها نظام رقابة حقيقي. وقبل تأمين هذه المقومات (والكثير غيرها أيضاً) لا يمكن الحديث عن “الهوية” مهما بالغ الخطباء في تقريظ الهوية التي يتصورون أنها الهوية الحقيقية. كلام المسيح جميل وعظيم، ولكنه لا يبني مؤسسة ولا يشيد دولة. فمهما كان الكلام رائعاً وعظيماً، فإنه لا يصلح أن يبنى عليه. قد يكون صالحاً لتدريس الخطابة، لأنه هناك أسس ملموسة ومعلومة، تنطلق من باراديغما يستوعب كل التطورات، ويستمر فترة طويلة قبل أن يعدل أن يتغيّر.
والخلاصة أنه من دون مجتمع مدني لا يمكن قيام هوية حقيقية.
ومن دون قيام مؤسسات على أساس باراديغما حديث لا يمكن قيام هوية حقيقية. ومن دون مناهج تعليم حديثة مدنية لا يمكن الحديث عن هوية حقيقية. ومن دون قيام دولة حديثة تنطلق من البحث العلمي لا يمكن قيام هوية حقيقية. ومن دون حرية الرأي لا يمكن تشخيص واقع الحياة التي تعيشها الدولة والشعب.
وإذا لم تنكشف الحياة بكل واقعها لا يمكن وضع أي شيء.. ولا يمكن الوصول إلى هوية حقيقية.
إذا لم تتوافر هذه الشروط فإن الدول الشرقية (ونقصد بها دول آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية) ستظل تستورد الصناعة من الغرب، ومنها صناعة الهوية. وعندما نستورد صناعة الهوية من الغرب، فإن استخدامها سيكون بيد الغرب، وليس بأيدي تلك الدول والشعوب.
كاتب من سورية
الجمعة, 7 مارس 2008