حالة حصار بين البطالة والفساد
لم تسمع غالبية السوريين بنبأ الزوارق الصغيرة التي تحمل شباباً منهم يهربون من البطالة والفقر إلى قبرص بطريقة غير شرعية، ولا تنطبق عليها أدنى معايير السلامة والأمان. وآخر هذه الأنباء أن موج البحر قد رمى جثث خمسة منهم وأعادها مشوهة إلى شاطئ اللاذقية في يوم الخميس 25/9/2008، وبقي مصير زملائهم الـ 23 الآخرين من ركاب الزورق مجهولاً.
جاء الخبر لنكتشف أن طريق الموت هذا مفتوح منذ زمن بعيد، وهو لا يُقابل إلاّ بالتعتيم الشامل من قبل الإعلام الرسمي، وهو دأب السلطة دائماً في التعامل مع مشاكلنا وأزماتنا المستعصية.
فما الذي يدفع شبابنا إلى سلوك هذا المسلك الخطر إلاّ الحاجة والفقر والبطالة؟ وما الذي يجعل من بلادٍ كبلادنا فريسة لهذه الأزمات، وهي المعروفة بثروتها عموماً، وثروتها البشرية خصوصاً، إلاّ كون الفساد ينخر جسدها، ويمتصّ خيراتها بشراهة لم تتناقص رغم كلّ ما يُقال؟!
لقد جاءت سوريا في مؤشّر مدركات الفساد الصادر عن منظمة الشفافية الدولية في المركز 147 بين دول العالم، وبعد جميع الدول العربية ما خلا السودان والعراق. وهي كانت في المركز 70 عام 2005، و93 في عام 2006، و138 في عام 2007. وذلك في تراجعٍ مستمرّ يعطي فكرةً فاضحة ومؤلمة عن مصير ثروتنا الوطنية.
لم يعد مقنعاً ما تدّعيه الحكومة عن محاربة الفساد، وكذلك تصديق نجاعة الإجراءات التي تملأ الصحف حول التحقيق مع مدراء أو طرد موظّفين من الخدمة. بل إن المواطن البسيط في بلادنا لم يعد يرى في ذلك إلاّ ذرّاً للرماد في العيون، ومجانبة لواقع الحال، ومواقع الفساد الكبير الحقيقية.
فقد أصبح معروفاً للقاصي والداني، محلياً وخارجياً، أن استغلال السلطة لتحقيق الكسب الحرام في أرفع المواقع، أو عن طريق الأقرباء والشركاء جهاراً نهاراً، هو مصرف الاقتصاد الوطني، وباب الإنفاق الكبير الذي يستنزف شعبنا.
الغريب فقط هو تزايد نسبة الفساد يوماً بعد يوم، رغم انسداد الأفق على التعتيم عليه بعد الآن، ورغم انفتاح العالم واتّضاح الحاجة إلى تغيير النهج بعد وصوله إلى القاع والقرار. فكأنّما يشعر البعض بأن الأيام مقبلة على مثل هذا التغيير، ولا بدّ من انتهاز الفرصة وعدم تضييع الوقت والانقضاض على ما بقي في “المستودعات” المفتوحة.
يخطئ من يحسب أن شعبنا سوف يرتمي في البحر! وهو يدرك أنّ مفتاح هذه الأزمة في الشفافية بدلاً من التعتيم والحجر على الحريات، وفي حكم القانون بدلاً من حالة الطوارئ، وفي استقلال القضاء بدلاً من هيمنة الأجهزة المعروفة عليه، وفي تطوير المشاركة السياسية بدلاً من احتكار السلطة والقرار.. وفي العمل من أجل ذلك كله بدلاً من التبرير والاستكانة والاستسلام!.