خــــــــارج المـــــــــــدار الــفــرنـــــســـــي
رلى راشد
تقول الحكاية ان هنريك ابسن في ساعاته الأخيرة توسّم حدقة الموت. نظر الى بياض الرحيل وأعلن “على العكس”. بدا استرجاع تلك اللحظة موائما عندما علمنا بخبر فوز لو كليزيو بجائزة نوبل للآداب 2008. وكأن برهة اعتراض المسرحي النروجي التي لم يدهسها قطار الموت، سَقطٌ من أدب الروائي والباحث الفرنسي. ربما لأن لو كليزيو رسول الفرار من مسالك التفكير المقولبة، وربما لأنه مارس اختلاط الجذور البريطانية والبروتونية والموريشيوسية (نسبة الى جزر موريشيوس) فصار “غورو” الهجرة الى أركان الذهن الأشد راديكالية.
الشفا والتخوم وطرفية الصحراء التي منحت إسمها لأحد مؤلفاته، تحوم في دنيا كاتب ريادي عبر الثقافات منذ مرحلة البدايات ولم يتهاون في تجريب مقاربات الرواية المختلفة ليعصى لاحقا على التبويب. من نيس الفرنسية حيث ولد في مطلع الأربعينات من القرن العشرين الى ريفية روكيبليير، القرية الصغيرة، وحتى مدار القارة السوداء التي انتقل اليها بعدذاك، جعلته الطفولة في بوتقة مغلقة ينظر الى شرارات دواخله. في الثالثة والعشرين ترسم الخطوات الى الأدب بخفر وخشية أن يخطئ المدخل. فكان ان نذر نفسه لرفع الكلمات أعلى من مستوى الخطاب اليومي المتهاوي. رممه بل رفده بسلطة استحضار الواقع الأساسي. في الستينات الفرنسية المقبلة على الثورات الطالبية والاحتجاجات الشعبية الصادحة بشعار انزال السلطة الى الشارع، كان لو كليزيو صدى للجيل الشاب في أعقاب الرواية الجديدة والوجودية. دخل المشهد الأدبي مع “المحضر الرسمي” فنال جائزة “رونودو” وكانت روايته البكر لبنة تأسيسية في سلسلة لوصف الأزمات. قادته الى ضفة القصة القصيرة مع “الحمّى” في منتصف الستينات و”الطوفان” في العام نفسه، اللتين دهمهما الاضطراب والخشية من معيش متروبولات العالم الغربي. آدام أبولو، الشخصية الرئيسية في “المحضر الرسمي”، شاب مرهف يجوب القرية ككلب شريد، وبعد أن يخطب مندفعا في جمع غير مكترث، يتبعثر إدراكه وصولا الى مشفى عقلي. مزاج الرواية لصيق بـ”غريب” كامو و”غثيان” سارتر، ولِمَ لا أيضا بزولا وفلوبير وكوليت ورامبو وايتالو سفيفو وبن جلون وايميه سيزير. هؤلاء كتابه الأثيرون وهؤلاء دفعوه الى خارج المدار الفرنسي، والى هوامش الجغرافيا. يكتب لو كليزيو رغبة في اختلاق عالم لا وجود له. يكتب كما ينبغي للمولود، أدبيا، في عرض البحر، في لاإقليمية المياه. في الثامنة، على متن سفينة أخذته الى نيجيريا خربش أول نصوصه. وفي قارة السافانا التي جاءها رفقة عائلته ووالده الطبيب، طاردته روايته شبه الذاتية “أونيتشا” حيث صبي يبحر مع والدته الى افريقيا وفيها تطارد الأحلام الشخصية والده الانكليزي.
نشأ لو كليزيو بين لغتين الانكليزية والفرنسية وفي 1950 عاد مع أسرته الى نيس بعدما أكمل دراسته الثانوية ودرس في جامعة بريستول. حمل في نفسه هبة التنقيب عن أراضي الطفولة والمراهقة. استطاع أيضا استقدام قصص الجوع والحنق كما في “لازمة الجوع”.
تعايش خلال سنوات مع الجزر الصخرية والرمال الصحراوية المتورمة شمسا والقرى المعزولة، ولم تستكن فورة البركان. في رواياته يستوي البحر والشمس والضوء والمياه وكأنها ومضات من بيئة تتنفس. بعدما عاش بين عامي 1969 و1973 في وسط هنود أمبيرا في بنما كتب Haï تعليقا غنائيا على تماس فريد. برهنت أبحاثه التأملية من قبيل “النشوة المادية” 1967 و”ميدرياز” 1973 عن تأثره بالثقافة الهندية في حين شهد “الحلم المكسيكي أو الفكر المنقطع” 1988 لانبهاره بماضي المكسيك المذهل. أما “الحجر الصحي” فرواية بحرية حيث اليمّ هو الشخصية الرئيسية، إضافة الى جاك صنو الكسي جدّ الكاتب لجهة أبيه، الذي لحق بشبح الكنوز الى اعتاب جزيرة رودريغيز. رؤيوي عنيف، فلش لو كليزيو مصادر القلق من خلال تأمل دوافع المدن القاتمة. استاذ جامعي في بوسطن ومكسيكو وبانكوك، هو خصوصا كاتب سفلي. رفس الرواية الفرنسية، تحامل على العصرنة وعلى العلامات التجارية المعلقة على أعلى المحال وعلى الطرق السريعة قبل أن يشق عرض النص ليستهجن استغلال الحضارات الخاسرة. في سن العشرين، آمن لو كليزيو بالتعارض البدائي بين المدينة والريف، وفي الستينات صار يشعر براحة المدن التي تأملها من أعلى السطوح. دندن الموسيقى الافريقية، وموسيقى الغجر والعرب ورآها الصلة الجامعة بين المستغلين والمهمشين والمحرومين أوراقا ثبوتية. لقاح لكل الوطنيين القوميين. في أسلبته الجلية والمتراخية على تطلب، ثمة انطباعية ممسوكة، حنينية ومعاصرة. اعترض لو كليزيو مبكرا. التزم البيئة كمسار كرسه في “الأرض المحبوبة” في نهاية الستينات وفي “العمالقة”، غير ان بزوغه كروائي اتى مع “الصحراء” في بداية الثمانينات، التي نال عنها جائزة بول موران من الأكاديمية الفرنسية. يلحق لو كليزيو بدخان الزمن، بانقطاعات التاريخ. ان يفوز اليوم بجائزة نوبل 2008 والعالم على فوهة التناحر في كل قارة ومقاطعة وزقاق وحي، ففي ذلك دعوة واضحة لا توارب للاستماع اليه. في “الحرب” 1970 كتب الفرنسي “لقد بدأت الحرب. لم يعد أحد يعرف أين، أو كيف. لكن هكذا هي الحال”، استبقى فكرة ماكيافيلي عن قدرة المرء على بدء الحرب عندما يريد وعن عجزه عن انهائها، إلا عندما يستطيع. لو كليزيو كاتب فحسب؟ انه بلا ريب أكثر كثيرا من ذلك.
من أعماله
-“المحضر الرسمي” 1963
-“يوم تعرّف بومون الى الألم” 1964
-“الحمى” 1965
-“الطوفان” 1966
-“النشوة المادية” 1967
“الأرض المحبوبة” 1967
“كتاب الهروب” 1969
“الحرب” 1970
“العمالقة” 1973
“أسفار الجهة المقابلة” 1975
“نبوءات شيلام بالام” 1976
“المجهول في الأرض” 1978
“نحو الجبال الجليدية” 1978
“رحلة الى بلاد الشجر” 1978
“موندو وقصص إضافية” 1978
“الصحراء” 1980
“ثلاث مدن مقدسة” 1980
“الرجل الذي لم ير البحر” و”جبل الاله الحي” 1982
“علاقة ميتشواكان” 1984
“بالابيلو” 1985
المنقب عن الذهب” 1985
“يوم تعرف بومون الى وجعه” 1985
“رحلة الى رودريغيز” 1986
“الحلم الاميركي أو الفكر المبتور” 1988
“الربيع ومواسم أخرى” 1989
“شعب السماء” 1990
“أونيتشا” 1991
“النجمة المترحلة” 1992
“دييغو وفريدا” 1993
“المحجر الصحي” 1995
“السمكة الذهبية” 1996
“العيد المغنى” 1997
“أشباح في الشارع” 2000
“قلب يحترق وأغان أخرى” 2000
“ثورات” 2003
“الافريقي” 2004
“اورانيا” 2006
“راغا، الاقتراب من القارة اللامرئية” 2006
“لازمة الجوع” 2008
الحياة مياه هاربة يقول لو كليزيو
في ما يأتي مختارات من أقواله في الكتابة والحياة:
– من خلال اللغة، جعل الإنسان نفسه أشد المخلوقات عزلة على البسيطة، ذلك انه أقصى نفسه عن الصمت.
– في مفهومي، ان نكتب وان نتواصل يعني أن نستطيع أن نجعل أي شخص يصدّق أي شيء.
– يقهرني الى حدّ الموت ان تكون الكتابة شديدة الايجاز. متى انتهت الجملة، خَلّفت خارجها كمّا من الأمور.
– لا تشتروا السيارات، لا تمتلكوا المنازل، ولا تؤمنوا الثروات. عيشوا في الحد الأدنى. لا تشتروا شيئا. إن الاغراض دبقة.
– عندما نوحي بأننا كتّاب، عندذاك نصير كُتّابا.
– الانفعال الأشمل هو الدخول الى الصحراء.
– يمكن بسهولة ترهيب الحركة، ويمكن بسهولة أيضا تدمير التوازن.
– شر الناس عادي، هذا لا يعني انه بسيط.
– الفنان هو ذاك الذي يدلنا بإصبعه الى قطعة من الدنيا.
– ثمة رياء طبيعي نعاينه تبصرا يريد أن نرى الجوانب المختلفة لشيء فريد.
– التحليل نظام مفتوح باطنيا الى اللانهاية. ولا يمكن الوصول الى النواة.
– لا ريب في ان الفن هو شكل التطور الوحيد الذي يستخدم سبل الحقيقة بقدر استخدامه لسبل الكذب.
– الحياة مياه هاربة.
النهار