اسرائيل

في حصيلة الانتخابات الإسرائيلية: ما هي «التسوية»؟

فواز طرابلسي
في الوقت الذي يباشر فيه رئيس الدولة الإسرائيلي شيمون بيريز مشاوراته لاختيار من سوف يكلّف بتشكيل الحكومة الجديدة، وإذ تظهر بوادر انفراجات عربية بين منظمة التحرير وحركة حماس وبين السعودية وسوريا، كردات أفعال أولية على نتائج الانتخابات الإسرائيلية، لا تزال هذه الأخيرة تثير أكثر من سؤال وتحد.
ولعل أول شرط لالتقاط المعاني المتعددة والبعيدة المدى للتحولات في الرأي العام الإسرائيلي كما سجلتها الانتخابات الأخيرة هو مغادرة التفكير في ثنائية «اليمين» و«اليسار» بما هي معيار مواقف القوى السياسية الإسرائيلية من عملية «السلام».
كرّست الانتخابات نتائج حراك اجتماعي وسياسي وإيديولوجي يعتمل داخل المجتمع الإسرائيلي منذ ربع قرن. حينها، كان حزب العمل وكتلة الليكود يمثلان جمهورين متفارقين من حيث النشأة والموقع الاجتماعي والسياسة. مثلت كتلة الليكود صعود اليهود الشرقيين في المجتمع الإسرائيلي، في وجه حزب العمل، الممثل التقليدي لليهود الغربيين، محتكري السلطة منذ قيام الدولة. نجمت عن ذلك الحراك الاجتماعي نتيجتان اثنتان على الأقل: الأولى، الاختلاط الكبير بين يهود شرقيين ويهود غربيين، إذ يوجد الآن نحو مليون مولود هم نتاج التزاوج بين أبناء الجماعتين. والثانية، ارتقاء شرائح من اليهود الشرقيين إلى مصاف الطبقة الوسطى والثرية، جراء التعديلات الهيكلية والخصخصة التي بادرت إليها حكومات الليكود وعلى حساب القطاع العام وبيروقراطية الدولة والكيبوتسات واتحاد النقابات (الهستدروت) بما هي القلاع التقليدية لحزب العمل واليهود الغربيين.
هكذا قد تكون ثنائية يمين/ يسار لا تزال ملائمة للتمييز بين الخيارات الاقتصادية ـ الاجتماعية للفريقين، على ضيقها، إلا أنها لم تعد تساوي الكثير بما هي معيار لمواقف من قضيتي الحرب والسلام.
قام الالتباس بين «اليسار» الصهيوني والاستعداد الإسرائيلي للتسوية السلمية للنزاع العربي الإسرائيلي على الفارق بين الليكود و«العمل» تجاه الأراضي الفلسطينية المحتلة عام .1967 حمل الليكود رؤية توسعية متشبثة بالضفة الغربية والقطاع كان المسوّغ إليها، زمن بيغن وشامير، هو الحق التوراتي في «اليهودية والسامرة». ثم «تعلمنت» التبريرات مع نتنياهو وآخرها «الحل الاقتصادي» بديلاً عن الحل السياسي.
في المقابل، كانت رؤية حزب العمل ولا تزال محكومة بالسعي للتحرر من الضغط الديموغرافي الفلسطيني بالاستعداد لتقديم تنازلات جغرافية. فحزب بن غوريون ودايان وبيريز وريث رؤية تقول إن الأغلبية العددية السكانية اليهودية في فلسطين هي أساس الفكرة الصهيونية بل مبرر وجود إسرائيل ذاتها. هكذا ارتكز مفهوم حزب العمل لـ«السلام» إلى نظرية «الفصل» السكاني بين إسرائيل و«الأراضي» (الاسم الرسمي الذي تبنته الهيئات الدولية للضفة والقطاع المحتلين!). لا يختلف منطلق «ميرتس» عن منطلق حزب العمل وإن كان بدّد أية مصداقية لديه بتأييده حربي لبنان وغزة. ومهما يكن، يظل الاعتبار الديموغرافي على الدوام خاضعاً للأولوية الأمنية.
تحقق الخلط والتلفيق بين هذين التيارين الرئيسيين للصهيونية على يد آرييل شارون، أحد أبرز جنرالات حزب العمل وقد غادر الليكود لتأسيس حزب كديما. سعى شارون إلى المصالحة بين نزعة الليكود التوسعية، على نموذج «الآبرتدهايد» الجنوب أفريقي، وبين درء النمو الديموغرافي العربي الذي يسيّر سياسات حزب «العمل». سحب شارون الجيش الإسرائيلي من غزة (وهي بؤرة «الخطر» السكاني الفلسطيني) وبنى الجدار في الضفة الغربية، تجسيداً اسمنتياً لفكرة «الفصل السكاني». لكنه في الوقت ذاته، وسّع سياسة الاستيطان وقطع شوطاً كبيراً في تهويد وقضم ما تيسر من الأراضي الفلسطينية في الضفة والقدس وغزة، بحجة بناء الجدار أو من دونها.
ينطلق كديما والليكود الآن ليس فقط مما حققه شارون بل أيضاً مما آلت إليه الأحوال في نهاية عهد أولمرت. والمشترك بينهما أن لا تفاوض فعلياً مع الفلسطينيين. الليكود يرفضه جهاراً. وكديما يغطي حربيه على الجبهتين اللبنانية والفلسطينية بالثرثرة عن السلام وبالمفاوضات الخلّبية مع السلطة الوطنية. ولسان حاله ما قد فرضه إيهود باراك أصلاً شعاراً لكل الطبقة السياسية الإسرائيلية، وتبناه كلينتون قبل أن يردد أوباما صداه: لا وجود لمفاوض فلسطيني! يضاف إلى هذا كله تبرؤ «العمل» و«ميرتس» معاً من أي صلة بالشعار الذي تمت في ظله مفاوضات أوسلو «الأرض مقابل الهدوء».
تمخضت حصيلة الانتخابات عن ارتقاء حزب «إسرائيل بيتنا» إلى مرتبة الحزب الثالث من حيث عدد الأصوات في «الكنيست». وتحوّل رئيسه أفيغدور ليبرمان، المتهم بالفساد وتبييض الأموال، إلى بيضة القبان في تشكيل الحكومات. يجمع جمهور حزب أفيغدور ليبرمان بين الوافدين الروس، والوافدين الجدد بؤرة للتطرف والمزايدة في السياسة الإسرائيلية، كما علمتنا تجربة اليهود الشرقيين قبلهم، إلى تذمر متضررين من سياسات الانفتاح الاقتصادي، يرفضون الانحياز يساراً لأسباب شتى. وقد تضافر هذان العاملان على توليد نزعة فاشية عنصرية حربية تقول بنزع الجنسية عن فلسطينيي أراضي الـ48 تحت شعار «لا مواطنة بلا موالاة» وتطالب بـ«إعدام» أعضاء الكنيست العرب الذين اجتمعوا مع وفد من حركة «حماس» العام الماضي، وصولاً إلى التحريض على قصف غزة بالسلاح النووي على غرار ما فعل الأميركان باليابان لإنهاء الحرب العالمية الثانية.
هكذا يتم انزياح المجتمع الإسرائيلي، لا إلى وجهة «اليمين» طالما أن هذا يعني المحافظة على ما هو قائم، وجهة التطرف العسكري والفاشية العدوانية: أي وجهة قلب المعادلات وفرض المزيد والمزيد من الأمر الواقع على فلسطين والجوار بواسطة القوة العسكرية والحروب.
ولكن يخطئ من يتجاهل حقيقة أن رسم الأفرقاء الإسرائيليين لمواقفهم يتم في حوار ضمني وعلني، مستجيب أو ضاغط أو استباقي، مع واشنطن. فالتطرف هنا عاصم أمام أي ضغط قد تمارسه واشنطن لا يلتقي مع التصلب المتزايد لمواقف كافة الأطراف السياسية. بل إن الحزبين الفائزين «يتحاوران»، بشتى الطرق، أو مع الخيارين الستراتيجيين اللذين تتأرجح بينهما واشنطن في المنطقة. فيميل كديما (ومعه «العمل») وجهة فريق «الاعتدال» العربي، فيما التفاوض مع سوريا يغري نتنياهو ولو للتفلت من التفاوض الفلسطيني.
في انتظار مزيد من التطورات، يمكن القول إن محاور السياسة الإسرائيلية بعد الانتخابات تعزز الاتجاهات الآتية:
÷ سياسة «تهدئة» مديدة في الضفة والقطاع وجنوب لبنان تحت التهديد بتكرار حرب لبنان الثانية 2006 وحرب غزة .2009 وإنه لذو دلالة كبيرة بهذا الصدد أن يطالب المفاوض الإسرائيلي بالتهدئة لسنوات عدة مع «حماس» في غزة تأكيداً لا على الارتياح للقسمة الفلسطينية بل أيضاً على نهج المماطلة.
÷ مماطلة المدى القريب تتذرع بتشكيل أو انفراط عقد الحكومات الائتلافية، خصوصاً إذا جرى تكليف تسيبي ليفني بالتأليف أول الأمر.
÷ إمكان أن تتذرع كلتا التشكيلتين الممكنتين للحكومة العتيدة بتطرف ليبرمان تبريراً لتعطيل أي تنازلات من النمط الذي قد يطالب به ميتشل (وقف التوسع الاستيطاني مثلاً).
÷ فرض أولوية التطبيع في مبادرة السلام للملك عبد الله، عملاً بتوصية أوباما، وفق المنطق الأميركي في حل النزاعات: بناء الثقة بدلاً من التصدي لأسباب النزاعات. و«بناء الثقة» هنا هو إثبات العرب قبولهم بإسرائيل والبرهنة على نواياهم «السلمية» تجاهها واستعدادهم لحماية أمنها شرطاً لـ«سلام» ولـ«تسوية» و«حل» لم يعد معروفاً ماذا يتبقى من معنى لأي منها.
÷ إمكان هروب نتنياهو من الحلقة الفلسطينية (ربما بتأييد من «العمل» و«ميرتس» نحو فريق «الممانعة» عن طريق استئناف المفاوضات على المسار السوري، انسجاماً مع الأولوية التي تعطيها إدارة أوباما لمحور أفغانستان ـ باكستان ـ العراق وبالتالي الحوار مع إيران.
السؤال الذي يفرض نفسه مقدمة للبحث في الرد الفلسطيني والعربي وقواه:
ماذا لو أن هذا المسار التأجيلي اللامتناهي هو «التسوية» عينها ولا شيء سواه؟
السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى