إدوارد سعيد مثقّف المهمّات المستحيلة
محمد شعير
«كان بإمكانك أن تعيش حياة أكاديمية شديدة اليسر، وأكثر راحة. أن تكتب أكثر. تعمل في الموسيقى وأشياء أخرى كثيرة، لكنك اخترت أن تخطو خارج غرفة الصف وقاعة المحاضرات… لمَ فعلت ذلك؟». الشخص المقصود هو إدوارد سعيد، أما صاحب السؤال فالمحاور الأميركي الشهير ديفيد بارساميان. وكانت الإجابة: «لا أفكر في الأمر كثيراً. إذا تابعت التفكير في مشكلة من ذلك النوع، فالأسوأ يكون قد حصل، أي جعلك عاجزاً عن العمل. أعتقد أن الأمر الأساسي هو أن تستمر في طريقك، وتتذكّر أن ما تفعله وتقوله مهمّ أكثر بكثير من مسألة أن تكون آمناً أم لا».
هكذا اختار إدوارد سعيد الطريق الأصعب الذي مهّده وسلكه، وأراده: «المثقف» الذي يجب ألّا يكون همه إرضاء جمهوره، بل إن وظيفته الأساسية أن يكون محرجاً ومناقضاً للسائد، بل حتى مكدّراً للصفو العام… دور يقلق السلطة بأفكارها الراسخة. وهكذا خاطر بحياته وراحته ليرضي ضميره، رافضاً الاكتفاء بالبرج العاجي، أي الجدران الأكاديميّة، ليدخل ساحة الصراع الإعلامي في «قلب التنين» كما كان يقول غيفارا: في الولايات المتحدة. هنا واجه المنطق الاستعماري، وتصدّى لـ«اللوبي» الصهيوني في عقر داره، حتى صار على رأس قائمة المطلوبة رؤوسهم، معنويّاً في أقل تقدير. ذات مرّة أحرق «مجهولون» مكتبه في الجامعة التي تولّت حمايته، فضلاً عن التهديد المباشر لأطفاله، ومعاملتهم أسوأ معاملة في مدارسهم. وهكذا يمكن أن يصبح إدوارد سعيد «بروفسور الإرهاب» حسب تعبير بعض مناوئيه المتعاطفين مع إسرائيل، أو «الجنّي الذي خرج من القمقم العربي لتدمير كل شيء» كما قدّمه الإعلام الغربي، أو «مندوب ياسر عرفات في أميركا».
ياسر عرفات هو نفسه الذي صادر لاحقاً كتابات سعيد، بعد رفضه اتفاقية «أوسلو». ولم يكتفِ بذلك، بل ـــ وفي مفارقة مثيرة للسخرية ــــ وجّهت إليه اتهامات في بعض المنابر الرسميّة العربيّة، بكونه هو الـ «مستشرق» الحقيقي. وهو اتهام غريب طبعاً، حين يوجّه إلى المفكّر الذي كرّس حياته من أجل فضح «الاستشراق»، وتفكيك خطابه وإبراز تناقضاته، وكتابه الشهير «الاستشراق» (1978) قلب التصوّرات الغربية عن الشرق رأساً على عقب، واعتُبر وقت صدوره بمثابة «ثورة» في مجال الدراسات الإنسانية. إذ زلزل الكتاب ــــ حسب تعبير مترجمه إلى العربية كمال أبو ديب ــــ قواعد مؤسسة معرفية كاملة كانت لها سطوة السلطان وعصف بكلّ تصوراتها المنهجية والإيديولوجية و«كشف دورها في ترسيخ هيمنة الغرب الرمزية والفعلية على الشرق وفهمها المغلوط له».
إنّه القلق الذي يسبّبه المثقفون للسلطة أياً كانت، بوصفهم «تلك الشخصيات التي لا يمكن التكهن بأدائها العلني أو إخضاع تصرفها لشعار ما، أو خط حزبي تقليدي، أو عقيدة جازمة ثابتة» حسب تعبير سعيد نفسه في كتابه «تمثيلات المثقف» (1994) الذي رسم فيه ببراعة رؤيته إلى المثقّف.
في عام 1992، ألقى إدوارد سعيد سلسلة محاضرات في إذاعة BBC عن الدور العلني للمثقف كـ “لا منتم وهاوٍ ومشوّش على الوضع الراهن». ولاحقاً، جمع هذه المحاضرات في كتاب سمّاه «تمثيلات المثقف». وكان حظه في العربية كبيراً. إذ تُرجم ثلاث مرات بعناوين مختلفة: «صور المثقف»، «المثقف والسلطة»، و«الآلهة التي تفشل دائماً». يرى سعيد أنّ المثقف هو فرد يضطلع في المجتمع بدور علني محدّد، لا يمكن تصغيره إلى مجرد مهني لا وجه له، أو عضو كفوء في طبقة مَن لا يهتم إلا بأداء عمله: «مهمته أن يطرح علناً للمناقشة أسئلة محرجة ويجابه المعتقد التقليدي والتصلب العقائدي بدلاً من أن ينتجهما». ويكون شخصاً لا يسهل استيعابه، وأن يكون مبرِّر وجوده تمثيل كل تلك الفئات من الناس والقضايا التي تُنسى ويُغفل أمرها على نحو روتينيّ». يمثّل هذا المقطع من كتاب سعيد بؤرة تفكيره في قضية المثقفـ، وخلاصة النظر التي يطرحها.
ودور المثقف كما يقترحه، يقترب كثيراً ـــ حسب الناقدة فريال غزول ــ «مما اقترحه سقراط لدى محاكمته في أثينا، التي كانت تزعم الحرية والديموقراطية. أي أن يثير القضايا الإنسانيّة الملحّة من داخل موقعه وفي عقر داره، فليس المطلوب منه أن يصبح مسؤولاً في جهاز ثقافي أو مؤسسة إعلامية، بل أن يكون مستعداً لأن يبدع في السياق الذي يعمل فيه مهما بَعُد عن المركز».
مسيرة إدوارد سعيد هي تمثيل لهذا المثقف الذي بحث عنه طوال حياته. ولد في القدس عام 1935 وشهد في سنواته الأولى تنفيذ المشروع الصهيوني الاستيطاني فيها. أرسله والده للالتحاق بكلية «فيكتوريا» في الإسكندرية التي كانت حينها أرقى المدارس الإنكليزية الخاصة في المشرق العربي كله. لكن يبدو أنّ إدوارد الصغير الذي اغترب عن وطنه منذ نعومة أظافره، كانت لديه القدرة على إثارة الزوابع أينما حل، وسرعان ما تمرّد على العقلية الاستعمارية التي كانت تدار بها هذه المدرسة. وأمام هذه المشكلة، أرسله والده إلى مدرسة «مونت هيرمون» في ولاية ماساشيوتس الأميركية.
وبعدما أكمل دراسته، التحق بجامعة «برينستون» وتخرج فيها متخصصاً في الأدب الإنكليزي والمقارن، ثم أصبح بروفيسوراً في جامعة «كولومبيا». العقلية الاستعمارية كانت إذاً السلطة الأولى التي واجهها إدوارد سعيد وتمرد عليها وتصدّى لها منذ طفولته، وحتى رحيله، لتمثّل تلك المواجهة العمود الفقري لتاريخه الشخصي. منذ البداية وجد نفسه أمام خيارين لا ثالث لهما: «إما الانسياق في تيار صنعه آخرون، أو شق مجرى جديد. إما أن أكون مجرد باحث جيد وأستاذ مجتهد ورقم في طابور المقلّدين، أو أن أبدأ مشروعاً فكرياً أكون أنا مبدعه الأول».
كان هذا هو التحدي الحقيقي لإدوارد سعيد. وجاءت هزيمة 67 التي وصفها بأنّها «لحظة انكسار دفعتني إلى البحث عن بداية جديدة لكل شيء. حثّتني لأبحث عن لملمة الشذرات العربية لتاريخي ووصلها بالمستقبل. اكتشفت أنني قبل 67 لم اختر شيئاً، وكان هذا «الطريق القاسي» كفيلاً بميلاد جديد لمشروع جديد بدت معه كل ما سبق من سنوات العمر كأنها مجرد محاولات للبحث… عن الذات وعن الطريق». ومن هنا، عمل إدوارد سعيد على التعبير عن رؤيته تلك من خلال نقده الجذري لمكوّنات العقل الأدبي الغربي ذاته، ولسلطته، وهو ما تجلّى في كتابه الهام «الاستشراق». هذا الكتاب الذي لفت الأنظار إلى أنّ المثقف، حتى لو كان منفياً عن وطنه وغريباً في المجتمع الذي أصبح يحمل جنسيته، يستطيع أن يعلن احتجاجه ونقده لثقافة هذا المجتمع. كما كان هذا الكتاب مثالاً من نوع آخر على تمرّد سعيد: تمرده على النظرية الجاهزة لينتج أفكاره الخاصة، كأن النظرية ـــ كما يذهب الناقد فيصل درّاج ـــ «لا تساوي إلا المدى المفتوح في البحث الدؤوب عنها. لم يكن سعيد في منهجه المفتوح يقبل بالنص محاطاً بالإكبار، وبحرّاس الكتب، بل كان يفتش في النص عن قوله الخبئ وقوله المقنع، وقوله الكاذب أحياناً وقوله المبشّر بالقتل المضمر أو الصريح فى بعض الأحيان». وقد أزعجت هذه الأفكار مفكّري الغرب. لكنّ الأكثر إزعاجاً لهم كما يوضح سعيد كان «أنّهم اكتشفوا أنّ هناك عقلية من نفس الشرق، من الجزء الذي جعلوا من أنفسهم أوصياء عليه، يجاذبهم بأدواتهم بل يتجاوزهم… اكتشفوا «إرادة إنسانية» ولدت وجاءت من نفس البقعة التي قالوا عنها الشرق وجد لأجل الغرب”!
وعن طريق إدوارد سعيد أيضاً، استمع الغرب للمرة الأولى إلى حكاية الصهيونية من وجهه نظر الضحية في كتاب إدوارد سعيد «المسألة الفلسطينية» (1979). وعندما التحق بالمجلس الوطني الفلسطيني، كان دوره تقديم المعرفة والنصيحة، محتفظاً بحريته الفكرية. دوره كان رفض المتاح والأمر الواقع والسعي نحو الأفضل والطرح الجديد، لأنّ المفكر ليس خادماً لسلطة، أيّ سلطة!
في مرحلته الأخيرة، انضم مرض السرطان إلى قائمة الأعداء الذين كان عليه مواجهتهم. واجهه بضراوة، وفي الأيام الأخيرة كتب مقاله الأخير فبدا كأنه يستشرف موته. كان يمتلك الشجاعة ليقدّم نقداً ذاتياً، واستعادة للعديد من الأفكار التي طرحها. وهو ما فعله عندما قدّم مراجعة فكرية لبعض أفكاره في «الاستشراق».
لم يكن سعيد إذاً في كل مواقفه سوى الخارج دائماً، المتهم من كل الأطراف… الذي لا يستطيع أن يرضي أحداً. ولأنه مثقّف ومفكّر وموسيقي غير مساوم، يُجهر بالحقيقة من دون احتساب مسبّق لموازين الربح والخسارة، فقد طالت صفوف معجبيه وخصومه أيضاً!
كتب رواية عن طفولته… ثم مزقها!
«أمنيتي أن أنسحب من العالم لأكتب رواية». هكذا عبّر إدوارد سعيد عن إحدى رغباته إلى صديقه الناقد الأردني محمد شاهين، بينما كانا يتناولان العشاء فى أحد مطاعم نيويورك. شاهين ذكر التفاصيل في كتابه «إدوارد سعيد: رواية للأجيال». وقد حكى القصّة ذاتها الشاعر الراحل محمود درويش. فقد كتب إدوارد فصولاً عدة من رواية عن طفولته العربية، لكنه مزقها، وفعل الشيء ذاته عن النساء اللواتي عرفهن. وقد كتب درويش ذلك في قصيدته الشهيرة «طباق» التي رثى فيها إدوارد، حيث سأله درويش: «هل كتبت الرواية؟/ حاولت/ حاولت أن أستعيد بها صورتي/ في مرايا النساء البعيدات/ لكنّهن توغلن في ليلهن الحصين/ وقلنَ: لنا عالم مستقل عن النص/ لن يكتب الرجل المرأة اللغز والحلم/ لن تكتب المرأة الرجل الرمز والنجم/ لا حبّ يشبه حباً/ ولا ليل يشبه ليلاً/ فدعنا نعدد صفات الرجال ونضحك/ وماذا فعلت؟/ ضحكت على عبثي/ ورميتُ الرواية في سلة المهملات/ المفكر يكبح سرد الروائي/ والفيلسوف يشرّح ورد المغني».
لم يجد سعيد وقتاً لكي ينسحب من العالم، بقي صامداً، مستبدلاً في الوقت ذاته مشروعه الشخصي، بمشروع كوني أكبر حجماً وأرحب أفقاً: أن يعيد كتابة عشرات بل مئات الروايات التي كُتبت بمختلف اللغات ويقدّم لنا قراءة جديدة لنصوصها من خلال التنقيب عن خبايا الثقافة التي انطلق منها كتابها. والنتيجة كانت كتابيه الرائعين: «الاستشراق» و«الثقافة والإمبريالية».
أما سيرته الذاتية «خارج المكان» (1999) فهي رواية بامتياز في نظر العديد من نقاد الأدب. فالكتاب يحمل العديد من الخصائص الأدبية. يستعيد فيه سعيد جزءاً من ماضٍ عام، سياسي واجتماعي عبر الكتابة عن ماض شخصي، كما جاء الكتاب سرداً لارتحالات عدة، واحتفالاً بماضٍ لن يستعاد. سعيد شرع في كتابة سيرته فور اكتشافه إصابته بسرطان الدم، وقد لعبت ذاكرته ـــــ كما يقول ـــــ دوراً حاسماً في تمكينه من مقاومة المرض من خلال استرجاع العديد من الأشخاص والأمكنة التي لم تعد موجودة. فكان الكتاب سجلاً لعالم مفقود أو منسي، عالم لم يعد كما كان، حيث تحولت فلسطين إلى إسرائيل وانقلب لبنان رأساً على عقب بعد عشرين عاماً من الحروب الأهلية، ولم تعد مصر كما كانت قبل يوليو 52.
كتب سعيد عن السنوات الأولى التي قضاها فى العالم العربي، حيث ولد وأمضى سنواته الأولى بغنائية شديدة، وبدرجات متفاوتة من الصراحة، ما جعل النص عملاً إبداعياً. سعيد كشف أيضاً في مقدمته للسيرة رغبته الدائمة في تجريب أشكال مختلفة من الكتابة… ولكن«كتاباتي الأخرى وتدريسي، أبعدتني كثيراً عن العوالم والتجارب المختلفة التي ينطوي عليها هذا الكتاب، فالأكيد أنّ الذاكرة تشتغل بطريقة أفضل وبحرية أكبر عندما لا تفرض عليها الأساليب أو النشاطات المعدة أصلاً لتشغيلها».
رسالة أخيرة إلى ابنته
قبل شهر واحد من رحيله، تسلّل إدوارد سعيد إلى غرفة ابنته نجلاء وترك لها خطاباً قصيراً، كان بمثابة وصيته الأخيرة. كتب قائلاً: «ليس هناك في تصوّري أفضل أو أعظم من محاولة جعل الحياة أفضل للآخرين ممن هم أقل حظاً أو ممن يتألمون أو يعانون. نجلاء: أنا أعلم أنّك تتمتعين بروح نبيلة ورائعة. سلّمي بذلك. واجعلي هذا الأمر مع موهبتك وغريزتك مصدر إرشاد لك، ولا تدعي الآخرين يقومون بذلك. ولا تدعي هذه الأشياء تقودك: الوقاحة والاستخفاف والتبرير والتشاؤم… وفوق ذلك تعلّمي أن تقبلي وتسامحي نفسك. تعلّمي أن تحبي ذاتك، وبذلك يمكنك أن تحبي وتقدّري الآخرين. أنت تعلمين أنّ ما أقوله لك ينبع من قلبي، لكنّه لا يعني لك أي شيء سوى مجرد طريقة نقوم بها لمساعدة الآخرين.. مع حبي». نجلاء ليست بعيدة عن الكتابة والأدب. إذ درست الأدب الإنكليزي في جامعة «برينستون»، وحصلت على دبلوم في المسرح والتعبير الحركي. وشاركت في تأسيس فرقة «نبراس» المسرحية، وهي فرقة عربية أميركية. كذلك عملت ممثلة وكاتبة، وحصلت على دورات تدريبية فى فن التمثيل.
أساتذة البروفيسور المجهولون
أسماء مهمّة تتراءى لنا عبر مشروع إدوارد سعيد في بناء نظريّة «الاستشراق»، من المفكّر المصري أنور عبد إلى فرانز فانون وغرامشي وميشال فوكو…
ربما كان المفكر المصري أنور عبد الملك أبرز الأساتذة الذين أفاد منهم إدوارد سعيد، وخصوصاً في كتابه «الاستشراق». ولم ينفِ المفكّر الراحل ذلك على الإطلاق، بل أكده مراراً فوق صفحات هذا الكتاب الذي أثار الكثير من الجدل.
فقد كان الاهتمام بنقد الاستشراق سابقاً على إدوارد سعيد بسنوات طويلة. قد يكون منذ بدايات القرن العشرين في صحافة الحركات الإسلامية، وفي كتابات روّاد الحركة الإصلاحية… وخصوصاً أن التعاون كان وثيقاً بين الاستشراق والاستعمار، وكان التمييز بين المستشرق والمستعمر أمراً صعباً. وقد التزم الكثير من المستشرقين الصمت تجاه تلك الكتابات النقديّة. حتى جاء أنور عبد الملك وكتب في عام 1963 في مجلة Diogenes مقالته الشهيرة «الاستشراق في أزمة». ألقت المقالة بحجر في بحيرة راكدة، ولم يستطع الكثير من المستشرقين استيعاب ما جاء فيها.
ولقيت أفكار أنور عبد الملك في نقد الاستشراق هجوماً حاداً من كثيرين في الداخل والخارج، حتى إن بعضهم اعتبرها «تصفية حساب مع الغرب». لكنه التزم الصمت تجاه منتقديه… حتى جاء إدوارد سعيد ليطوّر الفكرة ويخرجها من إطارها المحدود. فـ «الاستشراق» جاء كما يقول: «منظومة تتخذ موقفاً ضد شيء ما وحسب، من دون اتخاذ موقف لمصلحة شيء آخر إيجابي…. كان مشروعي وصف نظام معين من الأفكار، لا إزاحة النظام وإحلال نظام جديد محله، بأي شكل، فقد حاولت أن أثير طقماً كاملاً من الأسئلة الوثيقة الصلة بمناقشة مشكلات التجربة الإنسانية…».
لم يكن هدف سعيد إذاً تقديم حلول للمشكلات، بل أن يجعل الناس مدركين للأشياء. كان الأمر واضحاً بالنسبة إليه، فهو ليس استراتيجياً مثل كيسينجر، ولا يمتلك حلولاً للمشاكل، وربما هذا ما ميزه كمفكر «يعلّم الناس الصيد»، أو على الأقل لا يدّعي تقديم رؤية سلطوية ديكتاتورية… وربما هذا أيضاً ما جعله يطوّر فكرة الاستشراق التي سبقه إليها في منتصف الستينيات أنور عبد الملك.
وذكر إدوارد سعيد مراراً بأنّه يدين بالفضل لاثنين من المفكّرين الغربيين: ميشال فوكو وريموند وليامز، لكنّه وجد «نقصاً» في إنجازاتهما. إذ إنّ «نظرتهما إلى التجربة الاستعمارية تتسم بالبعد النظري، حتى كأنها تبدو من دون صلة باهتماماتهما»، أي إنّ فوكو ووليامز ينتجان صورة المستعمر أو القاهر بطريقة رائعة، لكن من دون الربط بين المستعمر وثقافته. وقد اعتبر الناقد الأردني محمد شاهين في كتابه «رواية للأجيال»، أن أجزاءً كثيرة من كتاب «الثقافة والإمبريالية» تمتزج بأفكار وليامز. هذا الأخير، وصف سعيد كتابه «الثقافة والمجتمع» بأنه «قيّم ويفتح أبواباً كثيرة للمهتمين بالثقافة وتحولاتها وخباياها».
والمعروف أن المفكّر الراحل، كان يشير دائماً إلى هؤلاء الأساتذة وسواهم، وكثيراً ما ذكرهم في كتاباته: مثل المفكر الجزائري الفرنسي فرانز فانون، والفيلسوف الإيطالي الشهير غرامشي… وكان له الفضل في الكشف عن أفكار الإيطالي فيكو الذى كان مغموراً قبل أن يلقي سعيد عليه الضوء في كتابه «بدايات». كما اعترف المذكور أكثر من مرة بتأثير ادورنو عليه وبرغبته في أن يكتب بنفس وضوحه وعمقه ونصاعة أسلوبه.
ولن يستغرب أحد تأثر سعيد البالغ بفرانز فانون الذي كان له السبق في نحت عبارة «الاختراع الأوروبي للآخر» في كتابه الشهير «المعذبون فى الأرض»، مبرزاً بذلك النعوت والأوصاف والأحكام التي تُلصق عمداً بالشعوب المستعمرة من جانب المستعمِر (بكسر الميم) الأوروبي. ويعتبرها فانون إسقاطاً نفسياً من جهة، وتنميطاً لحقائق مفتعلة لتبرير الاستعمار… بدعوى أنّه نشاط «تمديني» للمستعمَر (بفتح الميم). وذلك المصطلح بالذات، اعتمده سعيد أساساً في «الاستشراق» و«الثقافة والإمبريالية».
الأخبار