أتكون الكتابة “ذروة العذاب والذلّ الروحيين”؟
عمر قدور
“كم وددت أن أكتب باسم مستعار مقالاً قاسياً عن نفسي”.
بداية أسجّل امتناني للكاتب عبد السلام بنعبد العالي لأنه أتاح لي التعرّف على عبارة بورخيس السابقة، في مقالته “عودة إلى مسألة النقد” المنشورة في الأوان بتاريخ 3/8/2008، ولا أخفي أن هذه العبارة بقيت تدور في ذهني، وتتطلّب تقليباً فيها، لا لطرافتها كما يبدو للوهلة الأولى، وإنّما بسبب ما تولّده من خواطر أفرد بعضها كاتبنا باختزاله وكثافته المعهودين، ولعلّه فتح لنا باب “الثرثرة”.
ما الذي يجعل بورخيس يعبّر عن هذه الرغبة الخبيثة تجاه نفسه؟ أهو محض تعريض بالنقد تمّت صياغته على نحو ساخر؟ أم أنّ الرغبة قد تكون مضمرة عند الكثيرين من الكتّاب لكنّهم لا يجهرون بها؟ وإنْ لم تكن كذلك؛ فما الذي يعنيه وجود هذه الرغبة عند البعض وانتفاؤها عند البعض الآخر؟
يقرن بورخيس رغبته في كتابة المقال بالاسم المستعار مستبعداً في ذلك أن يكتب بورخيس ضدّ بورخيس، هذا على صعيد الشكل، لكنّ الاستبعاد هنا ينطوي على المباعدة بين بورخيس ونفسه، فلا يعود بورخيس الكاتب هو بورخيس ذاتَه ناقداً نصّه. ثمّة تململ الكاتب من اسمه، أو من سطوة الاسم التي تدفع صاحبه إلى الخروج عنها، هذا الخروج يتطلّب تجريحاً مستمرّاً بالذات لئلا تستقرّ كشرنقة. من الاسم المستعار يطلّ بورخيس متحلّلاً من نصّه، مشرفاً على نواقصه، وعلى مَكْره في إخفاء النواقص والعثرات، وإذ يتخلّى عن مكر الكاتب الذي كأنّه يكفّر بالقسوة عن تعالي النصّ وغروره. من جهة أخرى تبقى الرغبة في التمرّد مع وقف التنفيذ، فبورخيس يشير إلى الأمثولة دون الإقدام على تجسيدها، يخلخل صورته متوعّداً وكأنّه يحرّض الآخرين على اقتراف ما لا تطاوعه نفسه عليه.
من الحكايات القديمة أنّ معماريّاً بنى لأحد الملوك قصراً لا يُضاهى في الروعة، ولمّا شاهد الملك القصر أُعجب به كثيراً، فقال له المعماريّ: سأبوح لك بسرّ؛ أنا قادر على هدم هذا الصرح بإزاحة حجر واحد منه. تكمل الحكاية بأنّ الملك قطع رأس المعماريّ كي لا يبقى من يعلم بالسرّ، وإذا نحّينا جانباً البراعة التي امتاز بها ذلك المعماريّ فإنّ ما يدهش هو رغبته الدفينة في تخريب ما أنجزته يداه، ولم تكن نيّة التخريب لاحقة على البناء، بل كانت مبيّتة منذ البداية. المسألة، كما يمكن أن نقرأها، ليست اقتصاصاً من الكمال وحسب، هي من جانب ثانٍ إثبات للبراعة بطريقة أخرى؛ طريقة للقول: أنا أكثر براعة من البراعة التي أظهرتُها للتوّ.
الشاعر المعروف “فرناندو بيسوا” يرى الوضعية المتقلقلة للمبدع بمنظار مختلف، فيكتب في مؤلفه ” اللاطمأنينة”: “أن تكتب عملاً، وأنت تعرف مسبقاً أنه مختلّ وناقص، فهذه ذروة العذاب والذلّ الروحيين”. طبعاً لا يخفى على “بيسوا” أنّ المعاناة التي يتحدث عنها هي الحالة الطبيعيّة للمبدع، لذا يحنّ إلى نصوصه الأولى، النصوص الأقلّ جودة، التي كتبها تحت وهم إنجاز عمل كامل والتي يصفها فيما بعد بأنّها نصوص مريعة! كلّما ازداد نضج المبدع فقدَ من يقينه، وأحسّ بطاقته الكامنة تفيض عن النصّ، يصير النصّ قيداً يقنّنه ويعجز عن الإمساك به، ويصبح من الضرورة هدم ذلك القيد الذي استحال مقولات جامدة أو راسخة. النصوص الأولى اللامُفكَّر فيها تنعم بسكينة لا تنعم بها النصوص الناضجة، النص الناضج أكثر تململاً وقابليّة للتجريح لأنّه مفكَّر فيه، فأن تفكّر، بحسب “بيسوا”، هو أن تهدم.
على الضفة الأخرى لا نعدم وجود كتّاب خارج دائرة القلق بالمعنى السابق، وقد نميز بين نوعين منهم؛ الأول يتلمّس أخطاءه ومواطن ضعفه، لكنّه يخاتل ويموّه عليها، وربّما يدافع بقوّة عن إنجازه عندما يضطرّ إلى ذلك. الفئة الثانية من الكتّاب هي التي لا ترى فجوات فيما تكتبه، وتحتفظ لنفسها باليقين والثبات أو البطء، وهذا لا يمنع رواج كتاباتها إنْ لاقت كسلاً عند بعض المتلقّين. ولعلّ التمييز السابق ينسحب على النصوص؛ فثمة نصوص مغلقة تقدّم نفسها بوصفها نهائية، وقد يحتار القارئ في البحث عن ثغرة يهزّ منها النص فلا يجدها، وربما يجد نفسه أمام خيارين لا ثالث لهما؛ إما أن يُستَلب للنص، أو أن يشيح عنه. في المقابل نجد نصوصاً قابلة للتوليد أو النقض، وهي تفترض في المتلقّّي أن يعيث فيها خراباً، وأن يستمتع بتفكيكها وإعادة تركيبها كما يحلو له، ليختبر المتلقّّي بنفسه أنّ لعبة الكتابة هي توالد لا ينقطع.
يربط “أدورنو” الشكّ بالحداثة ويكتب: “إن تقدّم الفن، بوصفه فعلاً، ونزعة الشكّ التي ترتبط به يتجاوب بعضهما مع الآخر”. والحقّ أنّ مرحلة الحداثة شهدت ثراء على الصعيد الفكريّ والأدبيّ، وكان للتشكّك دور هام في امتحان الأسئلة وإعادة صياغتها مراراً، فازدهرت نزعة التخطّي حتّى صار بإمكاننا الحديث عن انفجار معرفيّ على كافّة المستويات الفكريّة والأدبيّة والفنيّة. ينسحب الكلام السابق على المستوى الكلّيّ، أما المستوى الشخصيّ، أي نزعة التشكّك في الذات، فلم تزدهر إلا في فترة متأخرة من الحداثة؛ السائد قبل ذلك هو التطوّر الطبيعيّ في تجربة الكاتب، ونضج خبرته مع الزمن. قلّما نجد كتّاباً من مرحلة سابقة يعبّرون عن وساوس تجاه نصوصهم، على الأقلّ لا نلمس بوضوح أسبقيّة للشكّ على الكتابة، أو تخلّلاً فيها.
مع كلّ التطورات السابقة بقي النص هو الأصل، وظلّت الفكرة الشائعة تضع النقد في مرتبة لاحقة أو أدنى، رغم أنّ “الهدم” أنشأ في كثير من الحالات منظومة تفوّق العمل موضوع النقد. ولعل وضعيّة الكاتب ناقداً نصّه تؤذن بتداعي فكرة الأسبقية، أو الأصل، عندما يكون الشكّ سابقاً على النص، وهذا لا يتطلّب أن يتحوّل الكتّاب إلى نقّاد طبعاً. ما يلفت الانتباه في هذا السياق قلّة النصوص التي أُعيد النظر فيها من قبل كتّابها، باستثناء إضافة بعض الملاحظات على طبعات جديدة، أو وضع الملاحظات على شكل مقدّمة لها، وإذا تجاوزنا النصوص الفكريّة إلى النصوص الأدبيّة نجد ندرة في النصوص الأدبيّة التي تعرّضت إلى تعديل مع تعدّد طبعاتها. على سبيل المثال حالات نادرة هي التي بادر فيها الشعراء إلى تعديل نصّ شعريّ أثناء إعادة طباعته، وأكثر ندرة، إن لم تكن معدومة، هي الحالات التي قام فيها روائيّ بتعديل رواية له أثناء إعادة طباعتها، مع أنّ الرواية عموماً تسمح بتعدد الاحتمالات، واستنباط مسارب لم تستنفذ من قبل. الأكثر شيوعاً أن نجد كتّاباً يعلنون تنكّرهم لأعمال سابقة لهم، وهذا التنصّل يأتي غالباً بعد فوات الأوان، ويخلّف ضجيجاً إعلامياً يعلو على فاعليته النقدية.
تسجّل الحداثة واحدة من فضائلها “الماكرة” عندما تعزّز اللاطمأنينة في نفس الكاتب، فمنذ عصر الحداثة بات الكاتب أكثر ثقة بالنفس وأقلّ إيماناً بها في الوقت ذاته؛ ازدادت معرفة الكاتب وإحاطته بتيارات عصره، وأهمّ ما في هذه الإحاطة أنّها طرائق متوالدة لخدش مسلّماته. لا يستطيع الحداثيّ التعيّشَ طويلاً على وهم الإنجاز، وليس مسموحاً له أن يستكين إلى موضة؛ إنه أمهر من أن يُخدَع أو حتى أن ينطلي عليه نجاحه، بل إنّ النجاح قد يحمل له “تهديداً” إضافياً؛ هذه المفارقة الساخرة المؤلمة التي عبّر عنها مبكّراً سان جون بيرس في قصيدته “أناباز”:
لقد كتب قصائد عظيمة حتّى إن البعض قد قرأه حقّاً.
موقع الاوان