يمين أوروبا المتطرّف بعد يورغ هايدر: أيّ حزام عفة؟
صبحي حديدي
قبل أيام كان يورغ هايدر، السياسي النمساوي اليميني المتطرف، قد لقي مصرعه في حادث سير كان هو المتسبب الوحيد فيه، وبذلك شاءت الأقدار أن يختم حياته الصاخبة، الحافلة بالدراما، على نحو عبثي لا يفتقر إلى البعد الدرامي. وأمّا في الجانب السياسي ـ الشخصيّ، فإنّ الاقدار ذاتها بدت وكأنها تنصفه في التوقيت، إذْ رحل وقد حقّق، قبل أسابيع قليلة، نصراً بيّناً في الإنتخابات البرلمانية، أعاد حزبه ‘التحالف الشعبي من أجل مستقبل النمسا’، الفتيّ والصغير، إلى قلب المعادلة السياسية النمساوية، حين حصل على 11’، أي ما يزيد بثلاثة أضعاف على النسبة التي حققها الحزب في انتخابات 2006، وبزيادة 12 مقعداً.
رحيل هايدر جدير بوقفة تأمّل خاصة، ليس على صعيد النمسا المعاصرة وحدها، بل كذلك في السياق الأعرض لصعود الحركات السياسية اليمينية المتطرّفة على امتداد أوروبا الراهنة، بأسرها، وما إذا كانت تتقدّم أو تتقهقر وفق نواظم اجتماعية وفكرية وثقافية متماثلة. ويكتسب الأمر مغزى إضافياً في الشروط الراهنة من حياة الإتحاد الأوروبي، وتفاقم مشكلات البطالة والركود والمآزق الإقتصادية والإنهيارات المصرفية، وصلة هذه كلّها بمسائل الهجرة والإندماج. هو، كذلك، مناسبة مواتية لمناقشة المآلات العاصفة التي تنتهي إليها، بين حين وآخر، خيارات الناخب الأوروبي إذْ يقصد صندوق الإقتراع وهو يتحسس محفظته أوّلاً، أو تستفيق في دواخله بعض أحاسيس الإنعزال، والخوف من الآخر، والرهاب، والعنصرية.
والمرء، هنا، يتذكّر أنّ حوليات التاريخ الأوروبي المعاصر، وليس تاريخ النمسا فحسب، سوف تحفظ لشخص هايدر ذلك الإختراق الإنتخابي الصاعق الذي أنجزه وهو على رأس حزب ‘الحرّية’، في الإنتخابات البرلمانية خريف العام 1999، ممّا اضطرّ الحزب اليميني الأوّل في البلاد، ‘الشعب’، إلى تشكيل ائتلاف حكومي ضمّ حزب هايدر. وكانت تلك الهزّة السياسية قد استولدت السؤال الكبير الذي بدا أشبه بلطمة حادّة في وجه الإتحاد الأوروبي والفلسفة الديمقراطية الغربية عموماً: هل نَخضع لإرادة 27’ من الناخبين في النمسا، قرّروا رفع حزب هايدر إلى المرتبة الثانية في سلّم الأحزاب والقوى السياسية؟ أم نُخضع هذه الإرادة ذاتها إلى اعتبارات أخرى، صحيحة أو خاطئة، عتيقة مستفيقة أو جديدة مستجدة، لكنها في كلّ حال تسير على نقيض تامّ مع القواعد التي يفرضها صندوق الإقتراع في انتخابات حرّة ونزيهة بنسبة 100’؟
المفاجأة كانت استقرار الموقف الأوروبي على خيار لاديمقراطي، وخارج على القانون في الواقع، يطالب بمقاطعة النمسا وعزلها دبلوماسياً إذا شارك حزب هايدر في ائتلاف حكومي. لم يكن في اتفاقيات الإتحاد أيّ نصّ قانوني يخوّل السادة رؤساء دول وحكومات أوروبا الـ 14، آنذاك، حقّ التدخّل في أمر داخلي صرف يخصّ الدولة الـ 15، العضو في الإتحاد الأوروبي، ذات السيادة والإستقلال، الديمقراطية، الخ…
صحيح أنّ الكثير من المخاوف كانت شرعية إزاء صعود هايدر وحزب ‘الحرّية’ في بلد مثل النمسا بصفة خاصة، سيّما إذا وُضعت تلك المخاوف في سياقات اجتماعية ـ سياسية ملموسة. لكنّ المنطقي، والشرعيّ أكثر، أنّ التخوّف من هايدر، أياً كانت عواقب صعوده، لا يطمس هذه الحقيقة البسيطة: الناخب النمساوي حرّ في ما يختار، والضغط على إرادته (خصوصاً بعد أن أعرب عنها بوضوح) ليس تدخلاً في شؤون هذا الناخب فحسب، بل هو مسعى لقهر تلك الإرادة وإجبارها على اتخاذ ما لا تريد. وأن تبلغ الديمقراطيات الغربية هذا المقدار من التناقض بين محتوى الشرائع وأشكال تطبيقها، كان تطوّراً كبير الدلالة، يكشف وجود خلل تكويني في البنية ذاتها، قادر على تشويه الشكل مثل المحتوى.
الدلالة الأخرى تمثلت في أنّ الإجراءات القمعية، التي لجأ إليها الإتحاد الأوروبي بعد تشكيل ائتلاف حكومي ضمّ حزب ‘الشعب’ وحزب ‘الحرية’، كانت تعكس حراجة الموقف المضحك الذي وضعت الدول الأوروبية نفسها فيه: لا اتصالات ثنائية على المستوى السياسي مع حكومة ولفغانغ شوسيل ـ يورغ هايدر؛ لا دعم للمرشحين النمساويين إلى أيّ منصب في الهيئات الدولية؛ لا استقبال لسفراء النمسا في الدول الـ 14 إلا على مستوى تقني! ومن الواضح أنّ الإتحاد لم يعلن عن إجراءات أخرى ذات شأن، لأنه ببساطة لم يكن يملك أيّ نصّ قانوني يخوّله اللجوء إلى مستوى زجري أعلى وأوضح. خطورة تلك الإجراءات كانت، مع ذلك، تكمن في سَنّ سابقة كبرى حول التدخّل في الشؤون الداخلية لدولة مستقلة ذات سيادة من جهة، وحول احتمال تصدير هذه السابقة إلى دول أخرى، هنا وهناك خارج الإتحاد الأوروبي من جهة ثانية. الرسالة التالية يمكن أن تصبح هكذا: ليست نتائج صندوق الإقتراع هي ما يُعتدّ به، بل أحكام القيمة الإيديولوجية أو الأخلاقية أو التاريخية، هذه التي تحتكرها الثقافة المهيمنة كونياً، أو تحتكر حقّ الإفتاء في خيرها أو شرّها. الخطوة الثالثة هي تأثيم الناخب نفسه، وربما تأثيم الأمّة بأسرها، كابراً عن كابر.
وهكذا سمعنا رئيس الكنيست الإسرائيلي آنذاك، أفراهام بورغ، وهو يمارس ذلك النوع بالذات من التأثيم الجماعي، حين قال: ‘لم نُصدم جميعاً بنتائج الإنتخابات النمساوية فقط، بل صُدمنا بحقيقة أنّ واحداً من كلّ أربعة نمساويين لم يتعلّم كما يبدو الدروس التاريخية التي خلّفها نمساوي آخر يدعى أدولف هتلر، ونحن اليوم نشهد عودة الماضي. المشكلة، بالتالي، تكمن في الشعب النمساوي ذاته’. وما هو، إذاً، الحلّ الأفضل لمشكلة هذا الشعب؟ إغلاق صناديق الإقتراع مثلاً؟ ‘إعادة تربية’ هذا الشعب؟ ‘تطهير’ شرائحه من العصاة الضالين؟
وزير خارجية الدولة العبرية الأسبق، دافيد ليفي، كان من جانبه قد دمغ الشعب النمساوي بوصمة الجريمة، حين اعتبر أنّ ثمانية ملايين نمساوي يحملون ـ جميعهم، بلا أيّ استثناء! ـ وصمة قابيل على جباههم، من الآن فصاعداً. لكنّ صحيفة ‘لوموند’ الفرنسية سرعان ما نشرت مقالة قصيرة للموسيقيّ النمساوي بول بادورا ـ سكودا، الذي ذُبح ثلاثة من أعضاء أسرته في مخيّمات الإعتقال النازية، يردّ فيها على دافيد ليفي وعلى الأصوات الطهورية الأوروبية التي تتعالى من كل حدب وصوب. والمقالة بليغة حقاً، لأنها تقول ببساطة: دعونا وشأننا!
‘لماذا هذه الإحتجاجات العنيفة ضد السياسة الداخلية لدولة صغيرة؟ إنني أسجّل، مندهشاً، أنّ الحرب في الشيشان ـ والتي قضت على الآلاف من الأرواح البشرية ـ لم تُقابل باستنكار مماثل’ لهذا الإستنكار الذي تبديه أوروبا إزاء انتخابات النمسا، كتب بادورا ـ سكودا. ثم اقتبس مقالة لمواطن نمساوي يهودي آخر، يردّ فيها على دافيد ليفي: ‘يبدو أنّ السيد ليفي لا يعرف النمسا ولا أوروبا الوسطى، ومن الخير له أن يسكت. ومن المؤسف أنّ الحكومة النمساوية، مثل الغالبية العظمى لوسائل الإعلام النمساوية، لم تبادر إلى الردّ المناسب على الوزير الإسرائيلي’، كتب فريتز مولدن.
والحال أنّ النمساويين من أمثال بادورا ـ سكودا ومولدن (وهم أبناء ضحايا النازية مثل ليفي، بل أكثر) وقفوا ذلك الموقف لأنهم كانوا يعرفون طبيعة الأسباب التي حتّمت صعود حزب هايدر، من جهة أولى؛ وأنّ تلك الأسباب لا تقتصر أبداً على تصريحاته المعادية للسامية، أو تلك التي تمجّد الرايخ الثالث، لأنّ هايدر كان أكثر ذكاءً من أن يتركها سلاحاً في يد خصومه، من جهة ثانية، فاعتذر عنها دون أن يرفّ له جفن. الأسباب الحقّة تضرب بجذورها عميقاً في طبيعة التكوين التاريخي والإجتماعي ـ السياسي والإيديولوجي للدولة النمساوية ذاتها، ومعضلات استمرارها في صيغة قلقة بين الماضي البعيد الإمبراطوري والماضي القريب النازي، فضلاً عن المشكلات الأخرى التي تخصّ ركود الحياة السياسية على امتداد عقود طويلة بين حزبَين اثنين لا ثالث لهما.
وإذْ راقب نمساويون من أمثال بادورا ـ سكودا ومولدن صعود هايدر بأسف وأسى وقلق، فإنهم في الآن ذاته أبوا اعتبار الرجل مولوداً خرافياً هبط من الغيهب على أرض البشر: إنه جزء من ماضي النمسا، وهو بالتالي جزء من حاضرها ومستقبلها أيضاً؛ وإدارة الخلاف معه، ومع عقائده وسياساته وناخبيه، لا تتمّ بوسائل التأثيم الجماعي والإدانة والمقاطعة ودمغ الجباه بوصمة قابيل، بل بالنضال اليومي، الطويل والدؤوب والمنهجي.
وهؤلاء أدركوا، أكثر بكثير من الدول الأوروبية الـ 14 مضافاً إليها الولايات المتحدة والدولة العبرية، أنّ البديل عن ائتلاف شوسيل ـ هايدر هو حالة أكثر تعقيداً وصعوبة وغرابة، هي ائتلاف هايدر ـ هايدر!
في انتخابات البرلمان الأوروبي لسنة 1997، كان حزب هايدر قد حقق نسبة 28’، وصار يحتلّ المركز الثالث بين أحزاب النمسا؛ وفي سنة 1999 انتُخب هايدر حاكماً لمنطقة كورنثيا، وحقق نتيجة كاسحة؛ وفي السنة ذاتها قرّر الناخب النمساوي وضع حزب ‘الحرية’ في المرتبة الثانية… في غمرة هذا الصعود المتعاظم، فشلت كلّ الجهود التي بذلها الحزب الأوّل (الإشتراكيون، جماعة المستشار السابق فكتور كليما) والحزب الثالث (اليمينيون، جماعة ولفغانغ شوسيل) من أجل تشكيل حكومة ائتلاف يسارية ـ يمينية، وكان جشع شوسيل وحزب ‘الشعب’ هو السبب الأكبر في تعثّر تلك الجهود.
ولكي يدلل الناخب النمساوي على حيوية خياراته، فقد ألحق هزيمة نكراء بحزب هايدر في الإنتخابات المبكرة لعام 2002، كما تعرّض الحزب لسلسلة انشقاقات وتحوّلات، كان في عدادها خروج هايدر نفسه من قيادة الحزب، ثمّ طرده على يد زعيم الحزب الجديد هيلمار كاباس، وصولاً إلى تأسيس ‘التحالف الشعبي من أجل مستقبل النمسا’. ثمّ لكي يبرهن الناخب ذاته أنّ صعود هايدر مسألة اجتماعية ـ سياسية معقدة، وليس محض سحابة صيف عابرة، فقد حقّق حزبه الجديد نتيجة صاعقة أخرى في انتخابات أيلول (سبتمبر) الماضي.
وأمّا هايدر نفسه فقد واصل إنتاج مواقفه الدراماتيكية، فزار العراق مرّتين في عام واحد، سنة 2000، والتقى بصدّام حسين، وهاجم الحصار، والسياسة الأمريكية، كما وصف ونستون تشرشل بأنه مجرم حرب أسوأ من ستالين، كما سعى إلى تلطيف خطابه تجاه إسرائيل واليهود ومعسكرات الإعتقال النازية، وحاول استثمار زيارته إلى متحف الهولوكوست في واشنطن ومركز سيمون فيسنتال في لوس أنجليس. لكنه، في الآن ذاته، واصل استخدام لغة عنصرية، هي الأقذع والأخبث، في وصف الأجانب المقيمين على أرض النمسا، وفي تغذية مشاعر الرهاب والإنعزال والعنصرية.
ولقد رحل وهو يعيش طور نهوض مفاجىء، بعد كبوة عارضة كما اتضح، ولهذا فإنّه يغادر النمسا المعاصرة جسداً فقط، لأنّ أمثولته السياسية والفكرية والثقافية ما تزال حيّة بعده، في بلده كما في طول أوروبا وعرضها. وهكذا، لكي نضرب مثالاً من دولة اوروبية واحدة، وزعيم ينتمي إلى جيل هايدر، كان الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي قد استقبل السياسيّ اليميني المتطرّف جان ـ ماري لوبين في قصر الإليزيه، للمرّة الأولى في تاريخ الجمهورية الخامسة؛ كما وضع بشار الأسد على منصّة الإحتفال بالثورة الفرنسية، وانفتح وينفتح على أنظمة استبداد وفساد، شرقاً وغرباً.
ومَنْ كان بينهم بلا هايدر، فليرجم النمسا المعاصرة بحجارة التأثيم السياسي والأخلاقي، وليطوّق إرادة ناخبيها بكلّ أحزمة العفّة!
‘ كاتب وباحث سوري يقيم في باريس
خاص – صفحات سورية –