“ليلة التنبؤ” لبول أوستر إلى العربية: فتنة الكتابة موضوعاً وتقنية حداثية
إبراهيم فرغلي
“يستطيع الوهم الروائي في أشكاله الأكثر جذرية، أن يذهب بعيدا مع دون كيشوت وإيما بوفاري إلى درجة الإلغاء الكامل للحدود بين الواقع والخيال القصصي، ويجد بذلك أساسه في معايشة الواقع باعتباره وهما”. هكذا يقول بيار بورديو في معرض تناوله خصوصيات الفن الروائي في كتابه الشهير “قواعد الفن”، ويمكنني أن اضيف إلى الاستشهادين اللذين استخدمهما في تلك الفقرة، نموذجا حداثيا للفكرة ذاتها، ممثلا في رواية “ليلة التنبؤ” للكاتب الأميركي بول أوستر، التي صدرت ترجمتها العربية أخيرا عن سلسلة إبداعات عالمية التي ينشرها المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب في الكويت، وترجمها الكاتب المصري محمد هاشم عبد السلام بدقة واقتدار.
ففي “ليلة التنبؤ” يلغي بول أوستر الحواجز بين الوهم والواقع مختلقا أسلوبا حداثيا خاصا؛ متكئا على روح الرواية البوليسية يصنع به رواية داخل رواية، من خلال تقاطع السرد وتضفيره في قصة كاتب روائي (يُعرف باسم سيدني أور) يتعافى من مرضه ليكتب نصا روائيا منطلقا من فكرة وردت في رواية بوليسية أميركية بعنوان “الصقر المالطي” للكاتب الأميركي داشيل هاميت، تتناول قصة بطل نجا من الموت بأعجوبة، فقرر أن يبدأ حياة جديدة لا علاقة لها بحياته السابقة.
في هذا النص يقدم أوستر درسا في كتابة رواية ممتعة من أول سطورها حتى الكلمة الأخيرة، في نص متصل، بلا وقفات أو فصول، الى درجة أن القارئ لا يمكن أن يشرد عن كلمة واحدة، وإن فعل، فسوف يعود إليها مرارا وتكرارا، فلا مجال في نص كهذا لحشو من أي نوع.
لا يفعل أوستر ذلك، فقط، بقدراته في التشويق، المستمدة من تراث القص البوليسي، التي يعرف بأنه من أجدر مَن أسبغ عليها الطابع التخييلي الرفيع المستوى، ولكن أيضا، من قدرته الفريدة على غزل التفاصيل الدقيقة، بدأب واحتراف.
يعبر القارئ في رحلة فنية فريدة مع الراوي الكاتب سيدني أور إلى “قصر الورق”، وهو حانوت لبيع القرطاسية، يمتلكه رجل صيني يبحث عن الحلم الأميركي بديلا من يأس وإحباط عاناهما أبوه في موطنه. رحلة القارئ تتوافر بوصف الراوي لمحتويات المكان واجوائه، بشكل يجعل من الورق والقرطاسية فتنة، وصولا الى دفتر أزرق مصنوع في البرتغال، سيغويه لاحقا بكتابة رواية جديدة، يحاول بها أن يضع حدا لمشكلاته المادية بسبب تراكم الديون التي تفاقمت بعد مرضه. ثم يعبر القارئ مع الراوي إلى داخل ذهنه وهو يختلق شخصية بطل العمل نيك بوين؛ الذي يعمل محررا في إحدى دور النشر، يصل إلى مكتبه مخطوط نادر لكاتبة متوفية بعنوان “ليلة التنبؤ”، من طريق حفيدتها الشابة الفاتنة. ويشغف بها نيك من اللحظة الأولى، ثم يوضح الكاتب في هامش كيف استوحى افتتان البطل بالبطلة من علاقته هو بزوجته، المصممة الفنية في إحدى شركات النشر، حينما التقاها للمرة الأولى لتصميم غلاف كتابه.
هكذا تتوالى دروب السرد وتقاطعاته، بين قصة الراوي، وعلاقته الملتبسة بزوجته، وهربه منها إلى ولاية أميركية حيث يلقي بنفسه إلى مصير مختلف تماما، وبين قصة الكاتب نفسه في حياته الواقعية، والتي ستحيل لاحقا على علاقته بزوجته، وشكوكه حول علاقتها بكاتب ذائع الصيت كان صديقا لأبيها، وبمنزلة أبيها الروحي، لكن الكاتب سيدرك أن هناك شيئا لا يعرفه في خصوص تلك العلاقة، بينما تتعثر القصة التي يكتبها بعد أن يترك بطله وحيدا معزولا في غرفة تحت الأرض مجهزة للحماية من هجوم نووي.
وكالعادة، وعلى الرغم من كل تلك التشابكات، فإن حضور نيويورك يظل اساسيا في العمل، عبر وصف الراوي للأحياء والشوارع، وبينها بعض الأحياء الفقيرة، المنسية في أطراف نيويورك، والخطيرة بالضرورة كما تقدمها السينما الأميركية، وهو ملمح من ملامح الكتابة لدى أوستر في شكل عام.
يقول مترجم الرواية محمد هاشم عبد السلام في تقديم الترجمة إن السؤال عن موضوع الرواية هو سؤال لا يمكن الإجابة عنه، فهي ليست رواية اجتماعية أو سياسية، ومع ذلك فهي تجيب عن العديد من التساؤلات المعاصرة، ومعه كل الحق فهي تجيب عن أسئلة عدة، عن حياة المواطن الأميركي اليومية في مجتمع الرفاهية المزعوم، أو الوهم الأميركي، وعن أن “الفكرة هي ان الحكومات دائما في حاجة إلى أعداء، حتى عندما لا تكون في حالة حرب. حتى لو لم يكن لديك عدو حقيقي. اصنع واحدا وانشر الشائعة، هذا يخيف المواطنين”. كما تجيب عن سؤال صراع الأجيال في أميركا، وعلاقة القيم بالحرية، وفي الأساس، تسأل مرات عن معنى الحب في خضم كل تلك الفوضى.
في مستوى آخر فإن أي قراءة نقدية يمكن أن تتبنى فكرة توازي هذه التشابكات التقنية في بنية النص مع التعقيدات الحياتية في مستوى العلاقات الاجتماعية في المجتمع الأميركي، من جهة، وفي ظلال هذه العلاقات في أرجاء واسعة من العالم اليوم بفضل المظاهر العولمية بكل عناصرها التقنية والاقتصادية والسياسية في مستوى تال.
لكن أحد الأسئلة المحورية الذي تجيب عنه الرواية هو السؤال عن فعل الكتابة، ومدى تعقده، وصعوبته. عن سحر الكتابة وفتنتها، وجماليتها، ومسالكها، ودروبها المعقدة، وما قد يقود إليه كل درب من تلك الدروب من توغل للنص أو وصوله الى حائط مسدود. باختصار، تطرح الرواية سؤال الأسلوب الأدبي، وجماليات الكتابة، في صوغ فني رفيع المستوى، وهو ما يتوالى على مدار الحكايتين المتوازيتين الرئيسيتين في النص، ثم في مزالق وأزقة أخرى، بعضها مجرد أفكار لأعمال أدبية أو نصوص سينمائية يفكر فيها الكاتب سيدني أور، أو الراوي نيك بوين. وعلى الرغم من حداثة تقنية النص فإن بول أوستر يضيف إليها بعدا جديدا ممثلا في هوامش يشرح فيها الراوي ما يدور في ذهنه من تداعيات عندما يكتب على لسان بطله كلمة أو يصفه وصفا في عينه. إلا أن الهوامش في النسخة العربية قد تم ترحيلها إلى نهاية الكتاب، على غير هوى المترجم، وعلى نقيض النص الأصلي.
ثمة إحساس قوي راودني، وقد تحققت من المترجم فأكد صحة ظني، أن النص المترجم قد تعرض لرقابة الناشر، في فقرة تخص زيارة الكاتب مع الرجل الصيني لملهى يعرف باسم “مصنع الحياكة” (هناك حانة نيويوركية بالاسم نفسه يعرف بول اوستر بأنه يتردد إليها، وفيه يعزف شباب موسيقى الجاز، كما أشار في الحوار العربي الوحيد الذي أجرته معه جمانة حداد، بل ودلها إليها). في ذلك الملهى يلتقي سدني فتاة سمراء نفهم أنه لا يستطيع مقاومة إغرائها على الرغم من استقامته وحبه الشديد لزوجته، ثم ينتقل النص إلى منطقة أخرى بلا مقدمات، كما يظهر لاحقا أن هناك سوء تفاهم قوياً بين الكاتب والرجل الصيني لا يبدو واضحا للقارئ، ولا مبررا، بسبب الحوادث التي حذفت رقابيا.
هناك فقرة أخرى تتضمن مشهدا للعلاقة بين الكاتب وزوجته قد تعرضت للرقابة والحذف، وسيكون من الممل تكرار الشجب للرقابة ومحترفيها والمتطوعين بها توددا إلى قوى الظلام والرجعية العربية، وربما خوفا منها. شخصيا مللت من تكرار الكلام في هذا الموضوع. مع ذلك لا أستطيع، كقارئ، أن أتلقى الصفعة التي يوجهها إليَّ الرقيب، ظنا منه أو توهما، أنه يمتلك صكا يتيح له أن يعرف ما يليق لي أن أعرف أو أقرأ وما لا يليق. لا يمكنني تلقي الصفعة مكتوفا، فعلى الأقل ينبغي فضح ذلك الرقيب الغامض، ولن أقول الرجعي بكل إحالات الوصف، كلما أتيحت الفرصة، وسنظل نرفض الرقابة العربية حتى تشهد ثقافتنا يوما حريتها المهدورة والمستباحة.
ولعل أحد أوجه مواجهة الرقيب هو إعادة المترجم نشر النص الكامل في دار نشر أخرى تحترم حرية القارئ، وحق الكاتب في ان ينشر نصه كاملا، وخصوصا أن بين ما تشير إليه الرواية هو القوة الرهيبة التي تمتلكها الكلمات: “الكلمات حقيقية وكل ما هو بشري حقيقي، وفي بعض الأحيان نعرف الأشياء قبل أن تحدث حتى لو لم نكن مدركين لها. إننا نعيش في الحاضر، إلا أن المستقبل موجود داخلنا في كل لحظة. ربما يكون هذا هو كل مناط الكتابة”. وهو المنطق نفسه الذي سيمكن الكاتب من التنبؤ بما خفي عنه من حوادث، في علاقة زوجته بصديق العائلة الكاتب الشهير، وفي العديد من التفاصيل الأخرى الغامضة، وحينئذ تحدث أمور درامية، ستكشف للكاتب، على رغم طابعها المأساوي، مدى دقة قدرته على التنبؤ عبر الكلمات التي كان قد كتبها في هامش بالدفتر الأزرق.