مسارات فلسطين
صبحي حديدي
شرّفني أن أشارك ـ صحبة برايتن بريتنباخ، محمود شقير، ليلى شهيد، الياس خوري، الياس صنبر، إدوار غليسان، خوان غويتيسولو، فاروق مردم بك، الممثّل المسرحي الفرنسي ديدييه ساندر، والاخوة جبران (سمير، وسام، وعدنان) ـ في أمسية تكريم محمود درويش، التي شهدها مدرّج المركز الثقافيLes Halles de Schaerbeek في العاصمة البلجيكية بروكسيل، مساء 8 تشرين الأول (اكتوبر) الجاري. كانت الأمسية بمثابة النشاط الرسميّ الأول في برنامج ‘مسارات فلسطين’، أو ذلك الموسم الطويل الغنيّ المتعدد من الأنشطة المكرّسة للثقافة الفلسطينية، في الأدب والمسرح والغناء والموسيقى والتشكيل والتصوير، بمشاركة عشرات الكتّاب والفنّانين والمثقفين الفلسطينيين، في خمس مدن بلجيكية.
وكان البرنامج قد رأى النور بمبادرة خلاقة مشتركة من ليلى شهيد، سفيرة فلسطين في بلجيكا ولوكسمبورغ والإتحاد الأوروبي، والسيدة فابيين فيرستراتن، المفوّضة العامة لـ ‘مسارات’؛ وبدعم حيوي من السيدة فضيلة العنان، وزيرة الثقافة والشباب، وأوّل وزيرة بلجيكية من أصل عربي مغربي؛ وأثمر اليوم، على نحو يستحقّ التقدير الكبير، بجهود كامل فريق العمل المشترك، البلجيكي ـ الفلسطيني. وكان مقرّراً أن يكون درويش نفسه في القاعة، مساء الاحتفاء، لا لكي يلقي شعراً فحسب، بل لكي يشارك في الافتتاح الرسمي لأنه وافق، منذ أن طُرحت الفكرة للمرّة الأولى، أن يكون الرئيس الفخري لهذا الموسم الثقافي الفلسطيني المميّز.
والحال أنّ الخاطر الأوّل الذي راودني، وأنا أقلّب صفحات برنامج الأنشطة الذي يشتمل على أكثر من مئة تظاهرة، كان نقيض عنوان عمل درويش النثري الأشهر، ‘ذاكرة للنسيان’، أي: ذاكرة ليست، البتة، للنسيان. ذلك لأنها ليست مرشحة لأيّ أرشيف آخر سوى ذاك الذي يسجّل ويحفظ ويستعيد: من حضور إلى وجود إلى مقاومة، ومن إبداع في قلب المعاناة إلى خلق في غيهب الحصار، ومن البقاء اليوميّ البسيط إلى ترقيته إنسانياً نحو حافة الأمثولة.
ذاكرة ليست للنسيان، لأنها لا يمكن أن تكون سوى ذلك المستوى الشامل المحتشد بالمعنى وبممارسة الوجود في المعنى، حيث يتوجّب على الفلسطينيين أن يطوّروا أنماط حياتهم في غمرة ثقافة المقاومة، تحت الحراب، وأمام البلدوزر، وفي قاعة المفاوضات؛ وأن يفرزوا تلك الأشكال الحيوية الأكثر تعبيراً عن تجاربهم الروحية والمادية والاجتماعية والسياسية. وذاكرة ليست للنسيان لأن عُدّة أية سلطة احتلال هي ابتذال الشخصية المقاومة في الثقافة الوطنية للشعب الذي لا مناص له من المقاومة، وهي استيلاد ‘نَحْو’ بذيء لإعراب العلاقة بين ‘تاريخ ما قبل’ و’تاريخ ما بعد’، بين الاحتلال والاحتلال ذاته وقد صار ملتبَساً (وبالتالي شبه شرعي) بفضيلة النصوص والإتفاقات ومذكرات التفاهم.
اليهودي لا ينسى البتة، فلماذا يتوجّب أن ينسى الفلسطيني تلك الذاكرة؟ وهل يستطيع أن ينسى حقاً، حتى إذا شاءت له المؤسسة أن يفعل، إلى أجل غير مسمّى، أو حتى إلى أجل محدّد مسمّى في النصوص إياها؟ وأيضاً، لماذا يكون ‘السلام’، أيّ سلام في الواقع، بوّابة وعاقبة وحجّة لا لتضميد جراح الماضي، بل لنسيانها تماماً؟ وهل يجرؤ الإسرائيلي بالذات، أو أيّ يهودي أينما كان، على مطالبة الفلسطيني بالنسيان؟
إدوارد سعيد روى هذه الحكاية، التي وقعت عام 1988. كان يشارك في ندوة أقامتها مجلة Tikkun، وهي الفصلية الناطقة بلسان ما تبقّى في الولايات المتحدة من إنتلجنسيا يسارية يهودية، والى جانبه مايكل ولتزر، الفيلسوف الأمريكي الذي يوصف عادة بـ ‘اليساري’، دون أن تغيّر الصفة هذه من مزاجه الصهيوني حتى النخاع. وكانت المناسبة هي إعلان المجلس الوطني الفلسطيني الإعتراف بدولة اسرائيل وقبول مبدأ الدولتين، الأمر الذي دفع ولتزر إلى مخاطبة سعيد كما يلي: ‘حسناً، إسمع الآن: لقد اعترفتم بإسرائيل، ولا أدري إذا كانت دولتكم ينبغي أن تقوم أم لا. ولكني أعرف أنه ينبغي عليكم نسيان الماضي، والتحدّث الآن عن المستقبل فقط’. ولقد كتب سعيد يقول إنه لن ينسى أبداً سيّدة يهودية كانت في القاعة، هبّت واقفة، وردّت على ولتزر بصوت يرتعش غضباً: ‘كيف تجرؤ؟ كيف تجرؤ على مطالبة الفلسطيني بأن ينسى الماضي؟ كيف تجرؤ على مطالبة أيّ شعب بأن ينسى الماضي؟ ألسنا نحن الذين لا نكفّ عن مطالبة العالم بأن يتذكّر ماضينا؟ كيف تجرؤ، وأنت اليهودي؟’.
ولهذا فإنّ برنامج أنشطة ‘مسارات فلسطين’ لا يميّز، في إحياء مختلف الركائز الثقافية للذاكرة الوطنية الفلسطينية، بين فلسطين 1948 وفلسطين 1967، فلسطين الداخل وفلسطين الشتات؛ وهناك، على سبيل ضرب المثال من أغنية الـ ‘راب’ الفلسطينية، فرقة Gazateam (الغزاوية، كما يشير اسمها)، وفرقة DAM (من شباب عرب 48، أصحاب الأغنية الشهيرة ‘مين إرهابي؟’). وأياً كانت مسارات التسوية، أو مسارات العمل الوطني الفلسطيني ذاتها، على ما تفرزه يومياً من اتفاق أو شقاق، فإنّ مسارات فلسطين الثقافية في بلجيكا تنهض على تحصيل حاصل بسيط: هذه، كما تقول التسمية الرسمية ويبرهن البرنامج، هي ثقافة فلسطين… كلّ فلسطين.
ولعلّها، في فلسفة الذاكرة والتذكار، لا تردّد اصداء حكاية إدوارد سعيد ومايكل ولتزر فحسب؛ بل تقرأ، من جانب آخر، ذلك المستهلّ الشهير من قصيدة محمود درويش ‘يوميات جرح فلسطيني’: نحن في حلّ من التذكار/ فالكرمل فينا/ وعلى أهدابنا عشب الجليل…
خاص – صفحات سورية –