ذلك الحجاب الآخر
أدونيس
– 1 –
لا تريد السياسة الأميركية أي توازنٍ حقيقي، على أيّ مستوىً، بين اسرائيل والعرب. وهذا ما تؤكده التجربة على مدى خمسين أو ستين سنةً. فهي تريد أن تظلَّ اسرائيل في موقع التفوق، إن لم نقل الهيمنة، وأن يظلَّ العرب في موقع «الحماية».
«وصاية» أخرى على العرب بـ«جسمٍ» أميركي، هذه المرة، وبـ«روحٍ» اسرائيلية.
غير ان هذه السياسة تنهض على منطق الاستعمار التقليدي: يكفي الإمساك بسندان القوة ومطارق الأنظمة. وهو منطق أبطلتهُ الشعوبُ، أفراداً وجماعات.
هكذا تتواصل «الحرب» بين الأفراد والجماعات، عرباً ومسلمين، من جهة، واسرائيل وأميركا والأنظمة الحليفة لهما، من جهة ثانية. ومع أن الطرف الأول في هذه الحرب، قليلُ العدد والعدّة، فإن القضاء عليه ليس أمراً سهلاً.
وهي، إذاً، حربٌ طويلة.
ولعلها الأكثر بشاعةً بين الحروب: فهي، من الجهة العربية الإسلامية، ضدّ العدو وبين الأخ وأخيه في الوقت نفسه.
ومنطق «الحماية» هو نفسه يُخطط لها، لكي تطول وتتواصل هكذا، ببشاعتها ووسائلها، لغايةٍ واحدة: أن تظلّ الحاجة الى «الحماية» قائمةً ومطلوبةً. أن يظلّ «المسرح» قائماً:
حصار الأطفال في غزة، وتجويعهم، وقتلهم، يُردّ عليه بما يشابهه: قتل التلاميذ في حي كريات موشير، في القدس. وتتم «عمارة» هذا المسرح باسم الأب الواحد: ابراهيم، وباسم النبوّات الواحدة.
يا لهذا التاريخ الذي يلتهم أبناءه.
– 2 –
وضع ايران «الذريّ» يزعزعُ تلك الإرادة الأميركية – الإسرائيلية، خصوصاً أن أفراداً وجماعاتٍ يمدون لإيران أيديهم، ويفتحون لها قلوبهم وصدورهم.
لا بدّ، إذاً، بالنسبة الى المعسكر الآخر، من القضاء على هذا «الوضع». الحجّة جاهزة: أمن اسرائيل، أولاً. وعرب الأنظمة جاهزون لقبول هذه الحجة، فيما تفتك اسرائيل يومياً بما تبقى من هذه الأرض التي تُسمى فلسطين – (وقد نقول غداً: كانت تُسمى).
ولا بُدّ إذاً من أن يتحول العرب والمسلمون لا الى أندادٍ لإسرائيل، بل الى مجردِ سياجٍ لحمايتها.
يا لهذا التاريخ العربي الذي يخجل من كتابته حتى الحِبر.
– 3 –
الداخل الى دمشق في ضوء هذا المناخ السياسي، يُفاجأ بحيوية الشعب السوري – مرتبطةً، على الأخصّ، بالهم اليوميّ المرتبط هو الآخر، بالنظام وسياساته الداخلية، وهي، إجمالاً، حيويةُ انهماكٍ باليومي المباشر، أكثر مما هي حيوية «نظر». فالكلام، حتى ذلك الذي تضمه الكتب والمقالات هو، غالباً، بعيدٌ جداً عن كل ما يعد «جوهرياً»، و «ملحاً»، ذلك الذي لا ينهض المجتمع ولا يتغير إلا به، وبدءاً منه.
غير أنه، من جهة ثانية، لا يُفاجأ بالصراع العميق الصامت، بين ارادتين: الأولى تعمل على أن يكون الشعب، نظراً وعملاً، جزءاً من النظام، وتعمل الثانية، بالمقابل، على أن يكون النظام نظراً وعملاً، جزءاً من الشعب.
هذه الإرادة الثانية تتخطى حركات المعارضة، المُنظمة أو الظاهرة على الأقل، بأطيافها جميعاً، تلك المأخوذة بشهوة الوصول الى الحكم، دون أن يكون لديها مشروعُ ثقافيّ – تمدينيّ، واضحٌ، مفصل، ومُعلن. خطابها نفسه عامٌ جداً، و «متديِّن»، بحيث يبدو كأنه تنويعٌ على خطاب النظام الذي تحاربه. واذا كان بينهما فرقٌ، فهو في الدرجة لا في النوع.
ويدرك العارفون أن المعارضة، لا في سورية وحدها بل في جميع البلدان العربية، لا معنى لها ولا قيمة، إلاّ اذا انطلقت في رؤيةٍ انسانيّة حضاريّة، ومشروعٍ تمدينيّ – ثقافيّ، ينقل المجتمع العربي من أوضاعه القبلية – الثيوقراطية، الى أوضاع جديدة علمانية – ديموقراطية، يتساوى فيها الجميع، فيما وراء الانتماءات الدينية أو الاثنية – القومية. ونقطة البدء في هذا كله هي الجهرُ، بالفصل الكامل بين الدين والدولة، سياسةً وتشريعاً، تربيةً وتعليماً، ثقافةً وقيماً.
دون ذلك، ستكون المعارضة، موضوعياً، نظاماً آخر لا بد من معارضته. لأنها لن تكون، هي الأخرى، إلاّ شكلاً من أشكال المحافظة على «التخلف» باسم العمل على تحقيق «التقدم».
– 4 –
في هذا المناخ السياسي العربي السائد، تذكّرك دمشق أيضاً، أن الثقافة العربية السائدة هي نفسها حجابٌ آخر. والحجاب هنا وجهان: واحدٌ لواقعٍ يبدو كأنه «غيبٌ»، وآخر لغيبٍ يبدو كأنه الواقع.
كل من «يزور» ساحات هذه الثقافة، أو «يدخل» في كواليسها، يقدرُ أن يقول بيقينٍ كامل: لا دليلَ على وجود العربي في الثقافة العربية السائدة إلاّ كلمة» لا.
هكذا يبتكر بعضهم في اللغة «مدافئ» يتحلقون حولها هرباً من «الصقيع». اللغة نفسها، تقف هنا، دائماً على شفا الهاوية، وليست الطمأنينة في نظر بعضهم أجمل ما في هذا الوقوف، وإنما الأجمل هو هذا الوقوف ذاته.
انها ثقافة يحجب بعضها بعضاً داخل بعضها بعضاً: لا يتكلم فيها الليلُ إلا مع النهار، ولا يتكلم النهارُ إلاّ مع نفسه. أو كأنّ الفرد محكومٌ أبداً بأن يحيا حاملاً على كتفيه وفي عقله وقلبه صخرة سيزيف كأنه محكوم بأن يبيع السماء، لكن من أجل أن يشتري سلّماً.
ويبدو معظم الناس في هذه الثقافة، كأنهم ينامون ويستيقظون في كتابٍ من الصور والأمثلة والأخيلة. ويُخيل اليك، فيما تقلّب هذا الكتاب، أن الإنسان أحد اثنين: إما أنه جذرٌ لا ثمرة له، وإما أنه ثمرةٌ لا جذرَ لها.
ولا يبدو المقدّس في هذا كله، في أي بلدٍ في العالم، كما يبدو في البلدان العربية: غابةً ضخمةً من السجون والسلاسل. ولا يعود أحدٌ يعرف: هل البشر هم الآملون، والأرض هي اليائسة، أم هل البشر هم اليائسون، والأرضُ هي الآملة؟
– 5 –
هامش
فيما وراء النظام والمعارضة
عندما زرت تلك المدينة، كان النهار قفصاً وكان الضوء يتأوّه. غير أنني كنت أتعلّم كيف يكون البكاء أحياناً حبراً للفكر، ومادة للعمل، وكيف يغطّ البشر أقلامهم في محابرِ الموت، من كل نوع، ويكتبون سيرة العصر.
كنت أختبرُ أيضاً كيف تُجرح عينُ الفجرِ، كل يومٍ، بسكينٍ من الدمع.
وكيف لا يقدر الفضاءُ هو كذلك، ولا يعرفُ أن يضع الطيورَ في قفصِ الرّيح.
الحياة – 13/03/08