صبحي حديديصفحات ثقافية

نظريات لا تصلح للمراهقين

null


صبحي حديدي

ردّ الصديق خالد الحروب علي بعض النقد الذي تناول جائزة الـ بوكر للرواية العربية، أو بالأحري علي ناقد واحد شاء الحروب الإمتناع عن تسميته، فاعتبر أنّ نقده يقع في دائرة المراهقة ما بعد الكولونيالية . وفي فقرة استهلالية من ردّه هذا، كان الحروب قد امتدح تيارات النقد ما بعد الكولونيالية في الثقافة والأدب،
وأشار إلي أنها قدّمت إلماعات نقدية مبدعة ، و شقت مناهج جديدة قوّضت مركزيات عديدة، وخصوصاً الغربية في طورها الإمبريالي . لكنه أضاف: تطوّر علي هوامش تلك النظرات النقدية ما يمكن وصفه بـ النقد الما بعد كولونيالي المراهق . هذا النقد المسطح هو أحد أهمّ تمثلاث الإستشراق المعكوس الذي يري الغرب كتلة مصمتة واحدة ويخلط الثقافي بالسياسي بالأدبي بالإنساني بالإمبريالي، مضيعاً الفوارق مثلاً بين الغرب النقدي و الغرب السياسي والإمبريالي .

وبصرف النظر عن اختلاف المرء أو اتفاقه مع مضمون النقد الذي يردّ عليه الحروب، أري أنّ زجّ الناقد المعنيّ في خانة الما بعد كولونيالي ينطوي علي تصنيف قسري خاطيء في نظري (ولعلّ صاحب العلاقة، نفسه، لا يقبل به!)، من جانب أوّل؛ كما يُلحق، في الجانب الثاني القدحي الخاصّ بإطلاق نعت المراهقة ، غبناً كبيراً بحقّ أتباع تلك النظريات، خصوصاً أولئك الذين نجحوا في تفادي شراك الإستشراق المعكوس. ولكنّ مقالة الحروب فرصة، نادرة تماماً في الواقع ولا تسنح كلّ سنة، لإعادة التذكير بتيارات معاصرة بالغة الأهمية، وشبه مجهولة في ثقافتنا العربية.

ولعلّي أبدأ باقتباس كارل ماركس ـ الذي هتف ذات يوم: كلّ ما أعرفه أنني لست ماركسياً ، في الردّ علي مبتذلي أفكاره ـ فأقول: ثمة مقدار هائل من الإبتذال، ومثله التسطيح والإبتسار والاختزال والتشويه، شاب تلك النظريات حين انقلبت إلي موضة . لكنّ تسعة أعشار المسؤولية عن هذه الحال لا تقع علي عاتق روّاد النظريات الأوائل، ولا حتي علي السواد الأعظم من تلامذتهم كما أجازف بالقول، بل علي بعض الجامعات وبعض مراكز البحث وبعض دور النشر الأنغلو ـ سكسونية (البارزة الطليعية، مع ذلك!)، التي ركبت الموجة، فصعدت بالنظريات أو هبطت بها أو سكنت معها… كما هي طبائع الأمواج.

والحال أن العقدَين المنصرمَين شهدا تحوّل هذه النظريات إلي بضاعة رائجة سريعة التسويق، فقُدّر لنا أن نتابع حركة زاخرة أقرب إلي الإنفجار في الأبحاث والتطبيقات والدراسات والمعاجم التي تسلّط الأضواء علي مباديء النظريات ما بعد الكولونيالية، وتقتبس ممثّليها في أنطولوجيات تصدر عن مطابع أعرق الجامعات، وتقرّر تدريسها في مناهج واسعة مثل الدراسات الثقافية و النظرية الأدبية و الأدب المقارن . ولم يكن في وسع الذين آمنوا، مبكّرين، بأهمية هذه النظريات سوي أن يبتهجوا بالتحوّل الدراماتيكي، إذْ ما أبعد اليوم عن الأمس القريب. كذلك لم يكن في وسعهم إلا أن يحذروا ويحذّروا من عواقب هذا الإنفجار، في الآن ذاته. فمن الجلي أنّ اهتداء المؤسسات الأكاديمية المحافظة إلي هذا المصطلح بالذات إنّ هو إلاّ محاولة التفاف بارعة تتيح الهرب والتهرّب من مصطلحات أخري تزعج وتقضّ المضاجع: الإستعمار الجديد ، الإمبريالية ، المقاومة الثقافية .

وأذكر أنني، في عام 1991، كنت قد اقترحت علي محمود درويش أن تكون فصلية الكرمل هي السبّاقة إلي تقديم هذه النظريات وتعريف القاريء العربي بها، أملاً في استدراج نقاش عربي حول أسسها الفلسفية والتاريخية والنقدية من جهة، وحول صلاحية عُدّتها المنهجية في دراسة وتحليل شؤوننا الأدبية والفكرية والسياسية من جهة ثانية. الدراسة التي أعددتها، ونُشرت في العدد 47 من الكرمل (1993) بعنوان الخطاب ما بعد الكولونيالي في الأدب والنظرية النقدية ، قد تكون أثارت بعض الأسئلة، والكثير من تقليب الشفاه حول تلك المصطلحات الجديدة، وحول الأسماء الآسيوية العجيبة التي بدت كأنما هبطت من حالق: هومي بابا، غاياتري شاكرافورتي سبيفاك، عبد الرحمن جان محمد، إعجاز أحمد، قمقم سنغاري، عقيل بلغرامي… وحده الراحل الكبير إدوارد سعيد كان معروفاً، لأنه كان أستاذاً مؤسساً.

وفي حدود ما أعلم، وفوق كلّ ذي علم عليم، لم ينحدر أيّ من هؤلاء إلي سوية المراهقة النقدية التي يصفها الحروب، وسجالاتهم الرفيعة مع النقّاد أبناء الغرب (أو، موضوعياً، أحفاد الإستعمار القديم والإمبريالية) كانت راقية متقدّمة رفيعة، بلغ بعضها ذري كونية (مثل نقد سعيد للإستشراق، ونقد إعجاز أحمد لبعض التيارات الماركسية الأوروبية)، وبعضها صار منهجية أخري رديفة أو حتي نظيرة تفوّقت علي المنطلقات الأمّ (مثل تأملات هومي بابا حول الأمّة Nation والسرد Narration). ومن جانب آخر، لعلّ هكذا نظريات لا تصلح البتة لاستعمالات المراهقين، بالمعني الذي يقصده الحروب، بل تبدو طاردة لاهتماماتهم، محبطة مثبطة رتيبة!

وينبغي للأمر بأسره أن لا يحجب مسألتين مترابطَتيْن: المحاذير الفلسفية والتاريخية والإصطلاحية التي اكتنفت هذه النظريات منذ البدء، ومحاذير التلقّف السريع لها قبل أو دون المرور بنقدها في العمق، وتفصيل معضلاتها الداخلية الموروثة التي قد تطمسها الجاذبية الظاهرة لنظريات جذّابة بالفعل. وخير لنا أن لا نكرّر المساقات ذاتها التي قادتنا إلي النظريات الوجودية أو الألسنية أو البنيوية أو التفكيكية: إمّا أن تصلنا متأخرة مبتسَرة، أو أن نصل إليها متأخّرين مبتسِرين.

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى