صفحات الشعر

ما هذه اللغة التي تجلدنا

null
كمثل ألفرد جاري الذي حجبه الأب أوبو، كذلك شأن تريستان تزارا (1896 – 1963) مع “دادا”، حيث فعل الخلق يتجاوز الخالق. وليس في ذلك ما يسيء. فالخالق والمخلوق في العمل الفني، كانا ويبقيان في سباق دائم. ثمة مخلوقات فنية، تتردد اسماؤها على ألسنتنا أكثر من خالقيها. لقد خرجت مثلا، الموناليزا نهائيا من كنف دافنتشي، وكذلك شأن هاملت مع شكسبير، وعوليس مع هوميروس، ومدام بوفاري مع فلوبير، والليدي تشاترلي مع لورنس، وزوربا مع كازانتزاكيس ودون كيخوته مع ثرفانتس وشهرزاد والسندباد مع “الف ليلة وليلة” الخ. لكن هذا القدر يصبح مؤذياً عندما يبلغ حد حجب بقية أفعال الخلق لذلك الخالق. وعليه، لا يمكننا حصر اهمية تزارا بالمرحلة الدادائية على رغم غناها. فثمة اعمال اخرى تجعل منه احد كبار رواد الحداثة الشعرية في العالم. وفي الاساس لم تولد الدادائية اعتباطاً او قيصرياً. فقد ابتدعها تزارا اثناء وجوده في زيوريخ عام 1916 احساسا منه، الى جانب شعراء وفنانين تحلقوا حوله، بالقلق والاختلال اللذين تبعا الحرب العالمية الاولى، فجاءت انتفاضة دائمة ضد الفن والجمالية والفلسفة والاخلاق والمجتمع والانظمة، وحتى فضح المعتقد واخراجه من سباته. لكن الدادائية في موقفها العبثي او العدمي هذا، لا يمكن ان تنتهي الا الى دمارها. وكان ذلك في 16 ايار من عام 1921، حيث أغرق تمثالها في نهر السين، على غرار نهاية التكعيبية والمستقبلية. الا انها بعد عدميتها تلك، تصبح الممهد لحركة ايجابية هي السوريالية برئاسة اندره بروتون. ويجري اذ ذاك البحث، بعد الفضيحة والتمرد، عن اسلوب جديد لخلق معرفة جديدة. فكان ارتياد اغوار اللاوعي والانبهار بما يخزنه من الكنوز. وهنا تبدأ المرحلة الثانية لتزارا، حيث أنتج عمله السوريالي التحفة: “الانسان التقريبي”، هذه القصيدة الشلال، ذات التسعة عشر نشيداً، ولعل الاصح ان نقول هذا المشروع الشعري السوريالي الفذ، الذي يعتبر من اكمل انجازات السوريالية في زمنها، نظرا الى سعته، الى نفحته الشعرية الثابتة، الى مقاطعه التعزيمية، وطبيعته المعقدة (في ما يأتي ترجمة نشيدين منه).
ثم تأتي المرحلة الثالثة، بعد انفصال تزارا عن جماعة السورياليين ثم الانتماء الى الحزب الشيوعي الذي لم يدم طويلا، ثم مناصرته للثورة الاسبانية، ومساهمته في نشاطات المقاومة الفرنسية ضد الاحتلال النازي. هنا الشعر يصبح نشاطا فعليا، وليس ذهنياً او تعبيريا كما في مرحلتيه السابقتين. ولكن بدون ان يفقد كثيرا من زخمه. فمبدعه بعد مغامرته الشعرية الطويلة، عرف كيف يطوع ثورة الواقع في خدمة ثورة الكلمة. وإن قصيدة “ثقل العالم” المنشورة ترجمتها ادناه، احد نماذج هذه المرحلة. واخال ميشال ليريس قد اصاب بقوله: “فيما كثير من الشعراء ينظرون الى العالم، وكأنه لم يوجد الا لأجلهم، فان تزارا كان جد قريب من الاشياء، حتى ان قصائده تأخذ طوعا شكل تشابك مناجيات تنبجس من كل جهة. فنحن لسنا على يقين، عندما نقرأها، ان كان الشاعر هو الذي يتكلم، او بالاحرى نقطة دم، او جذع شجرة، او لمبة كهربائية او حصاة”.
الانسان التقريبي
I

الأحد غطاء ثقيل على غليان الدم
حِمل اسبوعي مُقعٍ على عضلاته
ساقط في طوايا ذاته قد عُثر عليه
الاجراس تدق بلا سبب ونحن ايضاً
دقي أيتها الأجراس بلا سبب ولندق نحن ايضاً
نسرّ لضجة السلاسل
التي نجعلها تدق في داخلنا مع الاجراس
*

ما هذه اللغة التي تجلدنا نقفز في الضياء
أعصابنا سياط بين ايدي الزمان
والشك يُقبل بجناح واحد عديم اللون
متلولباً منضغطاً منسحقاً في داخلنا
كالورقة المدعوكة لرزمةٍ محلولة
هدية عصر آخر ذي انزلاقات سمك المرارة
الاجراس تدق بلا سبب ونحن ايضاً
عيون الثمار تنظرنا بانتباه
وكل اعمالنا مراقبةٌ لا شيء في الخفاء
ماء النهر غسل كثيراً مجراه
يجرف خيوط الانظار الناعمة التي انجرّت
عند اسفل الجدران في البارات لعقت الحيوات
جذبت الضعفاء عقدت الاغراءات جففت النشوات
حفرت في عمق صيغ قديمة
وأطلقت ينابيع الدموع الحبيسة
الينابيع المسخّرة للاختناقات اليومية
والأنظار التي تأخذ مع الأيدي المجفّفة
نتاج النهار المضيء او الظهور المرتاب
التي تمنح غنى الابتسامة المهموم
ولولبت كزهرة في عروة الصباح
اولئك الذين يطلبون الراحة او اللذة
وملامس التردّدات الكهربائية الانتفاضات
المغامرات نار اليقين او العبودية
الانظار التي زحفت على طول الاضطرابات الحذرة
واستهلكت بلاط المدن وكفّرت عن سفالات
عدة في الصدقات
وتتعاقب متراصة حول اشرطة الماء
وتجري نحو البحار جارفة في طريقها
أقذار البشر وسراباتهم
*

ماء النهر غسل كثيراً مجراه
حتى الضياء ينزلق على الموجة الملساء
ويسقط الى القعر مع دويّ الحجارة الكبير
*

الأجراس تدقّ بلا سبب ونحن ايضاً
الهموم التي نحملها معنا
التي هي ملابسنا الداخلية
التي نلبسها كل صباح
التي يبليها الليل بأيدي الحلم
المزدانة بألغاز رمزية معدنية باطلة
المطهرة في حمّام المشاهد الدائرية
في المدن المهيّأة للمجرزة للذبيحة
بالقرب من بحار لكناسات الرّئايات
على الجبال ذات القساوة القلقة
في القرى ذات اللامبالاة المؤلمة
اليد ثقيلة على الرأس
الاجراس تدقّ بلا سبب ونحن ايضاً
نرحل والرحيلَ نصل والوصولَ
نرحل والوصولَ نصل إذ يرحل الآخرون
بلا سبب ضامرين قليلاً أشداء قساة قليلاً
الخبز الغذاء لا خبز يصاحب
الاغنية العذبة على سلّم أنغام اللسان
الالوان تُلقي حملها وتفكّر
وتفكّر او تصرخ وتبقى وتتغذّى
بثمار خفيفة تحوّم كالدخان
الذي يفكّر في الحرارة التي تنسجها الكلمة
حول نواتها الحلم الذي نسميّه نحن
*

الاجراس تدق بلا سبب ونحن ايضاً
نسير لنهرب من زحمة الطرق
مع قارورة مشهد طبيعي مَرضٍ واحد
مرضٍ واحد نُعنى فيه بالموت
أعرف أني أحمل النغم فيّ ولا أخافه
أحمل الموت وإذ أموت فإن الموت
يحملني بين ذراعيه الخفيّتين
الدقيقتين والخفيفتين كرائحة العشب النحيل
الدقيقتين والخفيفتين كالرحيل بلا سبب
بلا مرارة بلا ديون بلا أسف بلا
الاجراس تدق بلا سبب ونحن ايضاً
لماذا البحث عن طرف السلسلة التي تربطنا بالسلسلة
دقّي أيتها الاجراس بلا سبب ولندقّ نحن ايضاً
سندقّ فينا الزجاج المحطّم
عملة الفضة الممزوجة بالعملة الزائفة
بقايا الاعياد الضاجّة بالضحك والعاصفة
على الابواب التي قد تنفتح على الاغوار
القبورَ الهوائية الطواحينَ التي تسحق العظام الشمالية
تلك الاعيادَ التي تحمل الرؤوس الى السماء
وتبصق على عضلاتنا ليل الرصاص المذاب
*

أنا أتكلم عن الذي يتكلم الذي يتكلم أنا وحيد
لستُ سوى صوت ضعيف في طواياي أصوات كثيرة
صوت جامد مدعوك في مفرق طُرقٍ مرميّ على الرصيف الرطب
لأقدام الناس الذين يسرعون عادين مع أمواتهم
حول الموت الذي يمد ذراعيه
على ميناء الساعة الوحيدة نحو الشمس
نسمةُ الليل الغامضة تتكثّف
وعلى طول الأوردة تُنشد النايات البحرية
المنقولة على أوكتافات طبقات الوجود بأشكاله
الحيوات تتكرّر حتى اللانهاية حتى صغر الذرة
وفي الاعلى الاعلى للغاية الذي لا يمكننا أن نراه
والى جانب هذه الحيوات التي لا نراها
فوق البنفسجي لكثير من السبل الموازية
التي لم نتمكّن من سلوكها
التي استطعنا عبرها المجيء الى العالم
او الذهاب منه من زمن طويل جدّ طويل
ونسينا الزمان والارض التي امتصّت الجسد
والاملاح والمعادن السائلة الصافية في أعماق الآبار
*

أفكّر في الحرارة التي تنسجها الكلمة
حول نواتها الحلمِ الذي نسميه نحن
II

الارض تضغط عليّ في قبضتها قبضةِ القلق العاصف
حذار أن يتحرك أحد! يُسمع الوقت يُمهّد
لطيران ذبابة
والالتحاقِ بالنهار بحثاً عن نهاية
لنضغط بين فكوكنا على الدقائق التي تفصلنا
*

إرفعوا أيديكم! لتلقّي الملاك الذي سيسقط
ويتناثر ثلجَ حباحب على رؤوسكم
السماء أوهنتها الريح التي عصفت طويلاً
سنسدّد بالآلام ديوننا اللاتعدّ
*

المحطة تتضخّم بألعاب الصفارات
إراداتٌ جمة تعوم في الثقل النوعي المرير
ليَسقْ قرع الاجراس الموجَ القارض
وفوارتِ السخط الاسود والمخِمّ أحشاء
الارض المزبدة
ذات الأديم المخمليّ نحو أي أهداف شرّيبة آمال
نشتريها بثمن بذور بطيئة
آمالٍ مزدانةٍ بنعوت هيئات حرفية
نشربها في الموارد بمناخر أفراس شاخرة
نعيدها حلقات في المضامير القروية
ندخّنها في غليون العِقبان العتيق
نحضنها راعية للسطوح المدخّنة في الأماسي
مستَشَفَّة في الجليد محدوسة في قلب الحجارة
في أعماق آبار النفط على مفارش
من الطمْي الثقيل
في الاهراءات حيث الحياة تُقاس بالحبّة
حشايا اسفنج نقي للمياه الراسخة في الشمس
*

إنسان تقريبي مثلي ومثلك أيها القارئ
ومثل الآخرين
ركام أجسادٍ ضاجّةٍ واصداءُ شعورٍ
كاملٍ في قطعة الارادة الوحيدة اسمك
الذي يمكن نقله وتمثّله الذي صقلته انثناءات
النساء الطيّعة
متنوّع غير مفهوم وفق لذّة التيارات المستفهِمة
انسان تقريبي يتحرك حول المصير
بقلب كحقيبة وصِمامٍ كرأس
بخارٌ على المرآة الباردة تمتنع بنفسك
عن النظر الى نفسك
عظيم وتافه بين حلى من رقاق جليد المشهد
لكن الناس يُنشدون متحلّقين تحت الجسور
الفم مزرَقٌّ منقبض من البرد أبعد من اللاشيء
انسان تقريبي او رائع او بائس
في ضبابة العصور العفيفة
سكنٌ رخيصٌ العينان رسولتا النار
ليسأل كل واحد ولينهمك في فروة
مداعبات أفكاره
عينان تجدّدان عنف الآلهة الدمثين
تقفزان كانطلاق نوابض أسنان الضحك
إنسان تقريبي مثلي ومثلك أيها القارئ
وتمسك بين يديك كمن يستعدّ لقذف كرة
رأسك المليء بالشعر الرقمَ المضيء
*

باب الليل مغلق الى الابد ثمرة السيقان الجميلة
صليب طويل جدّ احتفالي على أريج الوردة
عند تخوم المساء المعرّى قميص النهار
فيما النفق يمدّد أكورديون نواحيه
تنزلق على سلك الخط الحديدي قوسُ
قطار المترو الطويلة
وفي الجهة الاخرى عوضاً عن الشمس ثمة الموت
الذي ينتظرك بضجة إعصار مفرقع بألف ذراع متفجرة
ممدودة إليك أنت الانسان الزهرة المنتقلة
من يدي البائعة الى ايدي العاشق والعاشقة
المنتقلة من يد حدث ما الى يد اخرى بلا إرادة
كببغاء حزينة
الأبواب تصطك اسنانها وكل شيء معدٌّ بنفاد صبر
لإخراجك بأقصى سرعة
إنسان محبوب سلعةٌ بعينين مفتوحتين ولكن
معصوبتين بإحكام
سعالُ شلال إيقاعٌ مقذوف كهاجرات وشرائح خريطة
ملطّخة بوحل الجذام والدم
الشتاء المنصوب على قاعدته قاعدة الليل البائس الواهن العقيم
يسحب غطاء غيومه الفضفاض على معرض الحيوانات البارد
ويمسك بين يديه كمن يستعد لقذف كرة
رأسَك المليء بالشِّعر الرقمَ المضيء
*

حركة الأيدي الدائرية تقدم الصورة للريح
عندليب حذر يغلق دائرة قناعتك
على ضوء الشكاوى الحاد تخدع نفسك
الأكثر سرية من الجميع هو أنت الأبعد
إنك تتعالى حتى التوافقات التامة على عوارض الصواري الفلكية
تتّخم بمسالك المحرّمات على مراقي الجلجلة
غيرتك تنبع من التوهم الضيّق
الذي يضغط الزمان في صرّة حياتك
لا تدرك الحياة الا بأمثلة مختبرة
بينما تشيخ بدون أن تعرف لماذا تصدأ مفصّلات رأسك
تتّسع المفاصل يتبلّل الأباء الشحيح كورقة تحت المطر
تشدّ بقوة زائدة على الباب بحيث تغرز اظفارك في اللحم
الحنجرة القاتمة حيث تتكدّس الغيوم
تتوق الآن الى مرجات الموت في محرقة هذيانها
على مدى النظر
والماء دائماً بارد عند مصب غراميّاتك
*

خطوط يديك الخشنتين التي رسمها ملاك عند ولادتك
في مسيره الخاص بك المُعْطى كل النجاحات الأرضية
قد طمستها مِدعكة حياتك الزائفة وأنت توسِّخ ما تلمسه
وتتمرّغ في الحشرجة والذهب كذبتي الحياة المتوهجتين
لم يبقَ غير غمّ الهرب الخائب
ومع ذلك فالليل يحلّ في حضنه عُقَد الجُرَيسات النجومَ
هياكل الصّقالات الموسيقية الموقعة المرمية بلا ترتيب
لكن الناس يتزاحمون متحلّقين تحت الجسور
وفي ألبومات الصور يقلّبون أماسيّ الحرّ الرديء
بين براعم مُرّة كثيرة انبتتها الذكرى حول السماط الثقيل
دافع بأسنانك عن قطعة أرضك في العالم كي تنام
من سبت الى آخر
مغفلاً ومهاناً في طعام طبقتك المحتقرة القديم
لكن الناس يُنشدون متحلّقين تحت الجسور
ويمزّقون عشَّ السحايا ويكشطون
كي يكشفوا عن ليمونة دماغهم الطريئة المخبّأة في المؤخرة
*

عند سَورة الثلج ليَفِضِ الآن بالنّدامات والعذابات
ليتدفق الدم فيك من أحدث فم فلكي
ولينتشر في كل خلية من السجون التشريحية
لتزرع الدقائق المزدحمة في كيس الرّئات الحقولَ
بمآوي المسنين السطوحَ ذات صفوف البليار العديدة
لتُزهر الجريمة أخيراً فتيّة ونديّة في أكاليل ثقيلة على طول المنازل
ولتُخصب بالدم المغامرات الجديدة حصاد الأجيال الآتية
العقبانَ الذائبة كالسكّر في فم السنين
مذيبة سكّر الأيام الماضية في قدَح المحيط
طائرة من زهرة الى أخرى مع بتلات جلدية على الأجنحة
حشرات او جراثيم محمِّلة بالألم الأسرَّةَ الفصولَ
النومَ الحامز قاطرةً أجسامنا كحيوانات الأشغال الشاقة
وجاذبة إيانا نحوها معلّقين في الحلم الجاذب برافعة
المرفأ السماوي
المرنة شمساً تعفّناً بلا غربان ولا ديدان
في البياض اللايُقهر النقيّ
(من مجموعة: L’Homme Approximatif)
ثِقل العالم

(مقطع)
أتقدم في بطء
السخط والحبور لا جدال حولهما
يوم بيوم وسنٌّ بسنّ
هوذا الآن الذي يتحرّك
الليل يقرع ناقوسه
إنها قباقيب اولئك الراحلين
في البحر يطرقون الأمواج بثقل أجسامهم
بقبضاتهم بكل معتقداتهم في الحياة
يزعزعون الأدراج اللا يُسبَر غورها
حقيقتهم بلا ثمن
إنها الضحك بلا استرخاء
تقود جُرأة العالم
ترفع الى النور
أكداس النور
المنتزعة من قُبلات أُشنة الغَمُون المخاتلة
إنها النشيد المسلح بأهداب النور
ليس سوى إنسان ليسمع
في ذروة الضوضاء
صراخ الرضيع الناعم
المستقبلُ يصرخ بشدة زائدة
والأمواج الساطعة
تكوّم الأضواء الصاعدة
ومحوطاً بألف لغة موعودة
استطعت ان أكشفك أيها الفرح
أن أبتكر انبهارك ثانية
حتى صورتك على الأرض
أُخفِيتْ عني تحت نفايات التقزّزات
أسمالِ الموت الوبائية

أتقدّم في بطء
رأيت العيون التائهة الحربَ
العيون المتوسلة المبعدة عن الحرب
العيون الجاحظة الحرب
العيونَ الجبانة العيونَ الحقيرة الخسيسة
عيون الصغيرات العاشقات
لكن لا تقلْ شيئاً عن عيون الامهات
فبريقها طالما
غشّى بريق عيوننا
كم ترقّبتْ كجدار من الصمت
إيابَ الصيادين
بجباه ملتصقة بزجاج النوافذ
العاصفة تزمجر في البحر
سِدادة قنينة شمبانيا سحّابة
والبرق على امتداد جسد امرأة عارية
واقفة على خطّ الأفق
الشمبانيا تدفق بغزارة
إنه عيدٌ بلا ضابط
الصندوقة الضخمة تُعوّم الأرض
ليقفز من يستطيع
تحوم تحوم العاصفة حولك
ثمة أناس من كل نوع
احدهم افلس المصرف
آخر يرفع على ركبتيه
الصغيرة
الراقصة الصغيرة هل تعرف الصغيرة
الحياة الكبرى اخيراً الكبرى
الأكبر ظاهرة للعيان
فيما تسقط المراكب
على الركب الواحد تلو الآخر
بأشد مما في المسالخ
كالذباب
اجسام متأرجحة
أذرع منتزعة
دموع لا تنضب
نعوش
وجوه بلا أنوف بلا افواه بلا آذان
أعدْ لي تنظيم ذلك
وليكن جلياً
لأوامرك يا جنرال
ثمة موتى ممزقون موتى من اجل لا شيء
موتى للضحك موتى ليّنو الجانب
لمَ لم ينتظروا الرقصة الكبرى
التي ستبدأ ها هي
تكاد تدرك
حرب الازرار السحّابات
حرب النيون الفالس الحيرة
الموت من الضحك
تقدمي ايتها الموسيقى
الموتى تخاريم
مشرّمون مرزومون مسيَّلون
مرميون نفايات
لا يهم النشيد الخاص
نشيد الحب نشيد الضيق النشيد الحيّ
لا يهم ذلك اوامرك يا جنرال
لا نشيد بعد ممكناً
الحب في سلة المهملات
وازالة الآلام الشفاءُ
بواسطة اثارة السحّابات
الم يقولوا لك
انه رقص جنوني
يا الرأس الخشبي
أسألك
هل هو الفالس التعبيري
يا الرأس الخشبي
يا صنبرة الشيطان
يا رأس الماعز
اتريد ان تضحك
في انطلاقة تلقائية
يا رأس القحبة
يا رأس البليار
يا رأس خط النقليات يا الرأس الخنزيري
يا الرأس الملكي يا الرأس العنيد
الحرب فوق رؤوسنا
ماذا
الحرب

ممن تهزأون
أتقدم في بطء
رأيت الرعب محفوراً حتى في شبكيّات الأعين
لأولئك الذين ماتوا ألف مرة في اعماق
أعين اصدقائهم
لأنهم ارادوا أن يبقوا أحياء
في اعماق بحر حاضر في كل الذاكرات
أعماق الألم
حيث الأحلام تجري خضراء متراكبة
في أذيال طويلة من الأشتات
عميق هو هبوب الريح بين الصخور
وطويل طويل تاريخ العذاب
أتقدم في بطء
طويل هو الليل
التاريخ بالنسبة الينا نحن الآخرين
قد شارف النهاية
قريباً ننتهي من الايمان بالألم
يجب ان نأخذ الحياة مجدداً
كما هي
وجهاً لوجه
طيبة كانت او شرسة
وبتودد دائماً
وأن نهزها من رأسها حتى القدمين
او ان نكلمها في لطف
وفق ما تقول وفق ما تفكر
ان نأخذها من وسط جسمها
أن نهزها كشجرة خوخ
وربما يجب ان نتعارك
حتى تبقى لنا الحياة نحن الرفاق
حتى يجد فيها كلٌّ مقاسه
مجبولاً بالأحلام مزروعاً بالطفولات
فالضياء الأول
يعمّ الجميع ولا اسم له

القمح لم ينضج بعد
الأذرع اكثر اصفراراً من الاشواك
في ريح الخريف

الكرمة لا تزال مهملة
والانسان اضجع بهاءه
عند شفير الهاوية

الشمس تهيئ كؤوساً هادئة
والغابات سوف تصفرّ
لعطش الخضرة المتفجّر
أينك يا الشباب الصاعد
ازهار البراءة البنفسجية
على الوجوه الناعمة

كزعيق زمّج الماء الضائع
قد أضعتك يا الألم العميق
الريح الليل

صحيح انني أتقدم في بطء
ولكن في كل وجه ضاحك
تكشّف سواد عين لعيني
يا حبّي
الحب الحاضر والآتي
ثقل العالم
(من مجموعة: De Mémoire d’Homme)

(تريستان تزاراالتقديم والترجمة: هنري فريد صعب)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى