إدوارد سعيد: المنفى والهوية.. الأنا والآخر
سعد محمد رحيم
لم يتحدد انتماء إدوارد سعيد بفضاء ثقافي بعينه.. لن تستطيع أن تنمِّطه أو تحصره في حيّز معرفي ما، مغلق.. فهو يمثل باختصار إرادة ونزق وطموح وتمرد المثقف الكوني ( الكوزموبوليتي ) الذي لا يمل من النظر بعيداً وعميقاً.. صحيح أنه تشرّب تقاليد الفكر الغربي، واستوعب الاتجاهات الأساسية في فكر الغرب ونظرياته ومناهجه الحديثة، واشتغل بمنظور وآليات تلك النظريات والمناهج. لكن أفقه ظل إنسانياً.. مدى تفكيره لم يقتصر على حالة اجتماعية أو سياسية أو أدبية بعينها، أو أطر اختصاص ضيّق، أو ظروف وتاريخ أمة معينة.. كان منحازاً للإنسان أياً كان جنسه أو عرقه أو مكانه أو عقيدته.. كان ملتزماً، حراً، ينفر من التزمت والتعصب.. كان إنسنياً بحق، يتحرك على الحدود المفتوحة ما بين الثقافات والهويات، حاملاً أسمى ما خلّفها التنوير من قيم نبيلة وأفكار، أهمها؛ الحرية والتسامح والعلمانية. وعلى الرغم من عاطفته القومية ( الفلسطينية ) ودفاعه عن قضيتها فإن إحساس المنفي لازمه على الدوام. وقد استشهد في كتاباته مرات عديدة بمقولة الراهب هوجو: “الرجل الذي يجد أن موطنه حلو، هو شخص مبتدئ غض، أما الذي يرى في كل تربة تربته الأم فهو شخص قوي فعلاً، إلاّ أن الشخص الكامل هو الذي يكون العالم أجمع، بالنسبة له، أرضاً أجنبية. فالروح الغضة تثبِّت حبها في بقعة واحدة من العالم؛ والرجل القوي يمد حبه ليشمل جميع الأماكن، أما الرجل الكامل فهو من أطفأ حبه”.
ومع هذا فإن فلسطينيته طبعت قَدَرَه ورؤياه. وفلسطين مثلما ينظر إليها لها رنين تاريخي ورنين توراتي. ولآلاف السنين كانت تعطي الشياطين والقديسين والآلهة، فهي “تقع في نقطة التقاطع ليس بين الأديان فحسب بل وبين الثقافات. تتقاطع ثقافات الشرق والغرب هناك؛ الهيلينية والإغريقية والأرمنية والسورية والشرقية، إذا ما تحدثنا بنحو عام، وكذلك الأوربية والمسيحية والأفريقية والفينيقية. إنها حالة فانتازية”. لذا فهي شيء يتحرر من أي صفة ضيقة.
هذا الموقع ليس افتراضياً محضاً.. ليس عائماً وسديمياً.. إنه مولود مكاني وتاريخي وثقافي في آن سيتمثل في وعي إدوارد سعيد ويمنحه شيئاً غير قليل من طابعه وأبعاده وسماته. وهناك كذلك مسارات تجربة حياته، تلك التي فرضت عليه على الرغم منه، وتلك التي اختارها .. تجربة الخروج والاقتلاع من مكان ولادته وطفولته؛ القدس. والدراسة في مدرسة إنكليزية بالقاهرة ( كلية فيكتوريا )، وقضائه فترات من مراهقته في لبنان، في سياحة صيفية مع عائلته الموسرة.. أماكن لا يستطيع العودة والإقامة فيها ثانية، لأسباب، ملتبسة، عديدة. ومن ثم منفاه الطويل، حتى مماته ( أيلول 2003 ) في أمريكا.. يقول؛ “خلفيتي عبارة عن سلسلة من الاغتراب والنفي لا شفاء منها أبداً، وإحساسي بأني معلّق بين ثقافات متعددة كان وما زال قوياً جداً. أستطيع القول إنه التيار الأقوى في حياتي: والحقيقة أنني داخل الأشياء وخارجها، لكني لست أبداً ( من ) شيء لمدة طويلة”.
إن ما هو شخصي خاص في حياته وماضيه يشتبك مع ما هو عام في إطار التاريخ الكولونيالي وما بعد الكولونيالية، وقد ألفى نفسه في عالمين، وبينهما.. في تلك الفرجات البينية الخلالية كما يسميها ( هومي بابا ).. بين هويتين أو أكثر، وثقافتين أو أكثر. مقتلعاً ومنفياً.. فلسطينياً ومواطناً يعيش في أمريكا ويحمل جنسيتها. ولكنه ظل أبداً يشعر أنه في غير مكانه، كاتبَ منفى قبل أن يكون أي شيء آخر.. يكتب في ( الثقافة والامبريالية )؛ “لأنني، ولأسباب موضوعية لا يد لي فيها، نشأت كعربي ذي تعليم غربي. وقد شعرت أنني أنتمي لكلا العالمين دون أن أنتمي لأي منهما انتماءً كاملاً منذ الزمن الذي بمقدور ذاكرتي استعادته.. إلاّ أنني حينما أقول ( منفى ) فلا أعني شيئاً ما حزيناً أو يعاني الحرمان. فعلى النقيض، فإن انتمائي لكل من الجانبين على الخط الامبريالي الفاصل، كما هو واقع الأمر، قد ساعدني على فهم كليهما بيسر أكبر”. ولأنه كان كاتب التمرد على الحواجز فقد بدا مقلقاً في هذا الجانب وفي الجانب الثاني، تحريضياً، معكِّراً للصفو العام، يقول الحق بوجه السلطة، مثلما أراد للمثقف المستقل أن يمثل نفسه، وأن تكون صورته في كتاب ( صور المثقف ).
لم يسجن ذاته داخل انتماء مسيّج. لم يختر لشخصه هوية محددة ذات جوهر صلب.. كان وضعه منفياً في ( المكان الآخر ) ووعيه الواخز بوضعه هذا يجعله على تخوم انتماءات أخرى دوماً، من غير أن يتنكر لأي منها.. قريباً بضميره من؛ المضطَهد والمحروم والمهمَّش والمهدَّد أياً كان وأينما كان.. كان يسارياً في السياسة. وجزئياً أليف ماركسية مشذّبة غير دوغمائية. لذا أكّد طوال الوقت على العلمانية لا بعدّها ضد دينية، بل ضد قومية كذلك. فالعلمانية “دعوة لإعادة التفكير من داخل نطاق الحاضر ما بعد الكولونيالي في سرد التقدم الذي يشكل أساس فكرة العلمنة نفسها. كما أنه يتضمن النظرة الثاقبة القائلة بأن القومية لا تمثل مجرد تسام على الاختلافات الدينية… لكن بالأحرى إعادة تشكيل توجهها وكتابة مفرداتها طبقاً لخطوط قومية. والنقد العلماني مصوّب ضد تقريرات ( تعيينات ) الديني والقومي المتبادلة، وضد تقسيم التجربة القومية غير المتساوي إلى مناطق يحددها الاختلاف الديني”. وقد استخدم اصطلاح ( الدنيوية ) مرادفاً للعلمانية وللعالم في نقده الأدبي، لا سيما في كتابيه ( بدايات ) و( العالم، النص، الناقد ). وفيهما أنكر محاولات فك ارتباط النص بالعالم، فلم يكن لمثله، في ضوء تجربته الخاصة، تبني التطرف البنيوي بقتل المؤلف وعزل النص وإقصاء العالم. يقول؛ “الدنيوية لا تأتي وتذهب.. فللنصوص ( بما في هذا المقطوعات الموسيقية والعروض ) طرائق للبقاء، لدرجة أننا نجدها دائماً، في أكثر حالتها نقاء، متشابكة مع الظروف والوقت والمكان والمجتمع”.
والمنفى الذي هو أشد الأقدار كآبة في نظره لم يزرع في نفسه عُقد الاضطهاد والتعصب. على العكس، فقد جعله يرى الضفاف كلها بأريحية، ولكن ليس من غير نقد. والصحيح أن نقده انطبع بطابع وضعه فهو حتى حين يؤكد أن خلفيته السياسية ونشاطه السياسي “كلها أمور موجودة في ( صندوق ) مختلف تماماً عن ذلك الذي أقفز منه كناقد أدبي أو بروفيسور”. لكنه يدرك مدى وقوة وحتمية الارتباط بين إنتاج الأعمال ( الأدبية والفنية ) والعلاقات الاجتماعية والسلطوية. والمسألة برمتها تغدو أكثر تعقيداً في النهاية. فهو لا يريد أن يتكلم عن انسجام موهوم.. تلك سذاجة وتبسيط لواقع، أو لعالم يغلي بالتناقضات والصراعات. حتى في حالة المرء الحامل لهوية مركبة. هنا، على وجه التحديد، عليه أن يلقي باصطلاح الطباق على الطاولة؛ منطلقاً كذلك من وضعه منفياً يقارن بين تذكّره لما خلّفه وراءه وبين تجربته الحاضرة. فالمصالحة صعبة، ولا يمكن اختزال الأمور إلى مجرد جناس لفظي.. يقول؛ “أعتقد أن الهوية مسألة خصامية أكثر من غيرها ـ كي لا أقول إنها منفرة. فكرة الهوية الواحدة. لذلك، فإن عملي عبارة عن هويات متعددة، عن أصوات متعددة النغمات، صادرة في الوقت ذاته، بلا حاجة إلى مصالحة، كما أقول، بل بحاجة فقط إلى من يجمعها معاً، أكثر من ثقافة واحدة، أكثر من وعي واحد، بالمعنى السلبي والإيجابي للكلمة. إنها غريزة أساسية”.
لم يجد من الملائم أن يظل حيادياً، بارد النظرة وتبريرياً في تقويمه لواقعة صراع الثقافات.. كان يقف في الفالق الإمبريالي، في زاوية الرؤية ما بعد الكولونيالية. ولكن في الوقت نفسه غارقاً حتى أذنيه كما يعبّر؛ “في مناطق متنازع عليها بين الثقافات. وأنا مع الأسف موصوم بذلك. بكلمات أخرى، أنا مخلوق تعتمد اهتماماته على الصراع بين الثقافة التي ولد فيها والثقافة التي يعيش فيها حالياً, وهذه ظاهرة غريبة من نوعها. المسألة ليست فقط في أنها ثقافات مختلفة.. بل هنالك حرب جارية وأنا أشارك فيها على كلا الطرفين. لذلك يصعب عليّ الحديث عن البين ـ ثقافية، التي توحي بسلامة العقل وتأمل هادئ”.
إن مسألة الهوية في الشرق تصبح ذات صبغة سياسة بقدر ما هي ذات طابع ثقافي. وهذه المسألة تتأكد في حلقة وجود الآخر ومواجهته. أي في لحظة الصراع.. ومن غير وجود الآخر لا أحتاج إلى معرفة وتأكيد هويتي، أو أن ذلك لن يكون ممكناً أبدا. وفي خضم صراع الهويات، والصراع على الأرض ومن أجلها، يصبح الحل دائماً في إيجاد تسويات صعبة ومؤلمة.. تسويات لا شك ستنطوي على خسارات وتنازلات من الأطراف كافة طالما أن إلحاق الهزيمة النهائية بالآخر هو في حكم المستحيل. وخلق الضحايا في أية عملية صراع لابد أن يُفقد المنتصر طعم النصر، يترك في نفسه مرارة حارقة وفي ضميره شرخاً موجعاً إن كان ينتمي للمجموعة الإنسانية حقاً، وله قلب وضمير. وفي مناسبات عديدة استشهد سعيد بمقولة إيميه سيزير؛ “ما من عرق يحتكر الجمال والذكاء والقوة، وهنالك مكان للجميع في لقاء النصر”.
بالمقابل أن تكون لك هوية يعني أن تكون لك سرديتك الخاصة المقنعة، تلك التي باستطاعتك أن ترويها.ً
يعيد إدوارد سعيد صياغة السردية الفلسطينية في ضوء، أو بالتناظر مع السردية اليهودية. إنه لكي يوضح ويؤكد سرديته فلا بد من أن يستعين بالسردية الأخرى.. إن سرده المضاد يتغذى من سرد الآخر المناوئ.. إنه يقر الجزء الرئيس منه، من ذلك السرد الآخر؛ ( لقد كانوا ضحايا حقاً ). غير أنه يعقّب؛ ( لكنهم ليسوا ضحايانا، لسنا نحن من اضطهدناهم وقتلناهم في أفران الغاز ) وإذن؛ ( لماذا لكي ينهوا شتاتهم يلقون بنا في شتات مشابه.. لماذا يجعلون منا ضحايا الضحايا؟ ).. يقول؛ “كنت صبياً، ونشأت في فلسطين جزئياً. أذكر معنى الرحيل. كيف رحلت عائلات بأكملها. من وجهة النظر تلك، إنه صراع بين أناس جاؤوا كضحايا، وأنتجوا بدورهم ضحية أخرى: أنتجونا نحن ـ نحن ضحايا الضحايا ـ وهذا خيار بالغ الصعوبة، لكنه في رأيي خيار مفروض على أساس الحقوق. لا يمكنك التعامل مع حقوق شعب على حساب حقوق شعب آخر”.
يوضح سعيد كيف تستنسخ الصهيونية “حجج اللاسامية ضد اليهود، كما كانت في القرن التاسع عشر، والقرن العشرين، بالضبط” في تبرير اضطهادها للفلسطينيين. وها هو يتحدث عن كاتب إسرائيلي ليبرالي هو آموس عوز، يبدو باحثاً عن حل للقضية المستعصية، والذي يرى في الاحتلال شيئاً سيئاً “لروحنا، وانظروا ما الذي يفعله بنا” يعلّق سعيد؛ “لا يهم ما الذي يفعله بالفلسطينيين الذين يموتون ويُضربون ويُعذّبون”. فآموس كما يصنِّفه سعيد “نموذج أصيل للدكتور جيكل والمستر هايد.. سيقول جملاً مثل؛ على الاحتلال أن ينتهي، نحن ضد الهيمنة على شعب آخر”. لكنه يعود ويهاجم أولئك الناس المضطَهدين ويلقي اللوم عليهم.
يبدو أنه كان لابد لفكر النهضة والتنوير والحداثة من قرابين وضحايا. والمغامرة المعرفية والحضارية والوجودية الأوربية العظمى كان ثمنها باهظاً وثقيلاً.. كانت قرابينها وضحاياها أمم بمئات الملايين من البشر. هذه الحركة التاريخية المهولة المسماة ( الاستعمار الكولونيالي ) هي التي وسمت الوضع العالمي خلال القرنين الأخيرين، وأوجدت تلك السرديات الواقعية التراجيدية، والتي ما زلنا نعاني من عقابيلها.
لا يستطيع الباحث ما بعد ـ الكولونيالي، والذي تشغله ( الهوية ) مفهوماً اجتماعياً وتاريخياً، و( الهوية ) هاجساً وهَوَساً شخصياً تجنب العودة إلى فرانز فانون. وكتابات فانون ظلت أحد مصادر سعيد الرئيسة في مسائل الاستعمار والهيمنة والمقاومة والهوية، مثلما ظلت مصدرَ المنظّرين الما بعد ـ كولونياليين مثل هومي بابا.
كان فانون أول من تنبه إلى المأزق الوجودي والنفسي والسياسي الذي يترشح عن فعل الاستعمار، والموقع الملتبس الذي يجد فيه كل من السيد والعبد ( المستعمِر والمستعمَر ) نفسيهما نتيجة ذلك. فالاستعمار خلق رضوضاً في نفوس المستعمَرين، لا شك. لكنه، كذلك، خلق رضوضاً في نفوس المستعمِرين.. كان المستعمِر والمستعمَر معاً، بعد انقضاء العهد الكولونيالي بحاجة إلى شفاء، إلى تطهر روحي ونفسي وفكري.. إلى مراجعة للذات والتاريخ.
يدرك فانون أن “ما يُطلق عليه في كثير من الأحيان الروح السوداء هو في حقيقة الأمر من صنع الإنسان الأبيض”. ليس هذا وحسب، ففي الحقيقة، وطبقاً لفانون مرة ثانية فإن “كل من الزنجي الذي تستعبده دونيته، والأبيض الذي يستعبده تفوقه يسلكان بالمثل تبعاً لتوجه عصّابي”.
من هنا يتحدد فضاء ( الهجنة ) ويفرض منطق ( الترجمة الثقافية ) نفسه على الباحث ما بعد ـ الكولونيالي بدءاً من الحاجة، كما يقول هومي بابا “إلى المضي بالتفكير أبعد من سرديات الذاتيات الأصلية والبدئية والتركيز على تلك اللحظات أو السيرورات التي ينتجها الإفصاح عن الاختلافات الثقافية. فهذه الفضاءات ( البينية ) تفسح المجال لبلورة الاستراتيجيات المتعلقة بالذات والذاتية ـ فردية كانت أم جماعية ـ الأمر الذي يطلق دواليل جديدة للهوية، ومواضع جديدة للتعاون، والتنازع، لدى القيام بتحديد وتعريف فكرة المجتمع ذاتها”. وبابا يطرح أمامنا سلسلة من المفاهيم المتآزرة التي توطد أطروحته النظرية كالفرجات الخلالية والهجنة البينية والانشطار والاختلاف والترجمة والهوية. والهوية في منظور بابا “من حيث تعيينها ليست نتاجاً قبلياً ولا مكتملاً، فهي ليست سوى تلك السيرورة الإشكالية الدائمة من النفاذ إلى صورة للكلية… ليست الصورة أبداً سوى ملحق بالسلطة والهوية؛ فلا ينبغي بأي حال من الأحوال أن تُقرأ محاكاتياً بوصفها مظهراً لواقع. وليس النفاذ إلى صورة الهوية ممكناً أبداً إلاّ بنفي أي إحساس بالأصالة أو الكمال”.
يقوم الانشطار بين تلافيف اللغة بفتح السبيل أمام ممكنات البلاغة والفرص الوافرة للتأويل. وكل حالة تأويل أو تحريف للمعنى، في الخطاب الكولونيالي تتوطد بمقتضيات المصلحة السياسية غير أنه ينطوي على ضدّه أيضاً، إمكانية نفيه أو دحضه. بالمقابل فإن التناظر الماثل بين ديالكتيك الطبيعة وديالكتيك التاريخ ( بالمفهوم الأنسني ) يوجب الحاجة إلى الآخر.. يوفر فرصة التجاذب، غير أن هذا يبقى مثالاً ممكناً، افتراضاً مطلوباً. بيد أن ما يهمّنا، هنا، هو الصورة المختلقة؛ حصر واعتقال الآخر في صورة ( دونية وساخرة ) لفقها التاريخ الكولونيالي بتواطؤ مع مخيلة مرمنسة جامحة لن تكون بريئة، في الغالب، حتى وإن كانت حسنة النيّة، فهي نتاج ذلك التاريخ نفسه.. تاريخ الهيمنة؛ خطابها وسلوكها، تسويغاتها وآثارها.
ومثلما قال دزرائيلي؛ إن الشرق صنعة ( حياة عملية ) فإن صورة الأنا والآخر، مثلما تُرى، واقعة ثقافية وسياسية.. صناعة تاريخ إشكالي.. ليس التاريخ المزعوم والمصمم سلفاً في ضمن تجريدات مركز علوي مفارق وإنما المؤسس بأيدي البشر وإرادتهم على وفق ما يذهب إليه فيكو.. من هنا تصبح صورة الشرق ملفقة، متوهَمَة أو مؤسطرة، قد تكون مفعمة بلمسات شعرية، إلاّ أنها مخترقة في العمق بنيّات السياسة وفرضيات إيديولوجيا المركزية ( الإثنية ) الغربية.. هذا الشرق المرسوم على وفق ما يستنتجه إدوارد سعيد من نظام المعرفة الخاصة بالشرق في أوروبا، في كتاب ( الاستشراق ) لا يعتبر “مكاناً بقدر ما يعتبر موضوعاً أو عرفاً أدبياً بمعنى أنه مجموعة من الإشارات والإحالات، وحزمة من الخصائص، وهي التي قد تنشأ فيما يبدو من قول مقتطف يُستشهد به، أو من شذرة من شذور النصوص، أو من اقتباس من عمل كتبه شخص ما عن الشرق أو بعض ما تخيله أحد الأسلاف، أو من مزيج من هذه جميعاً. فالكتابة عن الشرق تقدّم قصصاً خيالية تتضمن الملاحظة المباشرة أو الوصف في ظروف معينة، ولكن هذه وتلك تعتبر ثانوية تماماً، وفي جميع الأحوال لمهام منهجية من نوع آخر”.
في قلب هذه المعضلة/ الإشكالية متعددة الوجوه والمعقّدة فيما يخص الهوية يتحرى سعيد عن الأنا ( العربية ) وعلاقتها بالآخر الغربي ثقافة ً وسلطة.. ففي مقالته ( التمنع، التجنب، التعرف ) يقول؛ “إن من المستحيل أن نحدد بوضوح ما ينبغي أن تكون عليه الهوية العربية المنشودة ـ وهنا أفصل نفسي بشدة عن الذين يقولون ببساطة ينبغي أن نكون حديثين وفعالين ومتقدمين ومنظمين ـ فإن من الممكن القول بأن ما يعانيه العرب هو نمط وجودهم الهلامي في هذا العالم”.
تأتي هذه القراءة عبر رصد سياسي ومعرفي لما حدث حقاً في الشرق العربي إبان فترة الاستقلال، حيث فشلت النخب في استعارة شيء جدّي من حداثة الغرب، وفي بناء الدولة الحديثة، وفي مواجهة الآخر والتعاطي معه بفعالية. وأخيراً في تشكيل الهوية القومية.. يتحدث سعيد عن علاقة العرب وثقافتهم بالغرب وثقافته مشيراً إلى التمثيل المجازي الذي يستحضر صورة ( اعتداء جنسي ) في توصيف واقعة ( العلاقة ) تلك؛ “ولوج الثقافة الغربية في الثقافة العربية واغتصابها”.
لن تكون ثمة ولادة ثقافية ( طبيعية ) من وجهة نظر سعيد طالما أن العملية قسرية، إذ لا يحصل تمثل خصب، ولا هجنة خلاقة إن صح استخدام مثل هذه العبارة.. يقول؛ “إن العرب الذين عاشوا في ظل التأثير الغربي صابرين أم نائمين يُلقمون قيماً غربية ولا يتمثلونها، مرّوا من وضعهم كضحايا لهذا الاغتصاب إلى حال التكيف معه متذمرين حيناً ونائحين حيناً آخر إلى أن صاروا بالنتيجة أولاداً لهذا الاغتصاب”. حينئذ تفشل الثقافة ( العربية ) “في تحديد ذاتها تحديداً كاملاً. فالمجتمع لم يكبح الصراع داخل الجماعة ولم يدفعها إلى التماسك ولم يجعلها كياناً مختلفاً تمام الاختلاف أو يطلقها ضد الكيانات الأخرى”.
وإذن ما مآل الإنسان العربي، في سياق هذه العلاقة المضطربة، المختلة؟. إنه في النتيجة “شخص مغترب لا يحس أنه متأصل في هذه الثقافة أو تلك وهو نفسياً غير قادر على قلب الأشياء وعاجز عن محاولة اختراق المرجع السلطوي الذي يخنقه”.
ستكون صلة العربي بتاريخه خيالياً.. إنه تاريخ ليس ثمة استمرار فيه.. وهو ( أي العربي ) يستعيده كطيف، كان ملكه يوماً ما، واليوم هو من دونه.. يعيش غربته الوجودية والحضارية، ومحنته السياسية ـ الثقافية وإخفاقه في مشروع الحداثة.. يقول سعيد؛ “كانت خطيئتنا كمجتمع في تجنب أزمة الهوية، تلك اللحظة الحاسمة حيث يخلف الإنسان ماضيه وراءه واعياً متألماً، كيما يتمسك بالمستقبل. لماذا تركنا أنفسنا نطفو بشكل واضح كما تطفو قشور البرتقال على سطح البحر؟ لماذا لم نقل من نحن لأنفسنا وللآخرين على الصعيدين الجمعي والفردي؟ هذه هي الأسئلة التي ينبغي أن نجيب عنها قبل أن نباشر في عمليات التجديد الواسعة النطاق”.
* * *
في استكشافاته لمناورات الإنشاء الخطابي الغربي وأحابيله لعلّ إدوارد سعيد ذهب أبعد مما يجب.. لعلّه رسم صورة نمطية عن الغرب مثل تلك التي رسمها المستشرقون عن الشرق، وانتقدها بمقدرة سجالية عالية في كتابه المثير للجدل ( الاستشراق )، حيث فكك صورة الشرق الموهومة والمشوشة في ذلك الخطاب. حتى أن مستشرقاً من الصعب التشكيك بنواياه وأصالته العلمية مثل جاك بيرك انتقد سعيد لأنه “أدى خدمة مضادة لمواطنيه إذ جعلهم يعتقدون في تحالف مخابراتي غربي ضدهم”. أو أنه وقع في فخ ما يسميه صادق جلال العظم بالاستشراق المضاد. لكن ما يُحسب لسعيد، في نهاية المطاف، قدرته على لفت انتباهنا إلى جملة من المسائل الخفية الماكرة التي تحدث في مناطق التنافذ بين الثقافة والسياسة.. بين الحيادية الظاهرة للغة وعدم براءة مقاصد استخدامها.. بين المعرفة والسلطة.. وأيضاً لأنه صاغ سردية فلسطينية موازية ومضادة للسردية الصهيونية وطرحها بقوة في المحافل الثقافية والأكاديمية والإعلامية الغربية والأمريكية.
لقد أقلقه طويلاً ( باعترافه هو ) التنافر الموجود بين مقطعي اسمه إدوارد بوقعه الإنكليزي وسعيد بوقعه العربي. إلى جانب ازدواجية هويته كونه مسيحياً فلسطينياً عربياً يحمل الجنسية الأمريكية.. إنه “ليس عربياً خالصاً مثل محمود درويش” يقول مكسيم رودنسون، ولذا فهو مثقل بشعور عارم بالذنب، يحاول من خلال زخم كتاباته عن موطنه الأصلي، والتورط بقضاياه، التعويض عن ابتعاده عنه. وإن معلوماته عن منطقته ( تاريخها وأدبها ومدنها ) قاصرة.. هذا ما يلح عليه رودنسون.
بالمقابل جرى التشكيك بهوية سعيد وسيلة ً للنيل من صدقية أطروحاته. وقد رأت جهات إسرائيلية إن الإطاحة بسردية سعيد الخاصة عن مكان ولادته ونشأته ودراسته في طفولته ( سيرته الذاتية ) ستطيح بسرديته ( القومية )، لذا خُصصت أموال وجهود أفراد ومؤسسات للتحري في الوثائق القديمة بحثاً عن ثغرات وتناقضات وادعاءات غير صحيحة فيما يقوله ( سعيد )، حيث أُتهم بأنه “زيّف سيرته واختلق قصته وأنه لم يدرس في مدرسة سان جورج في القدس ولا يصح أن يسمّي نفسه لاجئاً فأهله غادروا فلسطين قبل أن تسقط مدينة القدس نهائياً في أيدي عصابات الهاجاناه عام 1948”. وسينبري كتّاب عديدون للدفاع عن إدوارد سعيد وهويته وتفنيد الرواية الإسرائيلية، كما نقرأ، ونفهم الأمر، في كتاب ( دفاعاً عن إدوارد سعيد ) لفخري صالح.
ولا ريب أن سعيد تعرّض إلى حملات من الانتقادات الظالمة، وقد تخطى انتقاد أفكاره من قبل مفكري الغرب والمستشرقين إلى انتقاد منهجيته العلمية والمدرسة النظرية التي ساهم مع آخرين في ترسيخ أسسها الفكرية والمنهجية. أقصد؛ المدرسة ما بعد ـ الكولونيالية. يقول راسل جاكوبي؛ “هل يسيطر منظرو ما بعد الكولونيالية وهم يتحركون خارج نطاق الأدب التقليدي إلى مجال الاقتصاد السياسي وعلم الاجتماع والتاريخ والأنثربولوجي، على تلك المجالات المعرفية أم أنهم يتلكأون في أنحائها؟ هل هم دارسون جادون للتاريخ والثقافة الكولونيالية، أم أنهم فقط يضيفون النكهة على كتاباتهم بإحالات إلى جرامشي والهيمنة”؟. حيث برزت انتقادات تتعلق بنطاق الاختصاص، أي اتهامه بأنه ارتاد حقولاً معرفية لا يحق له ارتيادها.. هذا ما قالوه وهو يكتب عن الاستشراق ويدلف إلى ميدان السياسة ويدبج المقالات عن الموسيقى. غير أن ألمعيته الذهنية وقدرته على الرؤية المنهجية النقدية، والمسائل التي أثارها، وتلك الردود كلها على أفكاره، والتي اضطر أصحاب الاختصاص كتابتها ضده ونشرها، تدحض تلك الاتهامات وتجعل من سعيد واحداً من أبرز المثقفين العالمين الذين عرفهم القرن العشرين وأكثرهم تأثيراً في الأوساط الأكاديمية والإعلامية والثقافية. وهو أبداً لم يدّعِ أنه يمتلك الحقيقة ويحتكرها. وها هو في كتابه الأنسنية والنقد الديمقراطي يكتب، ومن زاوية النظر الأنسنية كونها اتجاهاً معرفياً منفتحاً على العلوم الإنسانية المختلفة بأفق إنساني شامل؛
“صحيح أنه في مقدور المرء أن يكتسب الفلسفة والمعرفة، غير أن قابلية الذهن البشري لارتكاب الخطأ (بديلا من تحسنه المطرد) مستمرة مع ذلك. لذا يوجد في المعرفة الإنسانية دوما شيء غير مكتمل جذريا، شيء مؤقت وناقص وقابل للطعن والمجادلة.. وهو ما يصيب كل الفكرة الأنسنية بخلل تكويني مأساوي لا قبل لها أن تتخلص منه..يجب الاعتراف بالعنصر الذاتي في المعرفة والممارسة الأنسانويين والتصالح معه نوعا ما، طالما أن لا فائدة ترجى من محاولة تحويل الأنسنية إلى علم حيادي وحسابي”.
شيّد إدوار سعيد صرحه المعرفي في تلك المساحة المشتركة بين اللغة والثقافة والمجتمع والسياسة. وطالما كان ولعه في العمل المقارن، ليس في مجال الأدب وحده، وإنما في المجال الثقافي الأعم، متحركاً عبر الحدود، أفقياً أكثر منه هرمياً، معادياً الاختصاص الضيّق بشروطه الصارمة ومحدداته.. بورتريته الخاص؛ صورة المنفي، حيث المنفى حالة دائمة لا رجعة عنها. وحيث الحركة خاصية تكافئ التشرد.. وهو تشرد مبهم كما يحلو له تسميته. تنبثق منه مهمة فكرية مرتبطة بالنقد، بُعدها الأساس دنيوي علماني “عالم القرون والزمان والتاريخ”. وقد بقي إدوار سعيد، حتى آخر لحظة في حياته، مخلصاً لفكرته عن البديل اليساري الذي ينطوي على الحلول الممكنة والمعقولة والمقبولة ( إنسانياً ) لمشكلات العالم.
الحوار المتمدن