صفحات ثقافية

“كل الناس كاذبون” رواية لألبرتو مانغويل: السرّ حقيقة لم يُكشف عنها والكذب حقيقة زائفة

null
رلى راشد
يمكث الكاتب الكنديّ من أصول أرجنتينية ألبرتو مانغويل بين الإفراط والشغف. وهذا، يدركه أولاده الذين دأبوا ممازحته قائلين انه يتعيّن عليهم الحصول على بطاقة عضويّة في مكتبته الهائلة، لكي يستطيعوا تجاوز عتبة منزلهم! عندما تصبح الكتب حاضرة الى هذا الحدّ وجزءا من هوية مالكها، من السهل ان نتفهّم ان تلحّ عليه الرغبة في العبور الى طبقة المؤلفين. يعدّ مانغويل من بين المتخصصين العالميين في تاريخ القراءة، ويعبر العالم في عرفه من خلال المجلّدات، من طريق ما يزيد على خمسة وثلاثين ألفا منها يعيش في كنفها في مزرعة ريفية من طراز القرون الوسطى، في بواتييه الفرنسية. من منظار مانغويل لا يتأكد شيء سوى من خلال سكناه في الورق، من طريق تدوينه بين عارضتي غلاف، درءا لتعريضه للتشكيك والإرتياب والحذر. على خلاف مونتان الذي كان يقرأ نهارا ويكتب ليلا، يقرأ ألبرتو مانغويل عندما تخمد الأنوار ويكتب مع انبلاج الفجر. يحاول ان يستردّ في النوم قواه المهدورة في القراءة، وذاك النسيان للجسد وتلك النزعة الى التآمر عليه. في بحث “المكتبة ليلا” تعاطى مانغويل مع مسار تشكّل المكتبات وفحواها، وفي رواية “كل الناس كاذبون” التي صدرت أخيرا في إسبانيا، لدى دار “إيري. بي. أ.”، غرغر صوته في تجاويف التخابث الكلامي والنيّات الكامنة خلفه.
كتب ألبرتو مانغويل رواية على لغز وغرابة، لأن القراءة هي السبيل الى طرح الاستفهامات الصائبة في شأن الواقع الكاذب. قدِم في نيّة تخريبية مع نسيج من الضجيج والذكريات المتضاربة التي تستدعي رسم ملامح كاتب لاتيني منفي بإسم اليخاندرو بيفيلاكا. سقط من بارتلباي، صحبته الذين لحق بهم الاسباني انريكي فيلا – ماتاس الى عقر دارهم. إنه أحد “كتّاب اللاّ” المتوارين، الباحثين عن إنكار الآخرين لوجودهم. بيفيلاكا طيف من دون معرّفين عنه. ترك انتحاره في ملاذه في مدريد، في سبعينات القرن الماضي، دمغة ناتئة في ذكريات أربعة أشخاص عرفوه. هؤلاء أصداء متضاربة ومتكاملة ومنافقة في معظم الأحيان تسحب رويدا خيط الشرنقة التي تلفّ مسار الكاتب التراجيدي. يختار مانغويل التخييل بعد البحث لأن ثمة جوانب من الواقع يروق لها السخاء التخييلي، ترتاح للإبهام العميق والفروق الصغيرة. في الرواية نصدّق ولا نصدّق في آن واحد ما يتم إخباره ونؤخذ في مصيدة التفكير بأننا ندرك فعلا ما يحدث غير اننا عند مفترق الصفحات نرتطم ببراهين، من صنف آخر.
الإنكليزية لغة مانغويل النصيّة الأولى وهو لم يلتفت الى القشتالية إلاّ بدءا من “العودة”. ومع تبديل المناخ الكتابي بدّل كذلك قاموسه، ومذاق اكتشاف الأشياء. منح مانغويل الصحافي الفرنسي جان لوك تيرادييوس الذي يحقّق في حادث سقوط بيفيلاكا من شرفة منزله، حشرية هي ملعبه وحرفته. جعله نهما يلتفت الى الدقيق والحيادي والباطني. يسعى الصحافي الفرنسي في “كل الناس كاذبون” الى فقه حيثيات ما جرى للكاتب الأرجنتيني بيفيلاكا وتغدو شهادات أولئك الذين عرفوه السبيل اليتيم نحو الوجهة الأكثر احتمالا. تتمحور الحكايات المريبة والمتعددة النسخ على خاتمة العاشقات المزعومات وهي سيدة اسبانية، وكاتب أرجنتيني هو مانغويل نفسه يتلبّس دور حافظ أسرار بيفيلاكا، وكوبي يقسم بآلهة الآلهة، انه تقاسم معه الزنزانة خلال الحكم الديكتاتوري العسكري الأرجنتيني ناهيك بأحد المخبرين.
جرى هذا كله قبل ثلاثة عقود. يوم كانت مدريد حيّزا قاتما لم يكن قد تبدّد فيه الإنهاك المتأتي من أعوام قيادة “إيل كاودييو” فرنكو. أراد للصحافي ان يحقّق في شخصية لا تنتهي من تحديد نفسها. إنه كاتب وليس كاتبا، كاذب وليس كاذبا، مقدام ودمث وعلى خلق، ونقيض تلك الصفات مجتمعة. في منحى ما، بيفيلاكا الذي حابته الشهرة بعد نشره “في مديح الكذب”، موجود وغير موجود في ذكريات مجايليه. ذلك ان الإزدواجية عجوة تخييل مانغويل، وهو لا يهتمّ للنسبويّة، من قريب أو بعيد. في كفّنا جانب من الحقيقة فحسب، نموذج “تكعيبي” من الواقع.
في الحكاية أسرار جمّة، والسرّ صنو الكذب. السرّ حقيقة لم يكشف عنها، والكذب حقيقة زائفة. تقول الرواية اننا نقيم في مجتمع حيث الشائع هو الحقيقة الزائفة. من طريق نظرات المنفييّن اللاتينيين الى مدريد السبعينات، يوعز الكاتب الأرجنتيني بفظاعة الديكتاتوريات التي ليس في المستطاع أو من المجدي إزاءها “طمش الأعين”. لا يمكن مجتمعا ان يعاين نفسه صائبا تجاه نفسه إذا أغفل مجابهة فظاعاته الشخصية. هذه دعوة مانغويل. هربت شخصيات الرواية المحورية من الجزمات العسكرية في أميركا اللاتينية لتدفق في منافذ الرواية، ومن كل صوب. بيد انه لا ينبغي توقّع سرد لحكاية تراجيدية. تتشرب الحوادث مرحا وسخرية وتتورم أكاذيب متراصة بفضل الاقتناع باستحالة الحقيقة المطلقة. ما يسعنا معرفته من الواقع سيكون، دوما، مجزأ.
أنكبّ مانغويل على كتابة عمله قبل عقدين غير انه تخلّى عن طموحه لتقصيره عن تشذيب مناخ يلائم رواية شخصيّة مركبة. تكلّل الغلاف صورة فوتوغرافية لشاب لا يعرفه، يتدثّر بلباس من حقبة ولّت، صادفها مانغويل في منزل صديق كنديّ، فصادفته هي الأخرى واستوقفته. شكّلت الطلّة الفتيّة وحياً للرواية، في موازاة قصة طاردته مصدرها الكاتب غراهام غيبسون. روى غيبسون عن كاتب كوبي احتجزه نظام فيديل كاسترو، غير انه وفق في الفرار في اتجاه ميامي حيث نشر رواية. دغدغته مغامرة البطولة تلك، الى ان برهنت أرملة كاتب آخر قضى في الزنازين الكاستروية ان الرواية موضوع الإعجاب من أعمال زوجها وليست من مخلّفات الشخص الذي زعم امتلاكها. أخذت هذه الحادثة بالرواية الى مكان إضافي. جعلتها تتجرّع تغليفا وتورية وتتحامل على سهولة إرتقاء البيئة الأدبية ببعض الأسماء، وتفخيم من ليس في رصيده سوى حفنة جمل وشتات موهبة. يسأل مانغويل ما الذي يحضّ أحدهم على ان يسرق ابتكار غيره وان ينسبه إليه؟ أهو حبور النشر أم الشهرة؟ في رأيه، لا يقارن الاثنان بنشوة الكتابة ذاتها. في الرواية الأكاذيب والأسرار ظلال باسقة، حيث يرجع نثر مانغويل الجذوة الى الخزائن المرصوفة بذخا أدبيا قشتاليا من طريق شحنة ألغاز وإلتئام للتحايل والإبهام كما للاكتشافات والخيانات. وكلها ثقوب مشرّعة على التلصص. شخصية مانغويل في “كل الناس كاذبون” أرجنتيني يموّه هويته ويقدّم نفسه على انه فرنسي، يقرّ بخوفه وبمكابدته الاستهتار المزمن. وفي مساره الذاتي أحاط مانغويل الخصب الإصدارات نفسه بترف الأنواع. في أعقاب البحث والنقد والأنطولوجيا والترجمة والنشر، يسرح سرده في البوليسي والأدبي الصرف والتاريخي، ويخرج برواية عن المبعدين. فيها موت عرضي غير انه طوعي أيضا، وفيها خيانة هي فعل ولاء، ومخطوطة غير محتملة هي وليدة جمهرة من الكتّاب المفترضين، فضلاً عن سيدة ترى شهوانية قصوى في الشهرة الأدبية، بل تراها أعلى مراتب الشهوانية. نذكر كذلك رجلا محترما يتبيّن مغويا وآخر دنيئا ينتهي به الأمر الى أن يصير شخصا خارقا، ذا قسمات بطولية.
تنوء الرواية ببيئة ترتفع فيها أقنعة الأفراد. يقصّون حكاياتهم بتبجّح وادعاء فتزوغ القدرة على التقويم، وتتلاشى الوجوه الأصلية، خلف الستارات العازلة. المسلّمات مقنّعة بالأكاذيب، وتصير الابتكارات صدى للمغالطات، في حين يرتدي التخييل حلّة مقال الرأي. من خلال شطحاته يقبض بيفيلاكا على من يتقرّب من سطور مانغويل، غير ان القادر على قراءة الممحو الراكد في الفسحة الفاصلة، بين السطر وقرينه، هو من ينال في المحصلة، ترف الإمساك بمقابض النص. يعبق سرد مانغويل بإسبانيا كما كانت قبل ثلاثين عاما، إسبانيا عفاريت الماضي الفرنكوي التي شرعت تخرج من أقفاصها بفضل جرأة أحد قضاتها بالتازار غارثون، الذي أعاد تشكيل قضية إخفاء قسري لأكثر من مئة الف شخص، بدءا من نثار ذكريات منتهكة.
ما هي الحقيقة؟ وكيف ينقشع الموجع المنسي إراديا؟ يحترف العالم نزع جلده غير ان ثمة ثابتة لا تتبدل تلك التي جاء بها، قبل قرون، المزمور المئة والخامس عشر في التوراة والتي تقرض رواية مانغويل عنوانها: “كل الناس كاذبون”.

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى