مذكرات من وراء القبر
عناية جابر
أعكف حالياً، على قراءة المذكرات التي دونها، وتركها لنا أبي المتوفى منذ سنوات قليلة. كنت قرأتها منذ مدة واعمل حالياً على التدخل في عملية ‘توليف’ لبعض المقاطع المتنافرة. مذكرات من وراء القبر، هكذا أحسبها، مستمتعة برفقتها الحميمة، هذه الشاهدة المميّزة لرجل مُميز على وجه الخصوص. يوميات وأسرار شخصية واظب أبي على كتابتها في إقامته الأمريكية وفي وطنه لبنان.
لا يتحدث أبي في مذكراته عن تاريخ مُعيّن. أعني لا يُسجّل أرقاماً وتواريخ، لكن التاريخ يأتي عرضاً في يومياته ليلائم مُخيلته الأنيقة. يكتب أنه كان بحاجة الى غاية نافعة من خلال هجرته شاباً الى أمريكا، ويكتب أيضاً بأن هجرته تلك لم تكن بمعزل عن طبيعته الشعرية .
غداة وصوله الى ميتشيغن ـ يقول في إحدى الفقرات ـ وقع في حب صبية سوداء كانت تبيع الـ ‘هوت دوغ ‘ و’الآيس كريم’. بعد أن اشترى منها أعطاها منديله الحريري. كتب ((عند وصولي الى أمريكا للعمل، أول ما فعلته وقعت في الحب)).
هناك كُتّاب أستطيع أن اقرأهم وسط الصخب، لكني أحتاج الى الهدوء، كي أجلس الى أوراق أبي، وإلا يفوتني الكثير جداً من نبرته التي تتوارى خلف أسلوبه. جزء كبير من هذه الأوراق، وصف للبرد الشديد والثلج في ديترويت، وخوف من الموت وحيداً وبعيداً عن وطنه وأهله، لكنه يستدرك في النهاية قائلاً بأن ما من شيء يفنى وأن ـ بالنسبة له ـ لا شيء يتلاشى في الظل و’كل شيء عرفته في بيروت يعيش حولي، وحين يأتيني الموت فإنه لا يُفنيني، إنه يُصيّرني خفياً فحسب’. أبي في يومياته يقول بأن الإخفاء شرط للعبة الحياة والموت الأنيقة .
ميتشيغن، مدينة صناعية ـ يكتب أبي ـ ليست فائقة النظافة كما المدن الأمريكية الأخرى، وبرغم تلوّثها أراها نظيفة جداً بنظري أنا الغريب، الذي لا يرى ما خلف المظاهر الخارجية. هذا الأسبوع في طريقي الى العمل وإيابي منه، واينما ذهبت، أرى سلسلة من الملصقات ُتعلن عن حملة لمكافحة المخدرات. حتى المدمنون الظاهرون في هذه الملصقات يبدون مفروكين ونظيفين أكثر من كثيرين كنت أعرفهم في بلدي وأصادقهم.
ثمة ورقة كتب فيها عن حين أتى من أمريكا خصيصاً ليُشرف على حفلي الغنائي في الأسمبلي هول ـ الجامعة الأمريكية في بيروت: ‘طوال الوقت، كنت اصعد وأهبط الدرجات الثلاث الى خشبة المسرح، لكنني أثناء ‘التمرينات’ التي كانت تُجريها ـ يقصدني أنا ـ مع الموسيقيين، كنت أدور حول الخشبة ملقياً نظرة شاملة على كل شيء. كان البساط الشرقي الذي وضع لإضفاء جو حميم، مُرقّشاً باللون الأحمر، وعلت الزخرفة الزرقاء القناديل التي نُصبت هنا وهناك.
كنت أحاذر أن يُحدث حذائي الجديد أيّ صوت يثير بلبلة الموسيقى المتصاعدة برقّة، فيما أحكمت عناية قفل أزرار قميصها الأبيض فبدت كتلميذة تُلقي نشيداً أكثر منها مُغنية. تغنّي رافعة رأسها الى أعلى وكأنها تحاول تذكّر شيء ما، ثم تزيح بين لحظة واخرى خصلة من شعرها الغزير بعيداً عن جبينها المتعرّق’ .
عندما أعاود قراءة هذه الفقرة، تُبلل الدموع وجهي. ما السّر في ان جزئية فرعية من ذاكرته عن مُصاحبتي في المرات القليلة التي غنيت فيها على المسارح، قد أصبحت في يومياته نواة ذكرى راسخة حملها معه طوال عمره؟ في كتابته حزن غريب مُشتبك مع هذه الذكرى تحديداً. من جهتي، اذكر الملمح الجانبي لوجه ابي وهو يتفقد المكان، نظرته مُنشرحة، مُضيئة، مُنتبهة في زخم دورانها، وذلك التجلي النادر للرقة. ربما مر الوقت، بل الكثير من الوقت على هذه اليوميات، لكنني أقرأها الآن شفّافة وفورية، في المذاق الثري لاسترجاع صورة هذا الأب، على نحو لا يُمكنني، سوى مزيد الحزن على رحيله.
القدس العربي