»زهور وسارة وناريمان« لخليل صويلح: دفقة سردية واحدة
نذير جعفر
ثلاثة أسماء لثلاث نساء: »زهور وسارة وناريمان« ذلك هو عنوان رواية خليل صويلح الجديدة زمنيا وفنيّا (الصادرة عن دار الآداب في بيروت). وهو عنوان يحقّق وظيفته الإغوائية باقتصاره على التصريح بالمبتدأ في صيغة المعطوف والمعطوف عليه دون الخبر، فيثير بذلك تساؤل المتلقي عن حكاية هؤلاء النسوة، وعن العلاقة التي تربط بينهن، والحياة التي يعشنها، والمصير الذي يجمعهن. وهو ما يتكفّل بالإجابة عنه البرنامج السردي للرواية معزّزا بلوحة الغلاف التي تشي برائحة الليل والجسد والنزوات المجنونة.
وإذا ما انتقلنا من العنوان والغلاف إلى الإهداء بوصفه عتبة دلالية ميتانصيّة قد تلقي بظلالها أحيانا على النّص أو توجّه مسار القراءة باتجاه ما فسنجد العبارة التالية: »إلى رضوان الكاشف«. وعبر هذا الإهداء تحضر صورة وسيرة المُهدى إليه في الذهن والمخيّلة كونه أحد أهم مخرجي ومغامري السينما المصرية الجديدة، ما يهيئ المتلقي للربط اللاشعوري بينه وأحداث وشخصيات وأسلوبية الرواية.
ومن جملة الاستهلال يضعنا الراوي المحوري في صيغة المتكلّم على حافة التشويق عبر التلميح إلى علاقته الملتبسة بـ»سارة«: »شاهدتها أوّل مرّة في عرض مسرحي راقص.. كانت مثل طعنة خنجر في روحي ص٧«. ومن الصفحات الأولى نكتشف أنه ليس سوى مخرج سينمائي يبحث عن ممثلة لفيلمه المقبل، ممثلة تشبه المرأة/ الحلم التي ظلت تطارده سنوات عابرة في قطار صحراوي، وقبل أن تغيب تلقي نظرة من النافذة تشبه هبوب عاصفة مباغتة. وتبدأ أولى خيوط الحبكة برؤيته لتلك المرأة/ الحلم »سارة« في ذلك العرض المسرحي الراقص. ومن هنا تبدو العلاقة الخفية بين الشخصية الحقيقية للمخرج السينمائي رضوان الكاشف، وشخصيّة الراوي/ البطل »خليل« وهو الاسم الحقيقي الأول للكاتب نفسه الذي يتقنّع بقناع المخرج بوصفه شخصيّة روائية، ما يوهم بواقعية الأحداث والشخصيات من جهة، ويشير إلى توظيف لغة الكاميرا وتقنيات السينما في السرد الروائي من جهة ثانية.
تشكّل شخصية المخرج »خليل« بؤرة السرد المركزية، ومحور الأحداث عبر علاقته بكل من الشخصيات الرئيسة: زهور، وسارة وناريمان، والشخصيات الثانوية الخيطية: سالم نجم عبد الله »زوج سارة«، والمثقف البوهيمي الهامشي بوذا الدحاديل صاحب مقولة »الدنيا مرحاض«، والصحافي المرتزق كمال مراد الذي يعرّفه إلى ناريمان التي تعمل في أحد الملاهي الليلية بعدما انفصلت عن زوجها السابق »فريد«.
ضمن هذه الشبكة من العلاقات الخفيّة والمعلنة، وما بين الواقع والمتخيل، تتحرك شخصية الراوي/ البطل، ناسجة حبكتها الروائية الشائقة، ومقدّمة الشخصيات التي ترتبط بها عبر تقنيات القطع والاستباق والاسترجاع والمشهد البصري، وهي تقنيات سينمائية في المقام الأول وإن أصبحت من صميم اللعبة الفنيّة في أي عمل روائي حديث.
الحلم والفقدان
تقوم الحبكة الأساسية التي تنتظم من خلالها الأحداث وتتنامى الشخصيات والمصائر في هذه الرواية على الحلم والفقدان والبحث واللقاء. فمن خلال رؤية المخرج/ خليل للمرأة العاصفة في الحلم، وفقدانها في اليقظة، تبدأ رحلة البحث عنها، ثم اللقاء بها. وعبر هذه الرحلة/ الترسيمة تتكشف علاقاته بكل من زهور وسارة وناريمان.
فزهور التي تربطها به علاقة جنسية لا تشعر بوطأة خيانتها لزوجها سالم نجم عبد الله العسكري المتقاعد المحبط في ظل الهزائم العربية المتتالية، الذي يفتش هو الآخر عمن يصور عنه فيلما يرصد فيه بطولته في الحرب بعدما أصبح الآن عنينا وصاحب دكان في إحدى العشوائيات يبيع فيها الكحول والتبغ المهرّب! وسارة التي يقتحم عالمها بعدما رآها في العرض الراقص أشبه بالمرأة/ الحلم، المرأة/ الفراشة، يدخل معها في مناورة لتكون بطلة فيلمه المقبل دون أن يخفي تعلّقه الجنوني بها، فيبقى أسير رهانه عليها حتى النهاية، ما بين مصدق وواهم لما يحدث معه: »هل كنت حقا أبحث عن ممثّلة لفيلمي؟ أم أنني كنت بحاجة إلى امرأة خارقة مثلها، لطالما رأيتها في المنام، امرأة تشبهها إلى حدّ التطابق، أو هكذا يهيأ لي الآن ص٩«. أما ناريمان فهي ابنة اللحظة العابرة التي تقضيها معه برفقة زميله الصحافي المرتزق كمال مراد، وابنة شرطها الاجتماعي القاسي الذي دفعها إلى العمل راقصة في أحد الملاهي الليلية الرخيصة.
إنهن ثلاث نساء في امرأة واحدة، إحداهن »زهور« تمثّل الرغبة الجنسية في تفتّحها واندفاعها وتحطيمها لكل السدود والتابوهات. والثانية »سارة« تمثّل الروح في تألقها وانسجامها وتناغمها مع الجسد. أما الثالثة »ناريمان« فتمثّل الضحيّة التي تقدّم على مذبح الانحطاط الجسدي والأخلاقي في مجتمع ذكوري يمور بالتناقضات الاجتماعية والطبقية. وعبر تداخل صور النساء الثلاث يتشكّل سيناريو الفيلم المزمع تصويره في ذهن الراوي/ المخرج، والمتلقي أيضا.
وتمثّل هذه النماذج النسائية في مجملها إلى جانب نموذج المخرج السينمائي الشاب، ونموذج المثقّف الهامشي بوذا الدحاديل، ونموذج الصحافي المرتزق كمال مراد، ونموذج العسكري المتقاعد اليائس، صورة عن التحوّلات الاجتماعية والاقتصادية المتسارعة في المجتمع السوري، كما تهزّ الصورة الراسخة عن مكانة المخرج وبرجه العاجي، ونخبوية الفن والصحافة والثقافة، كما تبرز هشاشة التقاليد أمام ثورة الجسد والحاجة المادية والجنسية. وتعدّ حقولا بكرا للسرد الروائي الذي يتغيّا الكشف المبكر عن التيارات والتقليعات والموجات الجديدة التي تعصف بقاع المجتمع.
ومن خلال هؤلاء النسوة الثلاث ومحيطهن يصوّر الراوي بعين الكاميرا مشاهد بصرية يتراجع فيها الحوار ويتقدّم المكان مشهدا وفضاء للجسد، وخلفية اجتماعية للشخصية، فنتعرف إلى المساكن العشوائية على أطراف العاصمة التي تتبدّى فضاء ضاغطا لما فيها من فقر وتمرّد ومآس وتجاوزات. كما نتعرف إلى المسرح الراقص بوصفه فضاء فنيّا منفتحا لتحليق الجسد، وعلى الملهى الليلي بوصفه فضاء مغلقا ومثيرا للشـبهات والشــهوات الرجيمة في آن معا.
إن هذه الفضاءات المكانية مشبعة بظلال سيكولوجية جاذبة ومحفّزة على القراءة والكشف والاستمتاع، وبخاصة أنها لا تقدّم من زاوية غائية محدّدة بقدر ما تقدّم عبر علاقتها العضوية بالشخصية الروائية وتناميها. كما أنها فضاءات غير مستنفدة على مستوى الموضوعات والعوالم والأحداث والشخصيات.
السرد والكاميرا
ليس في هذه الرواية من فكرة محدّدة، أو حدوتة واحدة، أو حبكة تقليدية لها بدايتها وعقدتها ونهايتها، إنما هناك سرد بعين الكاميرا ينتقل من مشهد إلى آخر، ومن شخصية إلى سواها، ومن موقف يقوم على استرجاع الماضي إلى آخر يحدث في الراهن، وعبر هذا القطع والانتقال السريع بين المسافات السردية، يحرّض الراوي مخيلة قارئه لسدّ الفراغات والفجوات بين السطور، وملء البياض بين مسافة سردية وأخرى، وتشكيل المشهد الروائي الكلي بعناصره ودلالاته وإحالاته الاجتماعية والسياسية المتعدّدة.
وإذا كان المكان حاضرا بصوره المختلفة وحيثياته وخلفياته، فإن الزمن الروائي يبدو مائعا أو زئبقيا لا يمكن القبض عليه أو تحديده أو تلمس أثره وفعله في الشخصيات والأحداث، ما يجعل من هذه الرواية دفقة سردية واحدة، لا نهرا يمتدّ من المنبع إلى المصبّ. وهي بذلك تنضم إلى موجة الرواية السورية الجديدة التي تحاول الخروج عن السائد والمألوف، فتنجح حينا وتخفق حينا آخر.
إن ما يشوّق ويمتع في هذه الرواية، أو ما يسهم في تسويقها وترويجها، ليس الجسد وتداعياته الجنسية، أو الإسقاط الإيديولوجي على شخصية العسكري نجم عبد الله واتخاذه رمزا لعنانة الجيوش العربية وهزائمها المتتالية وما آلت إليه، أو المحاولة العبثية في المطابقة بين المؤلف الحقيقي وشخصيته المتخيّلة والمتخفية تحت قناع المخرج، إنما تلك العلاقة الحلمية الشفيفة الآسرة بين الراوي وسارة. العلاقة التي تنتصر للتناغم بين الجسد والروح، والفن والجمال، والإنسان وذاته، في فضاء حرّ لا تنتقص منه المواضعات الاجتماعية تحت أي ستار أو هدف كان. ولعل في ذلك عودة إلى أصالة الفن ونبل مقاصده من دون التفريط بحرية المبدع في اجتراح أسلوبيته الخاصة وتحطيم الأوثان التي تحدّ من إبداعه بدعوى الوفاء لتقاليد الرواية وحدودها الراسخة!
(كاتب سوري)