صفحات العالم

«دولة حديثة» وديموقراطية وفساد: العراق نموذجاً

null
نهلة الشهال
في سابقة نادرة الحصول، خصصت «لوموند»  الفرنسية مانشيت الصفحة الأولى من أحد أعداد منتصف الأسبوع المنصرم لشأن غير فرنسي، فخرجت تعلن أن «الفساد يفتك بالعراق: 23 مليار دولار اختفت». وهي كانت تستند، متأخرة بعض الشيء، الى برنامج التحقيقات الذائع الصيت، «بانوراما»، الذي بثته محطة «بي بي سي» البريطانية قبل ذلك بأسبوع، وعلى تقرير «منظمة الشفافية العالمية» حول الفساد في العالم، الذي صنف العراق ثالثاً في لائحة من 180 دولة، بعد… بورما والصومال.
وطالما كل شيء بات مؤدلجا في النقاش العام في المنطقة العربية، يتبع المثل العراقي – ومعادلاته في سائر المجتمعات – «حب واحكي، واكره واحكي»، أو ما يعبر عنه الشعر ذاك الذي يبدأ بـ»وعين الرضا عن كل عيب كليلة»، فلا بد من التوضيح أن «ترانسبارنسي انترناسيونال» (منظمة الشفافية) منظمة غير حكومية عملاقة، لا تنتهج الشيوعية ولا الاسلاموية، بل إيديولوجيتها المضمرة إصلاحية ليبرالية، وأن «بي بي سي» ليست جهازا إعلاميا وقع في غفلة من الجميع بيد «الثوار»، وأيضا أن برنامج «بانوراما» المذكور اعتمد على التحقيقات الأميركية المتتالية، وآخرها جلسة استماع للحكومة الأميركية «هي ذات نفسها» كما يقال بالعامية للتأكيد على الشيء، أذيعت في أيار (مايو) الماضي في واشنطن. وقيّمت الجلسة حجم الأموال المسروقة بـ 2،8 مليار دولار (فقط!). ذلك إنها اعتنت حصراً برصد ما يخص الأموال العامة الأميركية المخصصة لشراء مستلزمات القوات العاملة في العراق، وأهملت تماماً ما تغطيه فواتير وإن مُبالغ بقيمتها، واهتمت فحسب بالأموال التي لم يمكن تبيان مآلها، أي أنها تبخرت كما يتبخر الماء في صيف العراق القائظ. أما حساب الأموال العراقية المنهوبة فشأن آخر، كما هو التحقيق في انتفاخ فواتير أسعار الأسلحة والذخائر المورّدة، والتي تمر بشركات السلاح الأميركية العملاقة، أي بالقطاع الخاص في بلد الليبرالية المطلقة، هذا عدا فواتير الماء والخبز والهمبرغر والعصائر والحليب والخضار والفاكهة… إلى آخر ما يورّده متعاقدون أميركان للجيش الأميركي الذي لا يتناول أفراده إلا ما تنقله لهم الطائرات يوميا من الولايات المتحدة، ولا حتى «حبة طماطه» محلية، ولا من أسواق الدول المجاورة، على فرض أن كل ما ينبت وينتج في العراق ملوث، مثلاً. أنسينا «هاليبرتن» التي حظيت بعقود احتكارية للتوريد إلى العراق، وأيضا للعمل الاستثماري فيه، فارتكبت فضائح متتالية، كانت إحداها بحق الأميركان العاملين هناك وتتعلق بإيصال مواد غذائية فاسدة إليهم. ولكن هاليبرتن لم تُعاقب وما زالت عاملة بقوة في العراق. وهي لمحاربة آفة النسيان، كانت بإدارة السيد ديك تشيني حتى يوم تعيينه نائبا للرئيس عام 2000، مما يعني (أليس كذلك؟) أن الرجل بريء طالما لم يعد مديرها منذ ما قبل الغزو. أما آفة النسيان فتمحو الكتب التي تتحدث عن العلاقات المافياوية بين عالمي السلطة والمال، ليس في مكرونيزيا التي تصوت دائما إلى جانب واشنطن في جلسات الأمم المتحدة دون أن ينجح أحد في تعيين موقعها على الخريطة، بل في الولايات المتحدة الأميركية نفسها. تقول «بي بي سي» ان «الشركات يجري اختيارها من دون مناقصات وتقديم عروض ومن دون اعتبار اختصاصها، بل وفق صلات المتعاقدين بالحكومة الأميركية»، وأن اقتصاد حرب مع جيش أثريائه قد تكوّن في الولايات المتحدة، وذلك على حساب العراق، وعلى حساب المواطن والاقتصاد الأميركيين نفسيهما. وهناك حوالى 160 ألف «مدني» أميركي – وكلاء لسواهم من الكبار الذين لا يغامرون بأرواحهم – يتواجدون في العراق لشؤون إعادة الاعمار والأمن والبترول والقضاء… يعني من مرتزقة «بلاك ووتر» وحتى المستشارين الذين لا تخلو منهم وزارة، مروراً برجال الأعمال. وهؤلاء بقية حساب فسادهم «على صفحة»، أي على حدة، خارج الثماني مليارات المفقودة، لأن حجم الوثائق المطلوب التدقيق بها يتجاوز الـ165 ألف وثيقة، والعمل لم ينته بعد، مما يجعل ما هو على حِدة كثيرا جداً، رغم أن فضيحة الثماني مليارات ليست قليلة بذاتها، وإن كانت جزئية حتى من هذه الزاوية.
فضائح بنظر من؟ المعرفة الشعبية في العراق تدرك ذلك كله جيدا وإن غابت عنها دقة الأرقام والأسماء، وأعوزتها البراهين القابلة للتقديم في محاكم نظامية. يعرف العراقيون حجم وطبيعة المصيبة التي لحقت بهم، وجاءت تستلِمهم يداً بيد من ثلاثة عقود من الديكتاتورية الدموية الساحقة والحروب العبثية المجنونة والحصار الدولي المدمر. وأما همهم الأول فمحصور بالبقاء على قيد الحياة. فهل يُلام فقراء العراقيين إن لم ينجحوا حتى الآن في تنظيم صفوفهم لمحاربة الفساد بفعالية؟ مع أن الأصوات بل التجمعات – النقابية على الأخص – التي تعلو ضد هذه الحال ليست في الظروف القائمة بالشيء القليل. وهل يُستغرب أن تصيب عدوى الفساد حتى المواطن العراقي البسيط، حين يرى فتاتاً «نانوسكوبياً» متاحا أمامه، فيعم نظام الفساد، ويدّعي من يتناولونه أنه آفة أخلاقية؟
فهناك باب ثان للفساد لا يقل جهنمية عما سلف. فالسيد نوري المالكي حل في الصيف الماضي لجنة النزاهة العامة التي كان يرأسها القاضي حمزة الراضي – بل واتهمه بالفساد. والراضي اليوم لاجئ فقير في واشنطن، بفضل تدخل أصدقاء أميركان له، على رأسهم مستشاره السابق السيد ماتيل، فعلها تضامنا معه ربما لأسباب إنسانية (فلو خُليت قُلبت)، وربما ضبطاً لمزيد مما يمكن أن يفضحه. وهذه أخبار «سي بي أس» وليس راديو هافانا. يقول السيد ماتيل الذي كُلّف برئاسة لجنة المحاسبة والشفافية في العراق التابعة للحكومة الأميركية: «حفظتْ الإدارة الأميركية تقرير القاضي وشهادته بعد الاستماع إليه في الكونغرس في تشرين الأول (أكتوبر) 2007». يسأله الصحافي لماذا؟ يجيب لأن فيهما أشياء «محرجة للغاية». وهو يضيف أن قسما من الأموال المتسربة يصل إلى يد الميليشيات التي «تقتل العراقيين والأميركان»، أي أن الفساد يطال كافة الوزارات والمسؤولين، بلا استثناء على ما يلح عليه، ويفيض إلى «الأعداء» الذين يمولون عملياتهم بهذه الطريقة. وأما بعض الوزراء ومساعديهم الذين اشتبكوا مع السيد المالكي وفروا من العراق، فيعيشون بأمان رغم بيانات الانتربول، وبعضهم كما توضح الوكالة، يعيش في الولايات المتحدة حيث قابلهم الصحافي. بل يحكي ماتيل كيف أن كوندوليسا رايس أجابت رئيس لجنة الكونغرس المكلف بالاستماع لراضي حين سألها عن قرار المالكي تعليق أي تحقيق في الفساد من دون إذنه: «أوافقك سيدي الرئيس، هذه مسألة كبرى»، فما انتم فاعلون؟ يسألها، «سأعود إليك بالجواب». وهو ما زال ينتظر. وفي الأثناء، علق المالكي بموجب سلطاته الممنوحة ذاتيا 48 تحقيقاً خلال الأشهر الستة الماضية. وكان الراضي قدّر حجم النهب من المال العراقي بـ18 مليار دولار، نذكر أطرف قصصه، الأسلحة البولندية الخردة من زمن حلف وارسو، والتي تتكرر اليوم مع الأسلحة الصربية! وليس المالكي وحده من يصدر قوانين الصمت، بل سبقه بوش وفق بانوراما، عبر الـ»gagging order». أما «لوموند»  فتقول مستندة إلى البنتاغون إن الميزانية المخصصة «للحرب على الإرهاب» عام 2001 كانت 527 مليار دولار، منها 406 مليار للعراق (مسبقاً!). ولكنْ صُرف مبلغ إضافي من 602 مليار دولار، ثلثاها للعراق. ويضيف الاقتصادي الأميركي وحائز نوبل جوزيف ستغليتز أن كلفة العراق تتجاوز 3000 مليار دولار! وأما «الاندبندنت» البريطانية، المشبوهة باليسارية ومعاداة غزو العراق، فقالت أن «الإدارة الأميركية تتخذ رهينة لها 50 مليار دولار من الأموال العراقية الموضوعة إلزاميا في البنك المركزي الأميركي، كما كل العائدات المتعاظمة من النفط، والمحمية بمرسوم رئاسي من بوش يحصّنها ضد مفاعيل البند السابع من قرار مجلس الأمن (الذي ما زال مطبقا على العراق!)، لإجبار الحكومة العراقية على توقيع المعاهدة الإستراتيجية معها»، وأنه إذا لم توقّع المعاهدة، فسيخسر العراق آلياً 40 بالمائة من احتياطيه المالي عبر رفع «الحصانة» الرئاسية الأميركية… أي أن ذلك عدا كونه وسيلة للضغط، فهو باب آخر للنهب!

الحياة     – 22/06/08

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى