الفلسفة في النص الروائي
خليل النعيمي
يكفي أن نتذكر أن الكاتب، وهنا، فيما يخصنا، الروائي: سقراط صغير . إنه مُوَلِّد. لكنه لا يولِّد الأجساد، ولا المقولات، وإنما الحكاية.
ولكن ما هي الحكاية؟
إنها الفلسفة وقد صيغَتْ بلغة الحياة.
الحياة، في الحوض المتوسطي ، منذ القرون الأولي، دارت ثقافتها، أو بمعني أكثر إخلاصاً للتاريخ، دار نشاطها الثقافي، حول محور أساسي، واحد، وإن بدا متعدد الاتجاهات: هو محور الاعتقاد/ اللااعتقاد، بغض النظر عن موضوع هذه العاطفة الانسانية الأولية. والذي سيتطور لاحقاً إلي محور: المعقول / اللامعقول فلسفياً، ومن بعد إلي : مفهوم الأخلاقي، ونقيضه. أو بكلمة واحدة إلي: الجسد والروح.
وهذه المفهومات التي يتوالد بعضها من بعض ليست مفهومات سكونية، ولا هي معطيات مجردة، غير محسوسة. إنها موضوعات حقيقية. تحرِّك الحياة، وتتحرَّكُ فيها، وعَبْرها.
وهي، مثل الكائنات الحية التي أنتجتْها، تنتقل من حال إلي حال، ومن مكان إلي مكان. أعني من مجرد الاعتقاد إلي الممارسة، ومن الشرق إلي الغرب، وبالعكس، عبر المتوسط الجميل الهادئ. وفي هذه النقطة بالذات يلعب النص الروائي، كحامل للفكر الفلسفي، دوره الأساسي.
لنتأمل معاً، أوائل القصص الانساني المتوسطي، منذ ملحمة جلجامش في أور القديمة، علي أطراف بغداد اليوم التي دمّرها بوش هولاكو العصر الحديث ، ومنها إلي كتاب الموتي الفرعوني، فــ الالياذة والاوديسة لهوميروس و أوديب ملكاً لسوفوكل.
لنتذكر حي بن يقظان لابن طُفيل، و رسالة الغفران للمعري، و الكوميديا الإلهية لدانتي، و دون كيخوتة لسرفانتيس، و ألف ليلة وليلة علي سبيل المثال لا الحَصْر.
وحديثاً يمكننا أن نستدعي أعمالاً روائية كبري تتسم ببعد فلسفي عميق، مثل : الطاعون لكامو، و أولاد حارتنا لنجيب محفوظ، و العمي لسراماغو، و كتاب اللاطمأنينة للبرتغالي العظيم فرناندو بيسوا، وهو كتلة من النصوص التي تجمعها موسيقي روائية عميقة الدلالة والتميّز.
وثمة أعمال روائية أخري كثيرة مترعة بالفكر الفلسفي المتوسطي، حتي وإن ولدت بعيداً عنه، مثل الاخوة كارامازوف لدوستويفسكي، و لعبة الكريات الزجاجية لهرمان هيسه، و الانسان الذي لا خصال له ، لموزيل، و موبي ديك لملفيل، مثلاً. فليس من الضرورة ان تتبلل بالماء لتكون متوسطياً.
لندع أنفسنا تسبح في نصوص المتوسط الفلسفية التي كانت تنتقل كالأمواج بين ضفتيه، روائياً.
في النص الروائي تمتزج معرفة الله بمعرفة الذات، وتتوحَّد الفلسفة والحكاية. أو بمعني آخر، تغدو الحكاية هي فلسفة الحياة. وأهمية النص الأدبي المحمّل بالفلسفة تكمن في أنه يمكن إعادة انتاجه إلي ما لا نهاية. حيث يغدو شخصياً، أو خاصاً، كلما كتبه روائي جديد، في حين يظل الفكر الفلسفي المحض مجرداً ، حتي وإن بدا كونياً، وبالتالي محدود الاستعمال.
الخاص، والكوني! ولكن مالفرق بينهما؟
النص الروائي يبتعد، عامداً، عن الفلسفة المهيكلة، أو الخالصة، إذن، ليشرحها بشكل أفضل، ولكي يعممها علي مَنْ هم غير قادرين علي فهمها فلسفياً. وعلينا أن نوضح، أن الدين، والفلسفة، والعلم، ثلاثي الانسانية الذي لم تتجاوزه إلي الآن، هو الذي يتعلّق به الأمر عندما نتكلم عن الفلسفة في النص الروائي . وهذا الثلاثي مطروح بقوة في أدب الحكاية المتوسطي منذ البدء وإلي اليوم.
الاختلاف البيّن في أشكال القص المتوسطي يتبع الأولوية التي تضفيها الانسانية في عصر من العصور علي أحد محاور هذا الثلاثي الذي لا يتغيّر (متي يتغيّر؟). فبعد أن كان الدين، أو الاعتقاد، سائداً في البداية، وكانت الاسطورة هي المعبّر الأسمي عنه، احتلت الفلسفة فيما بعد مكاناً أساسياً في النشاط القصصي، وتلاها العلم، وإن اختلف مدي الانتشار والتعمم من محور إلي آخر. والأولوية تنطلق، أو تعتمد، غالباً، علي مبدأ ضرورة الحقيقة . وهذه عندما كانت مطلقة انتجت الأساطير، وبعد أن صارت، اليوم، نسبية، تفتَّتَتْ أهمية حكايتها، وبدأ النص الروائي ينحو منحي آخر.
وإذا كانت المحاور الثلاثة تأخذ أهميتها من كونها قد تشترك لتكون تعبيراً عن هوية جَماعية ، فإن الأدب، والنص الروائي منه بشكل خاص، يعتبر، دون مواربة، تعبيراً عن هوية فردية . وهذه يمكن أن تتعارض بقوة مع الهوية الجُموعية أو الجَماعية، وقد تحاول أن تزيحها عن عرشها التقليدي لتحل محلها، كما يحدث اليوم في المجتمعات الفائقة التصنيع، حيث أصبحت الفردية مشروعاً انسانيا مسيطراً.
الانتقال من الذاتي إلي الموضوعي في الدين والفلسفة والعلم يتحوّل عبر سحر الكتابة، في النص الروائي، إلي النقيض: أي من الموضوعي إلي الذاتي. لكنه ليس ذاتياً منغلقاً علي الفرد، وإنما هو منفتح علي الانسانية. وأفضل تمثيل له هو النص الروائي الذي ينجزه كائن مفرد، بعد أن ابتلع معارف عصره، وعاش حياته بشكل جاد ومبدع.
فإذا كانت مناهجنا، أو معاييرنا، أخلاقية، فإن تصوُّراتنا، ومُثُلنا، أدبية. وكثيراً، ما ألهم الأدبُ الفكرَ الفلسفي. ويكفي أن نستحضر ، مثلاً، شكسبير ، و دوستويفسكي و سوفوكل ، وغيرهم كثيرون، وأن نبحث في أعمالهم عن أثر الأدب علي الفلسفة، وعلي مشتقاتها، لنقتنع بدور الأدب في نقل الفكر الفلسفي، وفي تعميمه. وهو ما يمنح الأدب طاقة حيوية تجعله يساهم في تغيير المفاهيم والكائنات.
من وجهة النظر هذه، سنجد أنفسنا ممتلئين بالقلق والانتكاس ازاء الأعمال الروائية العربية المعاصرة التي تكاد أن تخلو تماماً من الأبعاد الفلسفية المؤثرة علي الحياة، وبخاصة بعد أن صارت، تُكتَب، في معظمها، وفق الصيغة الغربية ، المغرقة في التفاصيل والجزئيات التي لا يربط بينها خيط فلسفي واضح، يمكن أن يُستفاد منه، وبخاصة، بعد أن صار تقليد نمط الحياة الغربي، وثقافته، هو الاوتوستراد المسلوك، بامتياز، عربياً.
ومن العبث أن نبحث عن تحرر سياسي دون تحرر فلسفي، أولاً، وأدبي.
روائي من سورية يقيم في باريس، وهذا نص مداخلة القاها في ملتقي: الفلسفة والمشترك الحضاري في حوض المتوسط بمدينة فاس.
القدس العربي
21/03/2008