مصيبة ف. س. نايبول
صبحي حديدي
نشرت أسبوعية الـ اوبزرفر البريطانية، يوم أمس، حواراً مطوّلاً مع الروائي وكاتب الرحلات الإنكليزي ـ الترينيدادي الأصل ف. س. نايبول، بلغ أكثر من ستة آلاف كلمة، وانطوي أيضاً علي رصد موسع لسيرة حياته الشخصية والأدبية. ورغم أنّ مقدّمة الحوار تشير إلي سلام من نوع ما ينوي الرجل إبرامه مع العالم،
أخيراً، فإنّ حكاية الفقرة الأولي لا تفيد سوي التذكير بمزيد من الغطرسة والتصنّع والتكاذب: في تشرين الاوّل (أكتوبر) 2001 اتصل هوراس إنغدال، باسم الأكاديمية السويدية، ليزفّ البشري المنتظَرة بفوز نايبول بجائزة نوبل للأدب. ولقد ردّت زوجته علي الهاتف، وتلقّت الخبر، لكنها خيّبت أمل إنغدال (الناقد والمؤرّخ الأدبي والمترجم السويدي، الذي يحدث أيضاً أنه الأمين الدائم للأكاديمية) في أن يتحدّث مباشرة إلي نايبول: إنه مشغول، قالت السيدة، ولا يمكن إزعاجه!
كان الأمر سيبدو مفهوماً لو صدر عن رجل مثل صموئيل بيكيت (بقي مختبئاً في فندق تونسي قصيّ، بعيداً عن صخب الإعلام، حين بلغه النبأ عن طريق ناشره الفرنسي وصديق العائلة)، لكنّ رفض مثل هذا التكريم الأدبي الأعلي، الآتي من مؤسسة غربية عريقة، ليس من شِيَم نايبول، ولم يكن التعفف قرين ابتهاجه بجوائز سابقة: جائزة الـ بوكر (للعام 1971، وكان بين المحكّمين صول بيللو، جون فاولز، والليدي أنتونيا فريزر)، وجائزة و. هـ. سميث، وجائزة بينيت، وجائزة ت. س. إليوت، وجائزة دافيد كوهن، فضلاً عن لقب الفروسية من ملكة بريطانيا.
حكاية التكبّر هذه ما كانت ستبلغ أسماع روبرت ماكروم، كاتب الحوار (الذي اختار لمادّته، ليس من قبيل المصادفة العشوائية علي الأرجح، العنوان الدالّ المستمدّ من رواية جين أوستن الشهيرة: كبرياء وتحيّز )، إلا عن طريق نايبول نفسه، أو أهل بيته. ولكن، في المسائل الأخري الجدّية، الثقافية والسياسية والفكرية، لا يبدو أنّ كبرياء نايبول قد عقدت سلاماً من أيّ مستوي مع العالم خارج جدران بيته اللندني المنيع؛ كما أنّ تحيّزه العصابيّ ضدّ ثقافات العالم غير الغربي عموماً، ما يزال علي حاله… أو أسوأ! ولعلّ هذا هو السبب في أنّ ماكروم يحرص علي اقتباس اثنين من ألدّ ناقدي نايبول: الراحل إدوارد سعيد، والشاعر الكاريبي ديريك ولكوت.
وكان ولكوت، حامل نوبل الأدب للعام 1992، قد أطلق عبارة ثاقبة لا تتقادم مع الزمن، لأنها تظلّ ذات دلالة راهنة: لو كان موقف نايبول من الزنوج، بكلّ ما ينطوي عليه من مفردات السخرية القذرة، منصبّاً علي اليهود مثلاً، فكم من الناس كانوا سيمتدحون صراحته ؟ هذا عن الزنوج فقط، فكيف إذا كانت سخرية صاحبنا تشمل أبناء جلدته أيضاً، وأبناء المستعمرات السابقة، والآسيويين إجمالاً، وتسعة أعشار المسلمين أينما كانوا وأيّاً كان لون بشرتهم؟ عبارة ولكوت تذكّر، أيضاً، بالهوّة الشاسعة التي تفصل الموقف النقدي من أعمال نايبول، بين عالمَين: مديح واسع النطاق تغدقه عليه الأوساط الغربية (البريطانية والأمريكية بصفة خاصة)، فتضعه في مصافّ كبار كتّاب عصرنا؛ وهجاء شديد يتردد في القارّات الثلاث (آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية) ويبلغ حدّ اتهام نايبول بانفصام الهوية وكراهية الذات والنفاق والتزلّف.
من جانبه، رأي سعيد أنّ كراهية نايبول للإسلام دفعته إلي الكفّ حتي عن التفكير، بمعني ما، فأصبح عوضاً عن ذلك حالة انتحار ذهني تجبره علي تكرار الصيغة ذاتها مرّة بعد أخري، وهذا ما أسمّيه مصيبة فكرية من الدرجة الأولي . وفي مراجعة لعمل نايبول الشهير في أوساط المؤمنين: رحلة إسلامية ، 1981، يوضح سعيد أنّ هذا الرحالة يأتي إلي بلدان الشرق محمّلاً بانحيازين مسبقَيْن: الأوّل ضدّ ثقافة أهل البلد، والثاني ضدّ تحرّر البلد ذاته من الإستعمار الغربي! المصيبة التالية أنه يتقصد التعامي التامّ عن أحداث عظمي عصفت بالبلدان التي يزورها، فلا هو رأي جرائم الجنرال ضياء الحقّ في الباكستان، ولا مجازر تيمور الشرقية في أندونيسا، وإيران عنده مجرّد بلد علي حافة الهستيريا!
وثمة هنا ما يبلغ حدّ اصطناع المزيد من العتمة علي رحلات تعلن أنّ مسعاها هو تسليط الضوء علي مجتمعات مصر وإيران والباكستان وماليزيا وأندونيسيا، كما بيّنت الباحثة السورية رنا قباني في كتابها اللامع أخيلة إمبريالية: أساطير أوروبا عن الشرق . إنه، تقول قباني، يخشي أن لا يعود ناجياً من رحلة الشرق هذه إلا إذا نفي كلّ ما يراه، مختزلاً إياه إلي منطقة عتمة قصيّة يُرثي لها. وهذا الخوف، الذي ينتج التحيّز واليقين المعادي، يحدّ من إدراكه ويغرّبه عن المشهد الشاخص أمامه.ولهذا فإنه يعود من رحلته دون أن يتغيّر، إلا نحو الأسوأ ربما، في هذا الافتقار إلي التحوّل .
وحوار الـ أوبزرفر يبرهن أنّ تحوّلاته الثقافية والفكرية والأخلاقية، وربما الأدبية أيضاً (بدليل ما يشنّه من هجاء لفنّ الرواية!) ما تزال ضحية مزيج من تورّم الذات وتضخّم المخاوف في آن معاً. كذلك فإنّ أمراضه العتيقة ليست آخذة في التفاقم فحسب، بل هي حال لسانه الذي يُفلت المزيد من النعوت القدحية في وصف مجتمعات شاءت أقدارها أن لا تولد غربية أوروبية: بربرية، بدائية، قَبَلية، لا عقلانية، ساكنة، بلا تاريخ، بلا مستقبل، طفيلية، مقلِّدة، عاطفية، جاهلة، حمقاء…
القدس العربي
17/03/2008