بكر صدقيصفحات ثقافية

“لطيفة هانم” لإيبك تشالشلر صراع زوجي على السلطة

null
بكر صدقي
تصدر قريباً عن دار قدمس بدمشق، سيرة حياة لطيفة هانم، زوجة الزعيم التركي الراحل مصطفى كمال أتاتورك، بقلم الكاتبة إيبك تشالشلر. هنا قراءة أولى في الكتاب الذي بلغ عدد صفحاته الخمسمئة.
يتمثل غنى الكتاب في تلبيته طلبات متنوعة؛ فمن جهة أولى، لدينا سيرة حياة أقرب إلى الكمال، تراوح أسلوب الكاتبة فيها بين النص السردي المتألق تارة، والتوثيق التاريخي البحثي أخرى، لشخصية أثارت الجدل في حياتها وبعد رحيلها، سواء بالنظر إلى دورها المستقل أو في علاقتها مع مصطفى كمال. ونلاحظ بهذا الصدد ميلاً كبيراً لدى المؤلّفة إلى التركيز على أهمية بطلتها بمعزل عن علاقتها بزوجها، وذلك من منطلق نسوي (فيمينيست) واضح، الأمر الذي لم تسع إلى إخفائه. ويمكن تلخيص تقييمها للطيفة أوشاكي بأنها امرأة مثقفة نشأت في بيئة منفتحة وثرية أقرب إلى نمط الحياة في الغرب الأوروبي، وأنها صاحبة أفكار أصيلة تمحورت حول قضية تحرر المرأة وفقاً للمعايير الغربية، وأنها لعبت دوراً سياسياً مهماً في خدمة هذه القضية وقضية تحديث تركيا ذات الإرث العثماني الإسلامي معاً. لكن القارئ يخرج بانطباع لا يطابق هذا التحليل، فسوف نرى، مع الكاتبة، أن دور لطيفة هانم في الحياة العامة انتهى عملياً بطلاقها من أتاتورك، وإن حاولت الكاتبة تبرير ذلك بحملة التشويه التي تعرضت لها »السيدة الأولى« ومحاصرتها ـ حتى الاستخبارية ـ من قبل أجهزة طليقها. يزداد هذا الانطباع قوةً حين ندخل في تفاصيل الحياة المشتركة للزوجين، فنلاحظ أن الفتور العاطفي سرعان ما أعقب الفترة القصيرة الأولى من العواطف الملتهبة، ليبدأ صراع حقيقي »على السلطة« داخل العلاقة الزوجية، بين شخصيتين قويتين لديهما معاً نزوع قيادي تدخلي، انتهى إلى نتيجته المحتومة أي الطلاق، بعد سنتين ونصف سنة فقط.
من الواضح أن لطيفة كانت ذات شخصية مستقلة، لديها أفكارها الخاصة، مثقفة وذكية وطموحة. هل كان بوسعها، مع هذه المواصفات، أن تلعب دوراً مهماً في التاريخ الثقافي أو السياسي، لو افترضنا أنها لم تقترن بمؤسس الجمهورية التركية؟ لا يتيح التاريخ إجابات لهذا النوع من الأسئلة، ويزداد الأمر صعوبة إذا تعلق بامرأة. فالنظام القائم على أفضلية ذكورية لا يترك للمرأة هامشاً يذكر »لتكون نفسها« بمعزل عمن تختاره زوجاً. فيما يمكن أن نطمئن إلى الإجابة بارتياح نسبي عن مصائر الرجال بمعزل عمن يتزوجون.
ومن جهة ثانية، يلبي الكتاب حاجة غير مشبعة، في المكتبة العربية، إلى معرفة التاريخ التركي القريب. فالكتاب يركز على مرحلة مفصلية شهدت قيام الجمهورية التركية الحديثة على أنقاض الإمبراطورية العثمانية، ويدخل في كواليس السياسة في قمة السلطة، فنتعرف على أدوار أهم الشخصيات التي قادت حرب التحرير ثم استلمت السلطة في البزة العسكرية، والصراعات التي دارت بينهم إلى أن استتب الأمر لمصطفى كمال وصديقه الوفي وخليفته من بعده عصمت إينونو. اللافت في الكتاب بهذا الصدد، أنه يوثّق مواقف للزعيم التركي تكشف عن وجه استبدادي تآمري شديد الصلافة والقسوة، الأمر الذي كان سبباً لمحاكمة المؤلفة إيبك تشالشلر، في عام ،٢٠٠٦ سنة صدور الكتاب، بدعوى الإساءة إلى أتاتورك، وإن انتهت المحاكمة بتبرئتها. أقول لافت، لأن الكاتبة واضحة في إخلاصها لمبادئ العقيدة الكمالية، وخاصةً منها مبدأ العلمانية. وربما حرصاً منها على تجنب اتهامات مماثلة، أسندت روايتها لكل الأحداث والمواقف الهامة لمرجعين على الأقل، وتركت لنفسها هامشاً ضيقاً للتعليق والانحياز إلى رواية دون غيرها، معتمدة على المحاكمة المنطقية في توكيد أو تفنيد هذه الرواية أو تلك.
قصة شقيق لطيفة »منجي« تصلح مثالاً: حين تزوج أتاتورك لطيفة كان منجي صبياً صغيراً يلاعبه الصهر في حضنه ويحبه. مرت السنوات، وكان أتاتورك طلق لطيفة في غضون ذلك، وكبر منجي وأصبح طالباً في كلية الحقوق. في إحدى المناسبات التقى زوج أخته السابق وبادر إلى إلقاء التحية عليه. سأله أتاتورك عن دراسته وأخباره وما إلى ذلك. ثم سأله عما يريد أن يصبح. فأجابه منجي أمام الحاشية المرافقة: »أريد أن أصبح رئيس الجمهورية«. بعد أشهر على هذا اللقاء، قتل منجي برصاصة طائشة.
ويلبي الكتاب، ثالثاً، حاجة ثقافية بإلقائه الضوء على أنماط السلوك والملبس والعمران في إزمير وأنقرة واسطنبول، وعدد من المدن والبلدات الصغيرة في تركيا، لحقبة زمنية طويلة تمتد من عشرينيات القرن العشرين إلى سبعينياته، فضلاً عن التنوع الإثني والديني والمذهبي في تركيا، ودور الصحافة والثقافة في علاقات القوة في قمة الهرم السياسي.
يمكن، أخيراً، قراءة الكتاب بوصفه فصلاً من سيرة حياة مصطفى كمال نفسه، منظوراً إليه في مرآة سيرة لطيفة. فالكتاب يتضمن معلومات غزيرة عن الملامح الشخصية لمؤسس الجمهورية، وقصصاً عن حياته الشخصية والعامة، وأسلوب قيادته لشؤون الحكم.
إنه سفر غني وممتع، يحكي حكاية امرأة تقلبت بين الحب وعذاب الهجران، بين ذروة المجد وحضيض التهميش والتشويه، دفعت ثمن طموحها من حب حياتها، فخسرت الاثنين معاً.
(كاتب سوري)
السفير الثقافي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى